رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العقول المصرية المهاجرة..!


(1)
(الصينى حين يصل أمريكا يقوم باختيار اسم جديد له ثم يمزق جواز سفره!) انتشرت هذه العبارة بين المهاجرين إلى أرض الأحلام من الجنسيات الأخرى منذ خمسة عقود على الأقل تدليلا على أن مَن هاجر من الصينيين إلى هناك كانوا حريصين على قطع كل علاقتهم بوطنهم الأم واستعدادهم التام للالتحام والذوبان فى وطنهم الجديد. نشأوا هناك وعملوا وحصلوا على جنسيتهم الجديدة ثم نشأت أجيال جديدة من أبنائهم حصلوا على أفضل تعليم ممكن، وآلافٌ منهم أصبحوا بالفعل علماء متخصصين فى شتى أفرع العلوم. كما أصبح آلافٌ منهم يعملون فى مواقع هامة كمواطنين أمريكيين! 
وفى تلك المرحلة أو اللحظة، ظهرت الصين فى أفق هؤلاء، وبدأت بوصفها الوطن الأم فى التواصل مع هذه العائلات واختصت منهم بشكلٍ خاص من أصبحوا علماءً بارزين ولديهم عقولٌ تملك القدرة على نقل هذه العلوم إلى الصين! بدأت الصين منذ عدة عقود هذه السياسة واستطاعت بالفعل النجاح فى استقطاب آلافٍ من العلماء من الجيل الثانى من مواطنيها! درست الصين ظروف كل هؤلاء دراسة وافية سواء كانت ظروف مالية أو عائلية أو نفسية قبل أن تطرق أبوابهم حتى تكون قادرة على اختيار ما يناسب كل فردٍ منهم طريقا للتواصل معه وإقناعه بأن يترك خلف ظهره كل ما وصل إليه ويعود لوطنٍ كل ما يربطه به أنه كان وطنا لآبائهم وأمهاتهم! 
تعاملت الصين بمنطق براجماتى خالص.. قدمت كل ما يمكنه أن يغرى أحدهم بهذه المغامرة، وتعاملت بواقعية مع قضيتها، وأنها تتعامل مع علماء نشأوا فى الولايات المتحدة وتعلموا بها وأقسموا يمين الولاء لها كمواطنين أمريكيين! وأدركت أن الإغراء هنا يتخطى فكرة الأموال إلى ما يبحث عنه العلماء أو أصحاب الأفكار الصناعية المتطورة، وهو توفير المناخ الصحيح الكامل لكل عالم فى أن يستكمل دوره كعالم وأن تنأى به تماما – بعد عودته – عن الاصطدام بأى عوائق مهما كانت طبيعتها تعيقه عن الاستمرار فى أبحاثه وتنفيذ ما يثبت صلاحيته منها على الأرض، وتوفير كل الإمكانات المادية لذلك. وبجانب كل هذا توفير كل سبل الراحة له ولعائلته من فرص عمل أو تعليم أو سكنٍ يليق بهم ودخول تناسب ما كانوا يحصلون عليه فى موطنهم السابق..وبعد كل ذلك وفى آخر القائمة كانت مداعبة المشاعر الوطنية التى ربما بقى بعضها موجودا بفعل ذكريات الآباء والأمهات وأحاديثهم الخاصة! فلا يمكن أن تقنع عالما بالرجوع إلى وطنٍ لم يحيا به اعتمادا فقط على فكرة الولاء، خاصة إن كان من الجيل الثانى من المهاجرين!
استطاعت الصين فى عدة عقود استقطاب آلاف العقول الصينية المهاجرة، سواء من الجيل الأول أو الثانى من مهاجريها..نجحت فى أن تتناسى هذه العبارة التى كانت قطعا تعلمها عن مواطنيها من المهاجرين الأوائل بأنهم اختاروا أسماءً جديدة ومزقوا جوازات سفرهم! هذه العقول كانت أحد الأسس التى قامت عليها نهضة الصين حين استطاعت أن تقنع هؤلاء بنقل أبحاثهم وتنفيذها فى مصانع صينية، وتعليم ملايين الشباب الصينى هذه المهارات الالكترونية التصنيعية التى تغزو بها الصينُ اليوم العالمَ بأسره!
