رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إرادة التلاحم

مظهر التحضر وسمة التخلف متلازمة  لحياة الأمم والشعوب، فالحضارة والرقي والتقدم يبنيها الإنسان بمقدار إرادته. فكلما امتلك الشعب إرادة جادة، كلما أخذ بزمام المبادرة نحو التقدم العلمي والمعرفي والتكنولوجي الذي يؤسس لحضارة تتقدم، وتزدهر باستمرار، تلك الحضارة تقوده نحو الريادة والصدارة والزعامة أمام الشعوب والأمم الأخرى.

الإرادة جهد غريزي تُحقق به الكائنات نماذج حياتها، وتُناضل بها الكائنات الأخرى لتحفاظ على مكتسباتها، وفي الإنسان الإرادة عزيمة غريزية متأصلة وراسخة، لها قوة قهرية تتخطى العقبات وتتجاوز التحديات، وتبتكر البدائل، وعنده للإرادة سبق في كونها أساس التكتل والتلاحم البشري والتجمع الإنساني والبناء الحضاري. لكونها تعبيرًا عميقًا عن البُعد الغريزي للإنسان الذي تطور ونمى مع مرور الزمن وتشكل في منظومة متكاملة من الإرث الفكري والثقافي والحضاري والقيمي. يُعززها إرادة التشبث بالحياة وحب الترقي والتطور فيها، والتي تُعد السبب الجوهري لكل سلوك. 

فالنمل يستميت في المحاولات المتكررة بعيدًا عن اليأس حتى يُحقق أهدافه بإرادة عجيبة وإصرار فريد، والنباتات تتجه بقوة صارمة وإرادة جادة نحو الضوء لتنمو نموًا أفضل وتستمر في الحياة.

والإرادة تتضمن قيمة عالية قادرة على تجاوز التوقفات واكتساح الصعوبات، وفتح أفاق المستحيلات. ذلك لأنها تنطوي على قوة خفية خارقة، وسيطرة وتحكم صارم باتجاه الأهداف.

فالإنسان بطبيعته يندفع نحو ما يُريد وليس ما يعقل، وبناء المجد وسباق الحضارات البشرية تشكل في هذا السياق، وفي هذا الإطار الإرادة تُفصح عن دورها في صناعة السلوك البشري بذاتية عجيبة، فكثيرًا ما تقف القوى السياسية، والدينية، والمذهبية مواقف ترى بصوابها وأنها الحق المبين والتوجه المحايد، في حين أنها تبع لإرادة خاصة بها منطوية على مصالحها، ورغباتها، فهي لا تتزعم هذا السلوك لأنه حق لذاته، بل هو الحق من وجهة نظرها لأنها تريده كذلك. كما هي المواقف الدولية المتحيزة لصالح إسرائيل ضد دولة فلسطين وعلى حساب حقوق الفلسطينين، وكما هو حال الدول القوية في تقديم مصالحها على غيرها من الدول، وتبريرها وإكساب تلك المصالح صفة الشرعية والمشروعية وإن لم تكن كذلك.

قد ينبذ الناس بعضهم بعضًا لانتماءات عقدية ومذهبية أو فكرية أو حزبية أو ثقافية أو اجتماعية أو عرقية. فيتجذر التحيز والتعصب والتطرف، وتتعمق الطائفية، وتسود الكراهية. وينتفي التقبل  والطبيعة البشرية السوية التي تؤمن بالتعددية والتنوع الثقافي والفكري، وفي الأذواق والعادات والتقاليد والفنون.

في حين أن التسليم بهذا التنوع يُعد المدخل إلى الاعتدال والتعايش والتسامح والسلم الاجتماعي لتقبل الأخر دون تمييز وإعلان مشهد التلاحم بكل صوره ليعيش الإنسان عيشة كريمة في مستواها الملائم لآدميته وإنسانيته.

تتخطى أبعاد التلاحم وإيجابيته كل المحددات لتصبح مظلة نجاة الأمم، وميثاق روابطها بالمعاني الإنسانية فى بذل المعروف والتآخي والتراحم والتواد، وإشاعة  الإيثار بين مختلف أفراد المجتمع، الذي له الاتصاف بالتسامح وضبط النفس المستند إلى مبادئ الشرائع السماوية وقيم المجتمعات البشرية وفضائل الأخلاق الإنسانية. كل ذلك من أجل التأسيس لفضاء مشترك تتعايش فيه أطياف المجتمع بسلام اجتماعي وسلم مجتمعي. 

