رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من (أوليفر كرومويل) إلى (تونى بلير).. ملف بريطانيا الأسود فى دراما فلسطين!


(1)
تم تسريب خبر تولى (تونى بلير) ملف تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، ثم نفى مكتبه الموجود بتل أبيب الخبر! كم نحن ساذجون حين نعتقد أن وعد بلفور هو بداية دور بريطانيا الأسود فى الدراما الأكثر قتامة فى العصر الحديث..وعد بلفور لم يكن سوى المشهد الختامى فى الفصل الأول من دراما فلسطين التى نشهد الآن محاولات إجبار العالم على القيام بدور الكومبارس الصامت لتنفيذ فصلها الثانى بالدم والإرهاب! لسنا وحدنا الجاهلون بما حدث، فكثيرٌ من مواطنى بريطانيا اليوم لا يعرفون أيضا ما قامت به بلادهم على مدار أكثر من أربعة قرون!
كراهية الغرب لليهود كانت كلمة السر الأولى. بدأت ملامحها فى التبلور فى العصرين اليونانى والرومانى حين ظهر للمرة الأولى مصطلح (ضد السامية) تعبيرا عن استنكار الشعوب الأوربية لمطالبات اليهود وقتها بالمساواة السياسية والاجتماعية مع تلك الشعوب. منذ تلك العصور وحتى العصور الوسطى سيطرت على الشعوب الأوربية مشاعر أن اليهود من الجنس السامى المختلف عن الجنس الآرى صانع الحضارة التى توارثها الأسلاف الأوربيون! اعتقد الأوربيون أن اليهود دخلاء على تلك الحضارة، وليس من حقهم التمتع بإنجازاتها أو جنى ثمارها، وظلت تلك المشاعر تطارد اليهود فى الدول الأوربية. عاش اليهود فى تلك الدول كجاليات صغيرة، وعمل كثيرٌ منهم فى التجارة. ثم احترفوا الربا وكانوا يتقاضون فوائد تفوق 47% وأخذ الأمراء والأساقفة يستعينون بهم فى الأعمال المصرفية وكجامعى ضرائب لاستغلال الجماهير مما ضاعف من حالة العداء الشعبى الأوروبى ضدهم. ثم تم اتهامهم فى القرن الثانى عشر بتهمة دينية دموية، وهى أنهم يقتلون صبيا مسيحيا فى عيد الفصح كسخرية من صلب السيد المسيح (س)، ثم يستخدمون دمه فى صنع فطيرة عيد الفصح!
شن الأوربيون موجات اضطهاد عنيفة ضد الجاليات اليهودية فى القرون من الثانى عشر وحتى الخامس عشر فى معظم البلدان الأوربية (ألمانيا – فرنسا – إنجلترا – أسبانيا)..تراوحت تلك الموجات بين الطرد من الأعمال والطرد من البلاد وبين المذابح الدموية..وفى كل تلك القرون لم يتحدث أحدٌ من اليهود أو غيرهم عما يسمى بأرض الميعاد أو فلسطين، لأن اليهود كانوا يعتقدون أن عودتهم المزعومة إلى أرض الميعاد قد تمت بالفعل قديما بعد السبى البابلى 588 قبل الميلاد حين أعادهم الفرس مرة أخرى إلى أورشليم بعدها بسنوات قليلة! كانوا يؤمنون بذلك رغم تكرار طردهم من أورشليم وتدمير هيكلهم مرة أخرى وأخيرة على أيدى الرومان عام 70م!
(2)
ثم ظهر فجأة مارتن لوثر الراهب الألمانى فى النصف الأول من القرن السادس عشر. اصطدم بالكنيسة وقاد ما يسمى بحركة الإصلاح الدينى، وفى محاولة لاستمالة اليهود قام باختراع أسطورة دينية جديدة مفادها أن اليهود هم أبناء الرب الحقيقيون، وأن لهم حقا إلهيا مقدسا دائما فى أرض فلسطين بصفتها أرض الميعاد، وفى أرض سيناء بصفتها أرض الميثاق! ولكى يستميل المسيحيين لدجله الدينى فقد دعاهم إلى مساعدة اليهود فى تحقيق الوعد الإلهى، لأن ذلك هو مقدمة ظهور المسيح (س) ليحكم العالم لمدة ألف عام تسمى الألف عام السعيدة! لقد روج بين المسيحيين أنه من تمام الإيمان المسيحى أن يبذل المسيحى كل ما يملك ويستطيع من أجل تحقيق ذلك، وأن الجحيم والرصاص المذاب هو مصير كل مسيحى يتقاعس عن ذلك!
