رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إيهاب مصطفى يكتب: نشيج الدودوك لجلال برجس.. ونزيف الأسئلة

نشيج الدودوك
نشيج الدودوك

صدرت السيرة الروائية "نشيج الدودوك" للكاتب الأردني جلال برجس في طبعتها المصرية عن دار الشروق للنشر والتوزيع، عبر 224 صفحة قسمت لثلاث فصول يحكي فيها "برجس" عن النشأة والميلاد وحتى لحظة كتابة السطر الأول في سيرته الروائية.

الغلاف

جاء الغلاف عبارة عن صورة لظل طفل يمسك بطائرة ورقية، وأن تهيمن الطائرة على الجانب العلوي من الغلاف ينعكس على جلال برجس منذ أن كان صغيرًا وأمسك بطائرته الورقية وراح يرميها في الفضاء الوسيع ويراقبها وهي تصغر في ناظريه وتطوف الأنحاء، وكأنها لحظة تختصر زمنًا قادمًا، يكبر الولد ويعمل بهندسة الطيران في الأردن بالصدفة حين أعلنت المملكة عن دفعة جديدة لدراسة هندسة الطيران، وهنا يتأتى له أن يسكن وحيدًا في حجرة في الصحراء ويتعرف على صديقه علي شنينات، لكن الغرفة منحته الفراغ والوحدة اللازمين لعملية القراءة، القراءة التي كانت ملجأ وملاذ من قسوة الحياة.

العنوان

أما عن العنوان "نشيج الدودوك" فربما قد يتوهم البعض أن "الدودوك" هي مفردة أردنية تفسر شيئا ما، لكن جلال برجس يفصح عن كونها آلة موسيقية عرفها في "يريفان" عاصمة أرمينيا:" إذا تلك الموسيقى التي كنت أسمعها أو أتخيلها طوال ما سبق من سنين عمري هي للدودوك"، أما عن نشيج فهي في اللغة "تردد صوت البكاء من غير انتحاب"، والعنوان "نشيج الدودوك" لا يعني حزن الآلة بالطبع، بقدر ما تشبه برجس بالآلة ليكون له نشيجه الخاص، والذي يشبه نغمة حزينة تردد صداها عبر أكثر من نصف قرن. 

لا ينحُ جلال برجس المنحى التقليدي في السير الذاتية بالكتابة عن لحظة الميلاد والانطلاق منها، لكنه يبدأ الكتابة في لحظة بدت بالنسبة له إحدى اللحظات التي بدأ فيها النظر للعالم بشكل مختلف، يوم أن كان في السابعة من عمره واستيقظ في منتصف الليل وأخذ يتأمل العالم من النافذة، وراحت تتكرر هذه اللحظة مصحوبة بنغم موسيقي سيكون له تأثيره فيما بعد، بعدها جاءت لحظة الكتابة المثالية، وهي التي فرضتها الظروف من حديث الأب، وبالتالي برجس كان مدفوعا بالكتابة لقناعته بأنها حائط الصد الملائم:" لا أدري لحظتها ما الذي دفعني إلى الداخل واشتريت دفترًا وقلمًا ومشيت إلى أطراف القرية، وجلست أسفل شجرة أكتب ما لم أقله لأبي".

أما عن اللحظة الفارقة فهي التي قال فيها العم عزيز لبرجس أن يشتري رواية البؤساء، بدون أن يدرك أنه يضعه على أول الطريق، والذي يمتد لمسافة طويلة من القراءة والكتابة، وهنا يقرأ الولد الصغير، ويعرف أن هناك عوالم أخرى عليه ارتيادها، عوالم تتشكل على الورق، وحيوات تكتب وتجارب تنتقل، وهنا بدون أن يدرك الصغير يضع أولى اللمسات على خارطة المستقبل.

ثلاث خطوط سردية تمر بالتوازي، ثلاث كتب، ثلاث دول، وحياة جلال برجس، يبدأ السرد من نقطة ثم يتشعب مثل خيوط متصلة كل منها يمشي على حدة، وتلتقى جميعا في النهاية وختامها "نشيج الدودوك".

ان تعيش في بيئة ريفية تنفتح على الصحراء فيعني هذا أنك تقوم بتخزين كل ما تقع عليه عينيك مثل الإبل التي تتجهز لسفر طويل، هذا ليس قولا مجازيا، وإنما يشرح جلال برجس أنه راح يخزن المعلومات تمهيدا لغزو الصحراء، والصحراء هنا ما هي إلا الكتابة، والزاد هنا هو المعرفة والقلم والورقة، وتفاصيل كثيرة في الجعبة مثل العود المكسور، الفصل الوحيد في المدرسة، القراءات، حكايات الجدة، العم عزيز، موسيقى الناي، رؤيته لأول جسد أنثوي، وكل هذه التفاصيل التي ستكون المحرك لحياته فيما بعد.

