رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«العسكرى» الذى أنقذ شهرزاد من السياف مسرور


أربعون سنة تمر على قضية «ألف ليلة وليلة» منذ أن تفجرت فى مصر عام 1984، حتى إن المثقفين اعتبروها من أخطر المشكلات التى صادفت مسيرة الأدب العربى، حتى لو قورنت بالتحقيقات والانتقادات الأدبية والتاريخية التى تعرض لها طه حسين بسبب كتابه «فى الشعر الجاهلى»، وعلى عبدالرازق بكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، فقد كانت مشكلة «ألف ليلة» عسيرة الحل لأنها لم تكن مشكلة قانونية فحسب، بل مشكلة ثقافية بالدرجة الأولى، وتخص المثقفين ليس فى مصر فقط بل فى العالم أجمع الذى فوجئ بمصادرة «ألف ليلة وليلة» بل المطالبة بحرقها، مما جعل القضية مثار تعليقات شرقًا وغربًا من أوروبيين وأمريكان وآسيويين، حتى إن بعضهم طالب بالحجر على العرب لأنهم سوف يُزورون تراثهم الثقافى وهو ليس مملوكًا لهم، إنما تملكه البشرية جمعاء.
وقد كشفوا عن أهمية «ألف ليلة» كمصدر للثقافة الشعبية العالمية، فصرحوا، بغير تردد أو مواربة، بأن الأدب الشعبى الأوروبى الذى أسهم فى تنشئة الأطفال عندهم مدين لها، بل تكاد تكون المصدر الأول لثقافتهم الشعبية، فضلًا عن أنهم اجتهدوا فى تأصيل «ألف ليلة وليلة» على نحو لم يفطن إليه العرب، وهو أنها لم تكن لتؤلف لولا أن اللغة العربية لغة البراءة، إذ درجت منذ قديم الزمان على تسمية الأشياء بأسمائها دون لف أو دوران، مما تفتقده اللغات الأخرى. وهاجمتنا الصحف الفرنسية بتطرف، حتى إنها قالت إن التراث العربى يعتبر تراثًا إنسانيًا، وليس مملوكًا للعرب وحدهم كى يعبثوا به. مع ملاحظة أن «ألف ليلة» تتداوله أوروبا وتعيد طبعه لدرجة أن فرنسا وحدها أصدرت منها عشرين طبعة. وفى أمريكا أجرت صحيفة أمريكية مشهورة تحقيقًا عن الثقافة العربية على ضوء القضية، انتهت فيه إلى أن المثقفين العرب اندفعوا إلى حوار متنوع حولها بسبب أنهم كانوا لردح من الزمن محرومين من حق التعبير عن أنفسهم، وكان التحقيق بعنوان «صراع المثقفين العرب». ولما كان صبرى العسكرى مستشارًا قانونيًا لاتحاد الكتاب، فقد وكله عنه لحضور القضية، إلا أن المحكمة اعتبرت أنه لا صفة للاتحاد فى الحضور أمامها لأسباب قانونية، ولما كتب صبرى العسكرى مقالًا بـ«الأهرام» بعد صدور حكم المصادرة للرد على مقولة أنه «لا يجوز التعليق على أحكام القضاء»، للتعريف بالحدود القانونية والواقعية لذلك الحظر، خصوصًا أن انتشار تلك المقولة تسبب فى إحجام المثقفين عن متابعة القضية فى مرحلة الاستئناف، فوجئ صبرى العسكرى بالأديب ثروت أباظة، رئيس اتحاد الكتاب والمشرف على صفحة الأدب فى «الأهرام»، قد ألحق فى ذيل المقال عبارة «هذا المقال لا يعبر عن رأى اتحاد الكتاب وإنما يعبر عن رأى صاحبه»، كما تحدث المحامى العام لنيابات شمال القاهرة لصحيفة «أخبار اليوم» يتهم صبرى العسكرى بأنه وراء تلك الحملة فى الصحف خدمة للناشر اللبنانى الذى أصدر طبعة «ألف ليلة» المصادرة والمزورة، ولم يكن ذلك صحيحًا، وأنه «أى العسكرى» أوهم البعض بأن النيابة تحاكم التراث، وبالتالى استطاع التغرير ببعض أصحاب النوايا الحسنة، فانساقوا دون تبصر، وتعرضوا لموضوع مطروح فى ساحة القضاء، وجاء حديثهم، فى باطنه، دعوة لتخريب العقول وإفساد الأخلاق، وكانت كلماتهم ظالمة مغرضة مرفوضة.
أما توفيق الحكيم فكتب، باعتباره أحد رجال النيابة السابقين، مقالًا بجريدة «الجمهورية» قال فيه: «إن القانون يشترط العلن، أما إذا حدث الفعل نفسه فى مكان مغلق، فإنه لا يسمى فى عرف السلطات والقانون بأنه فعل فاضح، ومن ثم فإن كتاب (ألف ليلة) لا يمكن اعتباره فعلًا فاضحًا علنيًا مما يتدخل فيه القانون»، وأنهى الحكيم مقاله بأنه يرجو أن يكون فى قوله شىء من التنبيه، لا لمصلحة الكتاب، ولكن لسمعة القضاء». غير أن د. شوقى السيد، أحد المشتغلين بالقانون، أبلغ النيابة ضد توفيق الحكيم والجريدة التى نشرت مقاله، مطالبًا باتخاذ الإجراءات القانونية ضدهما بتهمة امتهان العدالة.