يُوسس لذلك إرادة تلاحم أمة عربية وإسلامية تجمعها ميزات سامية ومبادىء نبيلة وخصائص فريدة تتميز وتتفرد بها عن الأمم والشعوب الأخرى قاطبة. وذلك بعقيدة موحدة تشهد شهادة واحدة، وقبلة واحدة، ومواسم تلاحم مشتركة في صيام وقيام رمضان، وتأدية نسك الحج والعمرة والوقوف بعرفة في يوم محدد وعلى صعيد وأحد، وأعياد ثابته تتجسد في عيد الفطر والاضحى تتجلى فيها مظاهر الاصطفاف والتأخي والتألف والتواد والصفح والعفو، في نموذج مشرق للحقوق والواجبات والمشاركة التلقائية بين مختلف الأفراد والجماعات.

توسيع المشاركة في صنع القرار السياسي والاقتصادي، والتضمين السياسي والاجتماعي، وإعطاء مساحة أوسع لمنظمات المجتمع المدني، ومؤسسات حقوق الإنسان، وتدعيم قنوات الترابط الأسري، والمساواة في الحقوق والوجبات والتمكين بتساوي الفرص في شغل المناصب، والعدالة في توزيع الخدمات، والاهتمام بالشباب من الجنسين لاستيعاب الأزمات والهزات المصاحبة للتحضر والتغير، من أجل التأسيس لمنظومة مجتمعية متسقة ومتدرجة بين الأجيال والفئات العمرية تساعد في نقل التجارب والخبرات وتؤسس للإثراء المعرفي والحواري والفكري بين مختلف المراحل العمرية والمستويات الفكرية والفئات الاجتماعية لتحقيق التراكمية  التضامنية بينهم.

فالتضامن شرط أساس للتلاحم وقاعدة لبناء ثقافة التعايش وقبول الآخر بتكوينه الفكري والسلوكي ونمط حياته، بعيدًا عن الصور  التراتبية السلبية من البغضاء والكراهية والضغائن والأحقاد والانقسامات. يشهد العالم اليوم بمجمله أزمات عنيفة وتحولات محمومة أفرزت وضعًا دوليًا متأزمًا يزداد توترًا يومًا بعد يوم، ويُنذر بتصاعد الصراع الدولي المحموم على المصالح والنفوذ في صور متقلبة ونماذج متلونة بين أقطاب بارزة وأخرى متخفية أخذة في الصعود رغمًا عن كل القيود والشروط، تحمل تناقضات همشت المواثيق وبددت المدونات، وجعلت الساحة الدولية قاتمة، تزداد ظلمًة بتعارض اللعب على وتر المصالح، وتجاذب وتحول الولاءات سرًا وعلانية بين وهم تعظيم الفائدة وشبح تحاشي الخسارة.

لم يكن لبلد أن يكون بعيدًا عن الانعكاسات السلبية لهذا الوضع العالمي المأزوم في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والاجتماعية والقيمية لمجمل دوله، التي ليس الوطن العربي بمنأى عن تداعيات  هذه الأوضاع، مما يُحتم عليها وبشكل عاجل تفعيل الإرادة، وتعزيز التلاحم، وتمتين عرى الترابط، بالرفع من حالة التأهب والاستعداد لمواجهة التهديدات والمخاطر وتحييد التحديات التي توهن دوله من الداخل وتهددها من الخارج.

في سياق تعاظم المخاطر  وتلاطم الأحداث  ممن علق الجرس دولة الجزائر وأطلقت مبادرة تعزيز التلاحم وتأمين المستقبل التي تسعى الى تعزيز قيم التلاحم الوطني والتعبئة الجماعية لحماية الوطن من أي استهداف تحسبًا لجسامة التهديدات واستعدادًا لمواجهة المخاطر التي باتت شواهدها ماثلة، وتداعياتها حاضرة.

كل ذلك يوحي أن القادم على العالم أصعب فهل تستشعر حاضنة قرار الوطن العربي قيمة قوة التلاحم الاستراتيجية، وتتضافر الجهود لاستثمارها؟  أم أن زامر الحي لا يُطرب؟ وتبقى مقولة أُكلت عندما أُكل الثور الأبيض ماضية.             

  • رئيس مركز المعرفة العربية للاستشارات