وهناك من التفاصيل الصغيرة التي ذكرها برجس محتارا في أمرها مثل حكايات الجدة:" راحت أمي تنصت لها وهي تسرد حكاية حدثت قديما، عن أطفال ثلاثة مات والدهم والتحقت به أمهم بعد شهر"، وحكايات الجدة هنا ستتطور فيما بعد لتكون محركًا حقيقيًا في حياة جلال برجس في شبابه:" روت جدتي الحكاية بوعي سردي عجيب وبداية شيقة واصفة للمكان والزمان وللشخصيات بمستوى لافت"، ويستمع برجس ويمنح أذنه لجدته لتضع فيها الحكايات بطريقتها المشوقة، تغير فيها وتبدل في الشخوص حتى أنها أنتجت له حكايات خاصة، وما هو الأجمل من جدة تمنحك حكاية خاصة لك ولا يعرفها أحد.

وكان طبيعيا أن ينجذب لهذا العالم وأن يقبل على الحكاية بوصفها مفسرًا كبيرًا للعديد من الأحداث:" هل قرأت جدتي ديستويفسكي وتشيخوف وتشارلز ديكنز ومحفوظ وكل من وصلوا إلى قمم السرد وأعادوا صياغة العالم عبر رواياتهم"، وهنا يصف برجس أن الجدات فعلن ما فعله كبار الكتاب سوى أنهن كن غير مهتمات بالتدوين، يعدن الحكاية ويطورن فيها أملا فقط في استمتاع الوليد".

ربما بقصد او بدون لكن الروايات الثلاث التي اختارها برجس كانت متوافقة كليا مع الدول التي زارها، فالغريب لألبير كامو كانت في الجزائر، وموسم الهجرة إلى الشمال كانت في بريطانيا، وداغستان بلدي لرسول حمزاتوف كانت في أرمينيا.

وربط جلال برجس بين الرواية والدولة من خلال التفاصيل المكتوبة والمرئية، وذكر انطباعاته في البداية وما تلاها من تأكيد أو نفي، ووسط القراءات والمشاهد التي تبرز يكون هناك تقهقر إلى الماضي/فلاش باك بحسب الباعث، كما ذكر بعضًا من التفاصيل خلال السفر والتي تتعلق بالأماكن ولذة الاكتشاف.

وإن كان برجس قد صنف كتابه بأنه سيرة روائية كما كتب في الصفحة الثانية، لكن الكتاب ومن يقرأه سيقول أنه رواية مكتوبة بضمير الأنا، ذلك الضمير الحميمي للغاية، فينتقل السرد لما يشبه الحكي الشفاهي، فيتوجه بالخطاب لقارئ مفترض ويظل يحكي، حتى أنه في بعض الأحيان يعتبر نفسه واحدًا من هؤلاء القراء، فيتحول ضمير الأنا لضمير المخاطب فيصبح برجس شخصية روائية وهناك راوٍ يراقب ويكتب:" وحيدًا تمشي في شوارع المدينة لا ترى ولا تسمع سوى موسيقاك الداخلية".

في حكاياته لم تكن هناك صعوبة في النقلات، وهنا يحاول برجس منح كل خط سردي ما يكفيه من الحكي ويقدمه للأمام، ويحدث هذا بشكل مستمر بما يضمن سيرًا آمنا لكل الخطوط السردية في السيرة، وتأتي معظم النقلات بباعث يعودعلى إثره للماضي ليلتقط لحظة ما تتوافق مع لحظته الآنية ثم يرجع مرة أخرى لما كان عليه.

نزيف الأسئلة

يكشف جلال برجس عن الكثير من الأسئلة المتعلقة بماهية العالم والحياة والموت وعبثية الوجود والرحيل، ولا يستنكف يعود لإثارة الأسئلة مرة أخرى، فالصغير الذي ولد في حنينا بمحافظة مادبا وانطلق منها للعالم ويسافر ويرجع وتتحول في عينيه من صحراء في طفولته لعالم كبير في صباه وشبابه وما بعد زواجه وأولاده، كلها أسئلة تتعلق في الفراغ ولها طنين مثل بندول ساعة، وبرغم هروب برجس العديد من المرات لكنه يعود لإثارة الأسئلة بما يعني استمراريتها باستمرار الوجود.