بينما كتب الكاتب الصحفى أحمد بهجت خمس مقالات بـ«الأهرام» يؤكد شائعة أن نسخ «ألف ليلة» المصادرة مزورة، ليكشف صبرى العسكرى أن هذا الكاتب صاحب نسخة من «ألف ليلة» نشرها تحت دعوى أنها نسخة مهذبة، فضلًا عن سخريته من مصحح النسخة المصادرة، طباعة المطبعة الأميرية ببولاق، لا لشىء سوى أن اسمه الشيخ قطة، بينما الرجل من كبار رجال الأزهر المتنورين، وصحح كتاب «الفتوحات المكية» لابن عربى.
أما أكثر المثقفين انفعالًا وأكثرهم تأثيرًا على القراء، فقد كان صلاح جاهين الذى كان من طليعة المحتفين بالأدب الشعبى، ولعب برسوماته الكاريكاتورية بـ«الأهرام» دورًا تجاوز بعض كبار الكتاب والمثقفين، وكان مما خطه بريشته كاريكاتير السياف مسرور وهو يخرج بسيفه من بين ضفتى كتاب «ألف ليلة» قائلًا: مين اللى عايز يحرق ألف ليلة؟!. وهكذا كانت قضية «ألف ليلة» كاشفة خريطة المثقفين وتوجهاتهم.
ومن المصادفات، وقت المحاكمة، أن أقيم معرض فى باريس لمدة شهرين تحت شعار «ألف ليلة وليلة»، وخصص لعرض المشروبات والمأكولات والملبوسات مما ورد ذكره فى «ألف ليلة»، أما صبرى العسكرى فضلًا عن كونه محاميًا فهو أديب له عدة روايات وقصص قصيرة، ومن ثم فقد كان مطلعًا على كتب التراث العربى، وهو ما جعله يقدم مذكرة دفاع فى نحو عشرين صفحة، ذكر فيها أن ما تضمنه كتاب «ألف ليلة» من العبارات المعنية بالتحقيق سبق أن ورد مثلها فى كتاب «الوحشيات، الحمامة الصغرى لأبى تمام حبيب بن أوس الطائى، طبعة دار المعارف، وفى كتاب «شرح المعلقات السبع» المطبوع بمصر متضمنًا قصيدة «اللامية» لشاعر العرب امرئ القيس، وأيضًا فى قصيدة الشاعر عمرو بن أم كلثوم فى الكتاب نفسه، بل نشرت مجلة «الشعر» الصادرة عن اتحاد الإذاعة والتليفزيون قصيدة الشاعر دوقلة المسماة «بالقصيدة اليتيمة»، وفيها تلك العبارات وأكثر منها، ولو أن شيئًا منها كان هابطًا أو مستهجنًا لما نشر فى مصر والعالم العربى، فضلًا عن أشعار بشار بن برد وعمر بن أبى ربيعة، وأبى نواس، مما أورده الأصفهانى بكتابه «الأغانى» الذى طبعته الدولة فى مطابعها وعلى نفقتها، وبناءً على مذكرة دفاع صبرى العسكرى التى تبنتها المحكمة أصدرت حكمها بالبراءة والإفراج عن نسخ «ألف ليلة وليلة»، وتنفست «شهرزاد» الصعداء بعد أن أنقذها العسكرى من «مسرور» سياف القرن العشرين، وقد أودع الحكم فى المتحف القضائى الذى يضم القضايا المهمة تعريفًا للأجيال القادمة. 
أما صبرى العسكرى نفسه بطل هذه القضية الثقافية التاريخية، الذى كان يستحق احتفاء المؤسسات الثقافية والمثقفين لأنه أنقذ سمعة الثقافة المصرية والعربية، فقد تم تجاهله إلى درجة أن مثقفًا بارزًا كالدكتور جابر عصفور الذى كان يرأس تحرير مجلة «فصول» الصادرة عن هيئة الكتاب أصدر عددًا خاصًا عن قضية «ألف ليلة» لم يذكر فيها اسم الرجل الذى كسب القضية، ويبدو أن جابر عصفور لم ينس لصبرى العسكرى أنه كتب مقالًا قال فيه: «إن مجلة (فصول) لا تقرأ رغم تكلفتها العالية، بسبب أنها مجلة مدرسية يحررها مدرسون يلقون بالحجر فى الطاحون، والقارئ ليس تلميذًا ولا يتلقى إلا عن مبدعين»، ومن ثم لم يشعر العسكرى بالدهشة من مسلك عصفور نحوه. المفارقة أن عصفور حينما أراد كتابة مقال عن قضية «ألف ليلة» فى مجلة عربية طلب منى أن أستعير له نسخة من مذكرة دفاع صبرى العسكرى، الذى أعطاها له سمحًا راضيًا مع إهداء يذكره ساخرًا «أنه صبرى العسكرى كاتب مذكرة الدفاع لا شهريار». وتقاطع مع هذا الموقف الغريب العجيب، موقف الصحافة الفرنسية التى شهرت بمصر حال مصادرة «ألف ليلة»، فلما حصلت على البراءة، نشرت الخبر على استحياء فى صفحة داخلية فى ركن لا يكاد يبين!. وإنصافًا للتاريخ الثقافى لواحد من كبار محامينا المثقفين وهو صبرى العسكرى، فقد كان محاميًا لأبرز نجوم الأدب والثقافة المصرية، وله معهم، ولكاتب هذه السطور وقفة حافلة بالمفاجآت والمتناقضات المثيرة التى تكشف وجهًا مجهولًا من وجوه الثقافة المصرية، تستحق الانتظار للعدد القادم.