رغم أنه وفى بدايات دعوته، لم يتحمس دينيا كثيرٌ من ساسة أوروبا لما كان يروجه مارتن لوثر، إلا أن ساسة بريطانيا تحديدا قد وجدوا فى دعوته فرصة نفعية ذهبية فتلقفوها وقرروا تبنيها على الأرض! لقد أسالت دعوة مارتن لوثر لعاب مستعمرى بريطانيا حيث رأوا فى اغتصاب أرض فلسطين تحقيقا لمصلحة استعمارية صريحة لبريطانيا لحماية الطرق إلى مستعمراتها القديمة فى الهند، ولإنشاء إقليم جديد ينتعش بمهارة اليهود فى الاقتصاد والتجارة والصناعات! والأهم هو أن تتخلص بريطانيا ومعها دول أوروبا الغربية من اليهود فتزيح عن عاهلها عبئا اقتصاديا ثقيلا حيث تزامن ذلك مع نزوح أعداد يهودية كبيرة من أوروبا الشرقية إلى أوروبا الغربية!
ولتحقيق تلك الغايات الاستعمارية فقد تقمص ساسة بريطانيا أدوار رجال الدين الأكثر تعصبا وتطرفا! بدأ هؤلاء الساسة فى ترويج أن فلسطين هى وطن قومى لليهود! فتحولت اليهودية إلى قومية، وتحولت فلسطين من أرض المسيح (س) التى قامت من أجلها الحروب الصليبية إلى وطنٍ إلهى لليهود! 
(3)
أخذ ساسة وقادة بريطانيا على عاتقهم فكرة نشر الأفكار الجديدة بين الشعوب الأوربية المسيحية بالشحن الدينى المتطرف، فتكونت بها ومنذ نهايات القرن 16 جماعات دينية مسيحية برعاية حكومية تتبنى مشروع تنفيذ الوعد الإلهى على الأرض! سُميت هذه الجماعات بالجماعات (التطهرية أو البيوراتينية)، ومنها انتشرت المواعظ الدينية المليئة بالتهديد والوعيد بالنار والجحيم والكبريت المنصهر وبيان أن الطريق الوحيد للتطهر من الخطايا هو التحمس لعودة المسيح والمساعدة على تحقيق هذه العودة!
وصل الدجالون السياسيون البريطانيون إلى ذروة أدوارهم فى القرنين السابع والثامن عشر! وسطر التاريخ من المشاهد ما يصلح اليوم ليكون رواية هزلية سوداء! نحن فى حاجة حقيقية إلى أعمال درامية ملحمية ضخمة تكشف للشعوب المعاصرة – شرقية وغربية - ما قام به هؤلاء الساسة على غرار تلك الأعمال التى فضحت خفايا الحروب الصليبية على الشرق وأهدافها الحقيقية!
من تلك المشاهد ما حدث عام 1609م حين قامت جمهورية هولندا على أساس تبنى إعادة اليهود لفلسطين! ثم وجهت مجموعة من الشخصيات الهولندية البارزة إلى الحكومة البريطانية مذكرة تصلح لأن يكون عنوانها الشيطان يعظ! فلقد طالبت هذه الشخصياتُ الحكومة البريطانية بأن يكون للشعب الإنجليزى شرف حمل أولاد وبنات إسرائيل على متن سفنهم إلى الأرض التى وعد الله بها أجدادَهم، ومنحها للأحفاد كمنحة أبدية! تكشف هذه المذكرة كيف كانت تنظر الشعوب الأوربية إلى بريطانيا كزعيمة لتنفيذ ما تم ترويجه كجزء من الإيمان المسيحى! استطاعت بريطانيا أن تخلق حالة هيجان دينى أوروبى غوغائى شعبى ورسمى. كل الحكومات تقريبا أخذت تزايد على بعضها البعض لكى تحظى بشعبية بين شعوبها التى تجرعت الكأس لآخره! حتى الأدباء انضموا لصفوف الغوغائية الدينية الشعبوية القائمة على أكذوبة مارتن لوثر، فقد تم تدشين أدب أوروبى يقوم على فكرة اغتصاب أرض فلسطين ومنحها لليهود! فيقول ميلتون فى قصيدته الفردوس المفقود (إن الله سيشق لليهود طريق البحر ليعودوا فرحين مسرورين إلى ارض الميعاد!)