وإن كان إدوارد سعيد قد ذكر في كتابه "الثقافة والإمبريالية" أن العديد من الروايات حضت بقوة على المبدأ الاستعماري مثل رواية "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو، وروايات تشارلز ديكنز وغيرهما، فإن برجس يخلص لرؤية أن أحداث رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح كانت عبارة عن محاولة من مصطفى سعيد/ الشخصية الرئيسية، الانتقام من الاستعمارللسودان، وفعل الانتقام هنا فردي أي أن الشخصية وضعت نفسها في محاولة للانتقام لكل أهل السودان عبر أفعال من شأنها أن ترد الصاع للمحتل.

وإن كان رسول حمزاتوف الذي جاء كتابه "داغستان بلدي" تعبيرا عن الحب الكبير لبلده حين كلفته الصحيفة بكتابة مقال عنها فإذا به يفرد كتابا كاملا يرد به على الصحيفة.

وفي الجزائر يصطحب جلال برجس معه رواية "الغريب" لألبير كامو، ويصنع ضفيرة ما بين ألبير كامو الجزائري المولد وقصة موت والدة ميرسو/الشخصية، ليبرهن أن كامو – الجزائري المولد - كان يميل للمستعمر الفرنسي، وكان هذا القول ينبع من كامو على اعتبار أنه فرنسي الأب إسباني الأم وأقام في فرنسا وصنع صحيفة خاصة بالتعاون مع جان بول سارتر وغيرها.

الثلاث روايات كانت مناسبة تماما للبلدان التي زارها برجس، حتى في سياق حديثه عن الشخصيات التي قابلها في سفره مثل مارجريت في بريطانيا وحديثه عن "موسم الهجرة إلى الشمال"، وقوهاش في يريفان وحديثه عن حمزاتوف وبالرغم من أنهن شخصيتان تحدث عنهن بوصفهن كذلك ولكن كان لهن أثرهن، وإن جئن مكملات لسياقات الحديث عن الروايات أيضًا.

تعج السيرة بالأحداث الحزينة لتؤكد هذا النشيج، مثل موت الأم مصابة بالسرطان، وموت العم عزيز وتعب الأب، كلها أشياء سرد برجس أحداثها بترنيمة حزينة، لكن الكتابة كانت ملجأه من هذا الحزن ومقاومة له ايضًا.

يذكر برجس أن كل رواية كتبها كان لها واعز حقيقي:" تنبهت إلى أن بعض الشرفات خالية، وبعضها أغلق بالطوب، والإسمنت، وبعضها الآخر قد ظلل بزجاج اسود يرى من وراؤه ولا يرى، سنة راينا فيها رؤوسا تجز، ونساء ترجم، واوطانا تحترق باسم الدين، لم أر في الشرفات نساء يسقين الورد، ويصنعن صباحاتنا الطرية، لحظة موجعة، اختصرت زمنا كان جميلا، يشوب حاضره الخوف، وتنبئ أيامه القادمة بالزلازل، لحظة قادتني إلى كتابة "سيدات الحواس الخمس".

وبالرغم من أن جلال برجس اهتم فقط بالتطور والحداثة في "حنينا" التابعة لـ"مادبا"، منذ ان كانت صحراء يرى فيها والده قادمًا من بعد بملابس الجندية، وحتى زحف العمران والتطور للكتل الاسمنتية الجافة مشبها الأمر بالهجوم الضاري، لكنه كان يعبر عن سيرة تصلح للكثيرين الذين تربوا في بيئات ريفية كان تمتلئ بالمفردات الخاصة بتلك البيئات، ومنها "خض اللبن لصنع الجبن عبر "السعن"، وتجميع روث البهائم للمواقد، وغيرها من الأمور التي تشترك فيها كل المناطق الريفية ليس في الأردن فقط وإنما في العالم العربي كله.

نشيج الدودوك

نشيج الدودوك سيرة روائية برهن فيها جلال برجس على قدرته على التعبير والحكي وأنه يمكن أن يكتب سيرة فارقة لا تشعر أنها سيرة بقدر ما سوف تشعر أنك أمام بطل مأزوم يعاني الكثير من التشتت والاسئلة، والسؤال هو الدافع للبحث، وأن المتعة الحقيقية كما جسدها "سنتياجو" - بطل رواية "الخيميائي" تأليف باولو كويلهو وترجمة بهاء طاهر- في الرحلة نفسها وفي السؤال، وأن البوكر التي حصل عليها عن روايته دفاتر الوراق وكان لها صداها، جائزة لن يتوقف كثيرًا عندها، وسيستمر بعدها ليكتب بنفس الوتيرة، قادرًا على الإمساك بزمام القلم وتوجيهه إلى المقصد تماما.

نشيج الدودوك