رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سياحة أم صناعة؟

هناك جدل صحى على بعض وسائل التواصل منذ يومين.. الجدل عنوانه «صناعة أم سياحة؟»، وسببه رأى لإعلامى شهير قال فيه إن الزراعة والصناعة لم تنجحا فى مصر خلال عقود، وإن علينا أن نجرب السياحة.. الرأى استدعى ردودًا عديدة من مصريين ذكروا تجارب صناعية ناجحة لمصر فى عهود مختلفة.. هذا نقاش مهم وصحى، والحقائق فيه متداخلة.. أولى هذه الحقائق أن رأى الإعلامى الشهير يخصه وحده، ولا يعبر عن موقف الدولة التى تعبر عنها تصريحات مسئوليها وأفعالهم، وثانية هذه الحقائق أن الدولة تهتم بالصناعة اهتمامًا بالغًا، من خلال مبادرة «ابدأ» التى تقوم فكرتها على دعم الصناعة وتطويرها وإيجاد صناعات بديلة للمنتج الأجنبى، ولها فى هذا نشاط يستحق الإعجاب، وثالثة هذه الحقائق أن صادرات مصر غير البترولية قد شهدت زيادة معقولة فى العامين الأخيرين؛ لولا أزمة الدولار التى حدت من استيراد مستلزمات الإنتاج، والتى وجدت طريقها للحل أخيرًا، ورابعة هذه الحقائق أن السياحة لا تتعارض مع الصناعة كمصدر للعملة الصعبة لأنها هى نفسها «صناعة»، ومشروع مثل رأس الحكمة، مثلًا، سيؤدى إلى تشغيل مئات الصناعات حتى بنائه من الحديد والأسمنت والدهانات إلى أصغر مستلزم من مستلزمات البناء والفندقة.. وخامسة هذه الحقائق أن كلام الإعلامى عن تطور صناعة السياحة لا يخلو من وجاهة، لأن ثورة الطيران والإنترنت وسهولة التنقل أحدثت انتعاشة جبارة للسياحة على مستوى العالم فى آخر عشرين عامًا، ومصر لا بد أن تأخذ نصيبها من هذه الثورة السياحية الآن.. تمامًا كما سعينا للحاق بالثورة الصناعية فى عهد محمد على باشا، ثم مرة أخرى فى عهد جمال عبدالناصر فى ستينيات القرن الماضى، وسادسة هذه الحقائق أن مصر منذ بدأت النهضة عقب الحملة الفرنسية مرت بثلاث مراحل؛ أولاها مرحلة الاستثمار الزراعى وقد نجح نجاحًا هائلًا حتى ما قبل الحرب العالمية الأولى، من خلال زراعة محاصيل استراتيجية تصدر بالعملة الصعبة، ثم المرحلة الصناعية منذ الأربعينيات وظهور صناعات مصرية، مثل غزل المحلة، وصناعات أجنبية على يد مستثمرين أجانب أسسوا اتحاد الصناعات، ثم تأميم الصناعات ومحاولة الإضافة إليها فى ستينيات القرن الماضى.. هذه التجربة لم تكتمل لسبب ذاتى، وهو أن المجتمع الصناعى لا بد أن يحكمه العلم ويؤمن بالتجريب، ونحن مجتمعات يحكمها الدين ولا نؤمن بالعلم المجرد، وثانيًا أن التجربة الصناعية على يد القطاع الخاص أجهضتها قرارات التأميم ١٩٦١، وأن التجربة الصناعية على يد القطاع العام أجهضتها نكسة يونيو، ثم الإهمال فى إدارة القطاع العام وعدم تطويره أو الاستثمار فيه، ثم ظهرت فى التسعينيات صناعات نتميز فيها بميزات نوعية مثل الحديد والأسمنت وغيرهما، لكنها لم تحول المجتمع إلى مجتمع صناعى، ولم تحول الصناعة إلى مصدر أول للدخل القومى وإن ظلت تستحق التحية والتطوير والدعم.. من دروس التاريخ مثلًا أن الخديو إسماعيل فى محاولته للنهضة أسس ثلاثة عشر مصنعًا لصناعة السكر، الذى كان منتجًا استراتيجيًا مطلوبًا فى العالم، ولكن محاولته باءت بالفشل لأسباب مختلفة، منها عدم جاهزية العنصر البشرى المصرى وقتها للعمل فى الصناعة.. وبالتالى فإن المواطن الغيور على صناعة بلده يجب أن يعلم أن علينا أن ندفع ضريبة نجاح الصناعة ومهرها الغالى.. الاهتمام بالتعليم الحقيقى لا تعليم النجاح بالغش وتقفيل اللجان، الإيمان بالعلم والبحث العلمى لا بالكرامات والتدين الشكلى المزيف، احترام الوقت والعمل وعدم اعتبار التغيب عن العمل حقًا من حقوق العامل، نشر الكليات العملية وإغلاق الكليات النظرية التى يقصدها الآلاف كل عام طلبًا لمجرد شهادة والسلام.. هذه كلها وغيرها كثير تغيرات مطلوب حدوثها فى المجتمع قبل أن نتهم الحكومة بأنها أهملت الصناعة دون دليل، ومطلوب حدوثها أيضًا حتى ننجح فعليًا فى الصناعة، ولا يكون الأمر مجرد تفاخر بأن لدينا صناعة والسلام.