ثم بلغ الجنون مداه بدعوة الدانمرك لشن حملة صليبية جديدة ضد المشرق العربى، لكن هذه المرة لتوطين اليهود فى فلسطين تمهيدا لتحقق السيناريو المسيحى الجديد!
(4)
بدأ الساسة البريطانيون فى التحرك الفعلى على الأرض لتنفيذ السيناريو بعد أن أشعلوا فتيل التعصب الدينى فى دول أوروبا، فظهرت مجموعة تطهرية بريطانية اسمها (ليفيلرز) دعت بريطانيا لإعلان التوراة دستورا رسميا للبلاد! ثم كان السياسى البريطانى (أوليفر كرومويل) هو أول سياسى بريطانى مهم يتبنى هذه الدعوة حيث دعى فى عام 1655م لإصدار تشريع بريطانى يقضى بتبنى بريطانيا رسميا تنفيذ مشروع إعادة اليهود للأرض المقدسة! هذه هى البداية الحقيقية لهذا الدور الأسود والأقبح لبريطانيا فى هذه التراجيديا الدموية! وكان مشهد (كرومويل) هو فاتحة المشاهد التى لم ولن تنته إلا بأحداث كبرى فارقة فى تاريخ المنطقة!
اتسعت القائمة البريطانية لتمشل أسماءً كثيرة طوال الفترة من منتصف القرن السابع عشر وحتى وعد بلفور1917م، لكن هناك بعض الأسماء الهامة التى ارتبطت بمواقف فارقة. فمثلا كان اللورد الإنجليزى (أنتونى إشيلى كوبر) أول من رفع شعار (وطنٌ بلا شعب لشعبٍ بلا وطن) وذلك فى عام 1839م فى مقال منشور فى ثلاثين صفحة!
قام وزير خارجية بريطانيا (بالمرستون) بتبنى مشروع توطين اليهود فى فلسطين فى النصف الأول من القرن 19م، حيث أنشأ أول قنصلية لبلاده بالقدس 1837م وعين اليهودى المقتنع بالفكرة ذاتها (وليم يونج) نائبا للقنصل هناك، والذى كانت أول أعماله إعداد تقرير عن حجم الجالية اليهودية بشكلٍ دقيق سجلته الوثائق 9690 يهوديا عام 1838م!
وجه تشارلز تشرشل (جد ونستون تشرشل) رسالة رسمية إلى رئيس المجلس اليهودى فى لندن ملخصها أن عودة اليهود إلى فلسطين ميسورة بشرطين، الأول أن يتولى اليهود أنفسهم بالإجماع طرح حق العودة على المجتمع الدولى، والأمر الثانى هو مبادرة الدول الأوربية بدعم هذه الدعوة!
(5)
بدأت بريطانيا فعليا فى توجيه الدعوة ليهود بريطانيا وأوروبا الغربية لتنفيذ إرادة الله وترك الدول التى يعيشون بها والمغادرة إلى أرض الميعاد! ولما لم تجد تجاوبا من اليهود، فقد توجهت ليهود أوروبا الشرقية الذين كانوا يعانون من الاضطهاد فى روسيا ورومانيا، وبالفعل فقد شهدت ثمانينات القرن 19 تدفق آلاف من هؤلاء على فلسطين! وهكذا فقد نجحت بريطانيا فى بدء تنفيذ مخططها فى النصف الثانى من القرن 19م حيث بدأ الاستيطان اليهودى فى فلسطين، وتم إنشاء صندوق مالى لهذا الغرض (صندوق اكتشاف فلسطين) 1856م، وكان اسم (جلعاد) هو الاسم المقترح لأول مستوطنة لتوطين يهود روسيا على مساحة مليون ونصف مليون، وفى عام 1882م تم تنظيم مؤتمر فى فيينا لتنظيم توطين يهود روسيا فى فلسطين..وقبل ظهور هرتزل بعامين كاملين وتحديدا فى عام 1894م أصدر القس (وليام هوشر) الملحق بالسفارة البريطانية بفيينا كتاب (عودة اليهود إلى فلسطين)! 
