رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما جريمة هذه الفتاة؟

أنا وأنت وهو شعرنا بالحزن لانتحار طالبة جامعة العريش «نيرة صلاح».. فتحت النيابة تحقيقًا فى الواقعة، استمعت لأقوال الطالب والطالبة المتهمين بابتزاز نيرة وانتهاك حرمة الحياة الخاصة لها، ثم أصدرت قرارًا بحبسهما على ذمة التحقيق كما نعرف جميعًا، قالت النيابة إن الفتاة تعرضت لضغوط نفسية لأن زميلتها سرقت محادثات خاصة من على هاتفها ثم أرسلتها لزميلها الذى هدد بنشرها على جروب الدفعة.. من السياق نفهم أن نيرة انتحرت خوفًا من الفضيحة أو يشتبه فى انتحارها حتى الآن.. وقد حاول بعض الصفحات الإساءة إليها بإفشاء سر خطير وهو أنها مرتبطة بشاب يعمل عامل توصيل طلبات.. وسؤالى الآن: لو افترضنا أن نيرة صلاح لم تنتحر.. ما هى جريمة هذه الفتاة التى توجب فضحها على الملأ؟ أو ما هو السلوك المنسوب إليها الذى جعل زملاءها يتخيلون أن معرفة الناس به ستكون فضيحة تهدد مستقبلها.. وتخيلت هى أن الموت أفضل من معرفة الناس لهذا السلوك؟.. سنخمن معًا فى إطار ما يفهم من بيان النيابة.. هل كانت مرتبطة عاطفيًا بشاب فى سنها؟ وماذا فى هذا.. إن هناك ملايين الحالات فى جامعات مصر المختلفة لزملاء وزميلات يرتبطون عاطفيًا، لأن هذه طبيعة هذه السن وطبيعة هذه المرحلة، ومن ينكر هذا كاذب ومنافق، وكثير من هذه العلاقات ينتهى بالزواج، وكثير منها لا ينتهى ولا يسىء هذا لأطراف هذه العلاقات قيد أنملة.. ما هو الافتراض الثانى؟ إن نيرة أخطأت مثلًا وخافت من العاقبة؟ أنا سأفترض جدلًا أنها أخطأت.. إن حسابها وقتها يكون عند ربها علام الغيوب وستار العيوب، لا أحد يملك سلطة محاسبة العباد على ذنوبهم سوى الله سبحانه وتعالى، وربما كان العبد المخطئ أفضل عند الله ألف مرة من الذى يظن أنه لم يخطئ.. من هو المذنب فى هذه الحادثة؟ المذنب الحقيقى هو المجتمع الذى يسير للوراء لا للأمام، ويحارب التطرف الدينى سياسيًا، لكنه ينسحق أمامه اجتماعيًا وثقافيًا، إن كل القيم التى تحيط بهذه الحادثة مثل «تجريم العلاقات العاطفية» و«انتهاك الحياة الخاصة» و«عدم الاعتراف بالحرية الشخصية» و«استخدام العنف لحل الخلافات» هى قيم تخلف حضارى بامتياز، والمشكلة أننا نريد أن نتقدم اقتصاديًا ونحن غارقون فى التخلف الاجتماعى، والحقيقة أن التقدم «شروة واحدة» لا يمكن أن نأخذ منه جزءًا ونترك جزءًا، المواطن الذى يريد أن يتمتع بمستوى حياة مشابه لمستوى الدول الصناعية الحديثة عليه أن يتحلى بقيم المجتمعات الصناعية الحديثة، عليه أن يحترم الحرية الشخصية، والخصوصية، ويؤمن بأن حساب كل فرد عند ربه لا عند الآخرين، هذه القيم فى مجملها هى قيم «الحداثة»، وعكسها هى قيم «التخلف» التى تطل علينا من كل شبر فى هذه الحادثة التى دارت أحداثها فى الجامعة! مثقفو عصر النهضة فى مصر ناقشوا هذه العلاقة بين التقاليد التى تربينا جميعًا عليها، وبين الحداثة الوافدة علينا والتى لا تقدم بدونها، كانت أبرز الأعمال التى ناقشت القضية رواية «قنديل أم هاشم» التى زاوج فيها طبيب العيون بين علم الطب وبركة زيت القنديل الذى يضىء مسجد السيدة زينب «أم هاشم» فى إشارة لضرورة المزاوجة بين الحداثة والتقاليد القديمة.. المؤسف أن يحيى حقى كتب روايته عام ١٩٤١.. وما زلنا عاجزين حتى الآن عن المزاوجة بين التقاليد والحداثة، تقاليدنا لها وجه إيجابى وعاقل ومحترم، فنحن نؤمن بثقافة الستر، والتضامن، والعفو عند المقدرة، وحرمة البيوت و«الولايا» أى النساء، ولكن للأسف حتى الوجه الإنسانى لتقاليدنا أهملناه لحساب الوجه الوحشى، والمتخلف، الذى يدوس البشر تحت عجلة النفاق والكذب والاستقواء.. فى الحادثة وجه مأساوى آخر وهو أن الطالب والطالبة المحبوسين كانا يعاقبان الضحية على أنها أفشت سرًا يخصهما، وهو أنهما مرتبطان عاطفيًا! لماذا؟ لأن المجتمع يجرم العلاقات العاطفية فى العلن، ويرحب بها فى السر، وكأن المشكلة ليست فى أنهما مرتبطان، ولكن فى أن يعرف الناس ذلك! هل يوجد نفاق اجتماعى أكثر بشاعة من ذلك؟.. غريب جدًا أن يكتب إحسان عبدالقدوس رواياته فى الخمسينيات انتصارًا لحق الفتيات فى الحب.. وأن نكتشف بعد سبعين عامًا أن الفتيات لدينا لم ينلن هذا الحق حتى الآن.. بل إن طالبة انتحرت خوفًا من أن يعرف الناس أنها أحبت شخصًا ما.. سواء كان شخصًا يستحق حبها أم لا.. لا تقدم اقتصاديًا دون تقدم اجتماعى.. وعلى المجتمع أن يختار.