فيما يزيد عن ربع قرنٍ من ممارسة مهنتى كمرشد سياحى، أتيحت لى أكثر من فرصة لمقابلة بعض العقول المصرية المهاجرة فى أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة. وأحدهم - الذى حصل على مؤهلات علمية عليا جدا فى تخصص غير تقليدى – فى الولايات المتحدة كان شاهدا على ما فعلته الصين، وهو مصدر معلومتى هذه عن قصة الصين مع عقولها المهاجرة!
(2)
هذه القصة، مع ما تواجهه مصر حاليا من صعوبات اقتصادية ومحاولات حصار اقتصادى علنية صريحة يطرح علينا سؤالين مهمين. الأول منهما عن العقول المصرية المهاجرة..ما حجمها، ومواطن تمركزها، وتخصصاتها، وأخيرا هل يمكن القول أن مصر استطاعت بشكل حقيقى الحصول على نصيبٍ حقيقى وعادل من هذه الثروة المصرية الكبرى؟!
أما السؤال الثانى فهو ما علاقة هذا السؤال بما تواجهه مصر الآن؟!
فيما يتعلق بالسؤال الأول، فليس لدى حصرٌ لحجم هذه القوة المصرية الكبيرة، لكننى وخلال سنوات عملى صادفت بعضهم يقيم فى بعض دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة. وقطعا كانت هناك مناقشات متبادلة، وبادر بعضهم بالحديث عن هذه القوة وحجمها، وطبقا لأحدث ما سمعت أننا نتحدث عن آلاف فى الولايات المتحدة فقط. ونحن هنا لا نتحدث عن كل المصريين بالخارج، وإنما نتحدث عن فئة خاصة محددة تشمل العلماء من مختلف التخصصات العلمية خاصة من بلغ منهم مراحل متقدمة فى تطبيقات مجالات تخصصه المتميزة، وأيضا رجال الصناعة والمال والأعمال من أصحاب أو المساهمين فى كيانات اقتصادية ومالية وصناعية كبرى. إذن يمكننا القول أن مصر – وبعد عشرات السنوات من خروج هذه العقول وبغض النظر عن ظروف خروجها – أصبح لديها بالفعل قوة عقلية قادرة بكل تأكيد على المساهمة فى الدفع بمصر إلى ما نطمح إليه جميعا. والجانب المشرق فى هذا القصة أن كثيرا منهم متخصص فى تخصصات علمية وعملية وتصنيعية دقيقة وهندسية غير تقليدية، ويمكنها أن تجعل من مصر قوة تصنيعية دولية أو على أقل تقدير إفريقية عظيمة ويمكنها أن تستوعب جانبا من الأيدى العاملة نصف الماهرة أو العادية. وأيضا من تمام الجانب المشرق أن بعضهم لديه بالفعل (البزنس) الخاص بهم، أى لدينا مشروعات تكنولوجية قائمة بالفعل ومصرية خالصة!
هل استطاعت مصر حتى الآن الحصول على نصيبٍ حقيقى على الأرض من هذه العقول المصرية المهاجرة؟! هل نجحت مصر فى أن تستعيد بعضَهم كليا أو جزئيا وأن تقنع نسبة منطقية منهم فى أن ينقلوا كليا أو جزئيا  مشاريعهم إلى مصر؟ وليس المقصود هو أن نفتتح فرعا مثلا لشركة تصنيعية غربية كبرى فى مصر، فهذا قصة نجاح أخرى من تمام الإنصاف أن نشير إليها ونقول أن مصر فى السنوات الأخيرة استطاعت ذلك بالفعل، لكن موضوع الحديث هنا عن نقل العقول المصرية صانعة التكنولوجيا أو الحاصلة على أعلى درجات تعلمها وتطبيقاتها العملية التصنيعية.. نقل عقول قادرة على توطين تكنولوجيا تصنيعية تكون مصرية خالصة وتجعل من مصر مركزا تصنيعيا منافسا لمراكز أخرى، وهذا لن يحدث دون أن تكون قادرة على المنافسة فى التكلفة. ومن أهم بنود التكلفة هو العقول نفسها وليس كما يعتقد البعض المواد الخام، فالعقل يستطيع دائما توفير أو ابتكار بدائل أرخص!