هذا يعنى أن مشهد هرتزل فى التاريخ لم يكن سوى تحصيل حاصل وليس كما يعتقد البعض فى سذاجة متناهية أنه من أقام هذا الكيان، أو أنه حتى كان صاحب الفكرة! لم يكن سوى اسم من مئات الأسماء التى سبقته وتلته، وغالبهم لم يكن يهوديا، كما كان غالبيتهم سياسيا! لكن ما ساهم فى شهرته هو أنه حين عقد مؤتمره الصهيونى الأول عام 1897م، فقد كانت الهجرة اليهودية تتدفق من روسيا إلى بريطانيا!
هذه الهجرة دفعت الساسة البريطانيين وقتها – حتى من غير المتحمسين دينيا للأفكار التى تحمس لها من سبقوهم – إلى تبنى نفس السياسة النفعية! فنجد السياسى البريطانى (جوزيف تشمبرلين) والذى لم يكن من غلاة المسيحية الصهيونية، نجده يسير على نهج أسلافه ويتعهد لهرتزل فى لقاءٍ ثنائى باستمرار بريطانيا فى تبنى مشروع توطين اليهود فى فلسطين!
(6)
طرح توطين اليهود فى بلاد أخرى مثل أوغندة أو دولة من دول أمريكا اللاتينية لم يكن سوى فكرة أو اقتراح عابر لم يطل عمره عن عمر اللقاء بين كلٍ من آرثر جيمس بلفور وحاييم وايزمان! لم يكن بلفور فى بداية تصدره للمشهد من غلاة المسيحية الصهيونية، لكنه كان سياسيا نفعيا كغيره من ساسة بلاده، أراد التخلص من موجات اليهود الفارين من أوروبا الشرقية إلى بلاده، فقابل حاييم وايزمان وطرح عليه بشكلٍ عابر توطين اليهود فى أى مكان وليكن أوغندة! لكن حاييم وايزمان استطاع التأثير عليه. رفض المؤتمر الصهوينى الرابع وبشكل رسمى أى وطن آخر غير فلسطين، فلم يعارض بلفور ذلك أو حتى يحاول إقناع وايزمان بغير ما يراه ويريده اليهود. كثيرون يبالغون فى حديثهم عن هذا الطرح ويعتقدون أن تنفيذه كان ممكنا. لكن وقائع التاريخ السابقة له تؤكد أنه لم يكن ممكنا بعد ثلاثة قرون من تبنى بريطانيا على الأرض مشروعها الاستعمارى أن يتم إيقافه فجأة حتى لو قبل وايزمان عرض بلفور! دولة بريطانيا العميقة بأجهزتها وساستها خلف الستار لم يكونوا ليقبلوا أن ينهى بلفور ما قامت به بلاده وبذلت الكثير فى سبيل إنجازه فى ثلاثة قرون! 
بعد لقائه بحاييم وايزمان أعد بلفور مذكرة – تسبق وعده الشهير – قال فيها (ليس فى نيتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين، مع أن اللجنة الدائمة تحاول دائما استقصاءها، وأن القوى الأربعة الكبرى ملتزمة بالصهيونية سواء كانت الصهيونية على حقٍ أو على باطل.. جيدة أو سيئة..لكنها متأصلة الجذور فى التقاليد قديمة العهد وفى آمال المستقبل..وهى ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمائة ألف عربى الذين يسكنون الأرض القديمة الآن!)
ثم وجه وعده الشهير عام 1917م إلى أهم شخصية يهودية فى بريطانيا البارون ليونيل والتر روتشيلد وجاء فيه (تنظر حكومة جلالة ملك بريطانيا بعين العطف إلى تأسيس وطن قومى لليهود فى فلسطين، وستبذل حكومة جلالة الملك أقصى مساعيها لتسهيل إقامة هذا الوطن!)
هكذا يتضح أن وعد بلفور لم يكن سوى حلقة من حلقات الدور البريطانى الذى بدونه لما تحققت على الأرض ترهات رجل دين مهما كانت أهميته! وعد بلفور لم يكن هو خالق المأساة، وإنما كان تدشينا لمشهد جديد متسق تماما مع ما سبقه من مشاهد!
(7)
استمر الدور البريطانى بعد وعد بلفور بشكل رسمى علنى وقح ودموى. حيث عينت بريطانيا اليهودى (هربت صموئيل) ليكون المندوب السامى البريطانى فى فلسطين وليصبح أولَ حاكم يهودى فى فلسطين بعد اغتصابها. بدأ هذا الحاكم على الفور فى تنفيذ خطته بتوطين من أربعة إلى خمسة ملايين يهودى فى فلسطين عن طريق مصادرة الأراضى وإقامة المستوطنات، حيث أنه أجلى فى إحدى المرات حوالى ثمانية آلاف مواطن عربى من أرضهم! وقد ساهم فى نجاح سياسته قيام بعض الأسر الفلسطينية ببيع مساحات من أراضيها وممتلكاتها، ثم تكونت بعدها عصابات يهودية مسلحة مثل (شتيرن وأرجون) لإرهاب من يرفض البيع من الأسر الأخرى!
دربت بريطانيا اليهود عسكريا فى الحرب العالمية الأولى والثانية. وهؤلاء العسكريون اليهود المدربون المحترفون هم من خاضوا حرب 1948م أمام الجيوش العربية المتداعية. كان عدد جيش اليهود ثلاثة أضعاف الجيش العربى (أكثر من ستين ألفا فى مواجهة ما يزيد قليلا عن عشرين ألفا)! كان جيش اليهود جيشا حديثا محترفا، وخاض معارك سابقة، ومسلحا بأحدث الأسلحة، ولم يكن (عصابات) بالمعنى العسكرى المفهوم، والذى تنخدع الشعوب العربية بالاسم الشائع (عصابات) وتتعجب كيف قامت العصابات بهزيمة الجيش العربى النظامى!
بريطانيا هى من أنشأت وغرست الكيان الصهوينى فى فلسطين، وعلى مدار ما يقرب من ثلاثة قرون قبل قيام الكيان رسميا بعد هزيمة الجيش العربى عام 1948م. وبريطانيا شريكٌ مباشر فى جميع مشاهد النكبة العربية الدموية. الجيش الإنجليزى لم يكن غائبا عن المشهد وقت إنهاء الانتداب البريطانى وتسليم فلسطين لليهود بعد أن استتب لهم الأمر على الأرض. كثيرٌ من المذابح كانت على مرأى ومسمع وموافقة وأحيانا مشاركة من القوات البريطانية! هذه هى الحقائق التى أصبحت اليوم وكأنها أسرارٌ خفية!
(8)
لم تُسلم بريطانيا الراية للولايات المتحدة كما يعتقد البعض، بل ما حدث هو أن جيلا من ساسة بريطانيا قد هاجر إلى الأرض الجديدة وقد تزامنت هجرتهم مع هجرات يهودية من أوروبا الشرقية إلى أوروبا الغربية..فلم يجد اليهود ملاذا بها فتوجهت أعدادٌ منهم إلى الأرض الجديدة..أرض الأحلام التى تم اغتصابها أيضا من سكانها الأصليين! فوجد اليهود هناك نفس ما وجدوه فى أوروبا! 
فالأوربيون – وعلى رأسهم البريطانيون الذين كانوا أصحاب اليد العليا – لم يرغبوا فى أن يشاركهم اليهودُ غنيمتَهم، تماما كما حدث منذ قرونٍ حين كانت الكراهية متأصلة ضد اليهود أو الساميين! لم يرغب الأوربيون فى أن يتخلصوا من اليهود فى أوروبا فيجدونهم فى أمريكا! 
فى البداية طغت الأفكار المسيحية الصهيونية على المشهد. وأظهرت طوائفٌ من المهاجرين الجدد من الأوربيين مشاعر إيمانهم المسيحى التى غرسها مارتن لوثر فى عقولهم.. يكفى أن نعرف أن أول دكتوراة منحتها جامعة هافارد عام 1642م كانت بعنوان (العبرية هى اللغة الأم)! وأطلق المهاجرون الأوائل أسماءً عبرية على أطفالهم ومستوطناتهم! وكانت أول مجلة هى مجلة (اليهودى!) لكن هذا لم يستمر طويلا، فحين رأى هؤلاء تدفق الهجرات اليهودية من أوروبا إلى الأرض الجديدة قرروا دفع اليهود إلى الهجرة إلى الأرض المقدسة..أرض الميعاد!
لذلك يمكن فهم سر السياسة الأمريكية المستمرة حتى الآن..القصة أكبر وأعمق مما يردده البعض فى بلادنا عن تأثير اللوبى اليهودى فى الانتخابات..موقف السياسة الأمريكية موقف تاريخى قديم ويمثل استمرارا لسياسة بريطانيا، لأن هؤلاء الساسة الأمريكيون المعاصرون هم فى الحقيقة – ومن حيث العقل الجمعى لصناع السياسة الأمريكية – ليسوا إلا أبناء وأحفاد الساسة البريطانيين الذين صنعوا الدراما بعد أن تلقفوا أكذوبة مارتن لوثر!