أعتقد أن مصر ما زالت بعيدة بعض الشىء عن تحقيق هذا، أو أنها لم تنتبه بعد، وتتعامل مع العقول المصرية بمنطق الحياء وحرية الاختيار، فترحب بمن يختار العودة، لكنها لم تبادر حتى الآن بشكل عملى واقعى قوى لفتح هذا الملف والتعامل معه بنفس المنطق البراجماتى الصينى! بالفعل هناك حالات فردية لعلماء مصريين اختاروا طواعية العودة ونقل جزء من أعمالهم وأبحاثهم إلى مصر، لكن هذه الحالات الفردية لا تمثل اتجاها عاما تتبناه الأجهزة التنفيذية المصرية، كما أن عودة كل واحدٍ من هؤلاء كانت تجربة فردية خالصة، بعضهم استمر، وبعضهم عاد أدراجه أو فى طريقه! لماذا وكيف حدث هذا؟ ربما تكون إجابة هذا السؤال هى نقطة البداية الحقيقية ليتم تصويب هذه الصورة، لذلك سأوردها فى نهاية الحديث وكما أخبرنى بعض من قابلتهم!
(3)
ما تمر به مصر الآن تحديدا من تأثر مواردها الاقتصادية الرئيسية كقناة السويس والسياحة  بأحداث سياسية خارج مصر، وما تكبدته مصرُ فى مواجهات عسكرية منذ ثورة يونيو، وما تكبدته منذ الخامس والعشرين من يناير 2011م، ثم الأزمات الاقتصادية العالمية المتلاحقة، وأخيرا أزمات مصر الخاصة من انفجار سكانى والتزام أخلاقى باستضافة ما يقرب من عشرة مليون لاجىء عربى، كل ذلك وضع مصر فى محنة اقتصادية كبرى. ولو وضعنا كل هذه العناوين العريضة أمام أعين أى خبير اقتصادى لخر لله ساجدا على نعمته وأن مصر مازالت قادرة على البقاء والمقاومة وتصر قياداتها على الاستمرار فى طريق البناء! هذه هى الحقيقة دون تجميل! 
كل ذلك ساهم فى خلق أزمة فى طرق توفير العملات الصعبة، وبات من الضرورى طرق كل بابٍ من شأنه زيادة موارد الدولة الخارجية أو خلق موارد جديدة. فمهما تكن محاولات ضبط سوق العملة داخليا ستبقى أزمة ما لم يكن هناك موارد جديدة أو أن يتم فض الاشتباك السياسى خارج مصر فتعود مواردها التقليدية لمعدلاتها الطبيعية. هذا هو سبب كتابتى لهذا المقال. أن أساهم فى لفت الانتباه لبابٍ جديد يمكن لمصر أن تطرقه بطريقة منظمة مؤسسية بعيدا عن المبادرات الصوتية الإعلانية التى لا يستمر تأثيرها أكثر من مدد البث الإعلانى أو الإعلامى!
مصر فى حاجة إلى أن تصبح مركزا تصنيعيا لصناعات غير تقليدية. وأنا أثمن كثيرا رؤية القيادة المصرية فى هذا التوجه التعليمى بإنشاء جامعات ومعاهد تكنولوجية لإعداد أجيال مؤهلة للسير فى هذا الطريق. والعقول المصرية المهاجرة التى أتحدث عنها يمكنها أن تكمل هذه الصورة أو أن تقود هذا الطريق. فالدولة المصرية فى طريقها لتأهيل شباب مصريين يكونون هم حجر الزاوية فى هذه العودة المنتظرة لهذه العقول والتى أحلم بها لمصر!