فبريطانيا ليست تابعة للولايات المتحدة، لكنهم وجهان لعملة واحدة! فعقل الدولة العميقة فى كليهما – فيما يخص هذه الدراما وفيما يخص الفكر الاستعمارى – واحدٌ!
ولا أستبعد تماما أن تكون بريطانيا هى مهندسة ومبدعة السياسة الصهيونية الحالية..فهى التى تبنت أفكار التهجير منذ عشرات السنين..تهجير من تبقى من الفلسطينيين عما تبقى من أراضيهم لتكمل سيطرتها – بغطاء إسرائيلى – على المنطقة ممثلة للحضارة الغربية الإستعمارية..وبشكلٍ شخصى فأنا على يقين بتواطئها مع حركات وحكومات من المنطقة - عربية وغير عربية - لتنفيذ ما رسمته منذ سنوات طويلة! فخلق مجموعاتٍ عميلة ذات أيديولجيات معينة هو سياسة إنجليزية قديمة نعرفها تماما فى مصر!
هل كان يعلم مَن قاموا بقص شريط الأحداث يوم 7 أكتوبر بباقى الفصول؟! وماذا كان على أجندتهم السياسية؟! لن ألقى بإجابتى الشخصية وسأترك للتاريخ هذه المهمة الثقيلة على أى نفسٍ مصرية!
(9)
لماذا استغرب البعض واندهش من ذكر تونى بلير فى ملف التهجير؟! 
هل نعلم تماما من هم أطراف (أهل الشر)؟!
هل نعلم شيئا عما تفعله عائلاتٌ كبرى الآن وعلاقتها بما يحدث فى المنطقة؟! 
ماذا عن العائلة التى تم تقديم وعد بلفور باسمها؟! وماذا عن بقية العائلات التى تُعد على أصابع اليد الواحدة والتى تتحكم فى صناعة السياسية الكونية!
إحدى هذه العائلات متهمة بشكل أكاديمى وفى كتاب إنجليزى (توت عنخ آمون..مؤامرة الخروج)..متهمة بضلوعها فى إخفاء أو تدمير دليلٍ متفرد فى قضية تخص ما يجرى فى فلسطين وربما تتم محاولة زحزحته إلى مصر..هى عائلة متهمة بإخفاء بردية وجدها كارتر فى مقبرة توت عنخ آمون تمثل وجهة نظر الدولة المصرية القديمة فى قصة الخروج! دليلٌ واتهامٌ ساوم بهما كارتر حكومته لإجبارها على الضغط على الحكومة المصرية للسماح له باستئناف عمله فى المقبرة بعد أن أوقفته السلطات المصرية لاتهامه بسرقة بعض القطع وإخفائها!
ساسة بريطانيون على مدار أربعة قرون منغمسون فى المؤامرة والدماء! عائلاتٌ أصولها بريطانية أصبحت أمريكية تتحكم فى السياسة الكونية تعمل خلف الستار ولا ندرى ماذا تخطط لنا!
لماذا نستغرب وجود مكتب لتونى بلير ولماذا لا يكون متواطئا فى ملف التهجير مثله مثل اسلافه؟!
****
هذه ليست تساؤلاتٌ أبحث لها عن إجابة..إنما هى وضعٌ لما يحدث الآن على حدودنا الشرقية فى موضعه الصحيح من كتاب التاريخ حتى يستفيق كل المصريين ويدركون حجم مَن وما تواجهه بلادهم!
مصر تخوض جولة أخرى فى حربٍ هى الأخطر فى تاريخها المعاصر على أمنها القومى وسلامة ووحدة أراضيها.. مصر مستهدفة فى أرضها! مصر تتعرض لحصار اقتصادى شرس ومحاولات لخنقها أو التهامها! 
الدولة المصرية العميقة – التى يسخر منها بعض المصريين ويكيلون لها الاتهامات – هى التى تخوض هذه الجولة من الحرب وتحاول أن تكون سابقة بخطوة أو خطوات للحفاظ على وجود وتماسك واستقلال البلاد المصرية! واليقين بالنصر لا يمنع من دق الناقوس للجميع!