(4)
العلماء - خاصة المتخصصون منهم فى المجالات التطبيقية لا النظرية – يفكرون بمنطق براجماتى بحت! يفكرون أولا فى إمكانية توفر كل الظروف المادية واللوجستية التى تساهم فى استكمال أبحاثهم وتطبيقها بمجرد التوصل إلى نهايتها واختبار نجاحها. يقومون بدراسة أى عرض بطريقة علمية موضوعية بحتة، كيف سيعملون، كيف سيرون نتيجة أبحاثهم تتحقق على الأرض، كيف سيعيشون، كيف سيتعلم أبناؤهم، وكم سيكون المقابل المادى لجهدهم! لا يمكن أن نتوقع من عالمٍ أن يتقبل الغوص فى تيه بيروقراطى وظيفى، أو أن يقتطع من وقته ساعات وهو يلهث خلف الحصول على توقيعاتٍ هنا أو هناك، أو أن يكون الفيصل فى تحقيق مشروعاته على الأرض هو الوصول لدوائر عليا بعينها! يبحثون دائما عن وجود آلية محددة أو سيستم ولا يتعايشون كما نتعايش نحن مع فكرة البحث عن لقاء مع قيادة بعينها للحصول على الدعم أو المساندة! وكل هذا لا يتناقض إطلاقا مع تمتعهم بولاءٍ مطلق لمصر، لأن كثيرا منهم يفهم الولاء بطريقة عملية. الولاء أن تعمل بشكل حقيقى، وأن يتم توفير الظروف للعلماء للعمل، وغير ذلك فهو مجرد كلام تعبوى لا يبنى دولا أو يساهم فى خلق نهضة! هذه طريقة تفكير العلماء مهما تكن جنسياتهم، وهذا ما سمعته تقريبا حرفيا من بعضهم!
بعض الذين عادوا بمبادرة شخصية منهم يرون أن مصر يمكنها أن تصبح قوة تصنيعية تكنولوجية إقليمية لو قامت بالتعامل مع هذا الملف بهذه الطريقة البراجماتية! أن يتم وضع خطة قابلة للتنفيذ لفتح قنوات تواصل مؤسسية مع النابغين من هؤلاء وفى التخصصات التى يمكنها أن تسهم فى تحقيق هذا الحلم. وأن يكون التواصل قائم على خطة عملية حقيقية وواقعية. يتم تحديد تصور لطريقة عودة هؤلاء، ومنحهم ما يحتاجون إليه، ليس فقط من موارد مالية، وإنما السيستم المستقر والآلية للتنفيذ، ومع ذلك يتم تمهيد الأرض لطريق عودتهم بتنفيذ تصور لحياتهم وحياة عائلاتهم والمشروعات التى يمكن أن يتم تنفيذها وفى أى المناطق الجغرافية فى مصر. باختصار أن يتم إغراءهم بالعودة، إغراءً موضوعيا وليس ماديا فقط، وألا نتوقع منهم التفكير بنفس طرق تفكيرنا لأنهم عاشوا ظروفا مختلفة فى مجتمعات مختلفة وواجهوا صعوبات قطعا لم نواجهها ونحن نحيا بين ذوينا وفى دفء أسرنا!
لا يحب العلماء فكرة المركزية الإدارية التى تتميز بها مصر منذ آلاف السنوات. يرون أنها ضرورية على النطاق السياسى وعلى نطاقات أخرى، وأنها من سمات الدولة المصرية عبر العصور، ومن ضروريات بقائها واستقلالها.. لكنهم يرون ضرورة أن يكونوا – فى حال عودتهم – بعيدين عن هذه المركزية، وأن يكونوا مرتبطين بسيستم يسمح لهم بانسيابية عملهم واستمراريته وعدم توقيفه لأية أسباب إدارية! 
إذن يمكن تلخيص الطريق فى نقطتين، الأولى هو ملف العودة، والثانى مرحلة ما بعد العودة!
ملف العودة يجب أن يضع القائمون عليه نصب أعينهم الأسلوب البراجماتى فى التعاطى مع الملف كما أوضحته. ومرحلة ما بعد العودة يجب أن يضع القائمون عليها نصب أعينهم فكرة توفير آلية عمل أو سيستم لا يتم تقييده بالمركزية الشديدة! وهو ما تعمل عليه القيادة السياسية الحالية منذ توليها المسؤلية. 
وقبل كل ذلك يجب أن تضع الدولة المصرية قائمة أهدافها وطموحاتها التى ترغب فى تحقيقها عن طريق الاستفادة المشروعة من هذه القوة المصرية الكبرى ومن هذا المورد بالغ العِظم والذى لم تستفد منه مصر بشكل منصف حتى الآن! أى أن تضع قائمة أو بنك أهداف محدد يتم بناءً عليه الشروع فى طريق عودة هؤلاء!