رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ممدوح في كل كتاب.. سيرة علي البدري عميد جيل المظلومين

ممدوح عبدالعليم
ممدوح عبدالعليم

فى تمام الساعة السابعة يوم ٢١ يوليو ١٩٦٠، أُطلقت أول إشارة بث للتليفزيون المصرى أو العربى- بمسمى المرحلة- وبدأت بذلك ثورة يوليو تدشين سلاحها الأهم لنشر الروح الثورية التى كان قائدها جمال عبدالناصر حريصًا على أن تتمثل مبادئها فى كل شىء يتعاطاه الناس إبداعيًا؛ لينضم التليفزيون إلى ترسانة الأسلحة الناصرية بجوار الصحافة والإذاعة والسينما.

كان التليفزيون هو الحجر الضخم الذى ألقى فى بحيرة الإبداع المصرى الساكنة على نجوم مهيمنين سينمائيًا ومسرحيًا منذ حقبتى الأربعينيات والخمسينيات، وأصبح هذا الجهاز الوليد هو موطئ القدم الأهم لكل موهبة تريد الإعلان عن نفسها، وصارت مسلسلاته وبرامجه التى دخلت كل بيت مصرى هى مفرخة النجوم الجدد والشباب على يد الرعيل الأول من مخرجى التليفزيون، وعلى رأسهم ملك الفيديو نور الدمرداش.

كما ظهر، أيضًا، الاهتمام الواضح من قبل المسئولين عن هذا الجهاز الحيوى بالنشء والرغبة الحقيقية فى استثمار مواهب ذلك الطفل، الذى ولد وسوف يترعرع فى كنف تلك الثورة الوليدة، فظهرت برامج من نوعية «يلا نغنى» لمقدمته رتيبة الحفناوى، و«العربى الصغير وجنة الأطفال» لماما سميحة، وبرامج نجوى إبراهيم، وغيرها.

بعد ٧ سنوات تقريبًا من ظهور التليفزيون فى حياة المصريين، تخرجت شابة صغيرة حالمة فى معهد السينما اسمها إنعام الجريتلى.. دخلت إنعام الجهاز الوليد لتحقق هدفها وشغفها الأول الذى التحقت من أجله بالمعهد، وهو أن تكون مخرجة فى التليفزيون.. وبالفعل منذ دخولها انخرطت المخرجة الواعدة فى العمل وراء الكاميرات، من خلال عدد من المسلسلات والسهرات القصيرة والبرامج، حتى أشرفت على برنامج جديد اسمه «مسرح الأطفال» كان الملجأ لأطفال كثيرين من أصحاب المواهب.. من ضمن هؤلاء طفل صغير السن عظيم الموهبة دخل من باب ماسبيرو يومًا، لتتلقفه يد إنعام الجريتلى وتضعه على أول طريق سوف يصل به بعد سنوات إلى أن يكون واحدًا من ألمع من ظهر على تلك الشاشة الصغيرة.

الطفل اسمه ممدوح

واسمه بالكامل ممدوح محمود عبدالعليم

وهو نفسه ذات الشخص الذى حُفر فى وجداننا باسم آخر، وهو «على البدرى»، الشخصية المحورية الأهم لأيقونة الدراما المصرية «ليالى الحلمية».. الاسم الذى ألصقه القدر عنوة فى عنق ممدوح بعد أن صار شابًا يافعًا خلال حقبة الثمانينيات، حيث امتلك كوكتيلًا فريدًا من المواهب الفنية التى كانت كفيلة بجعله نجمًا من نجوم الصف الأول حينها.. لكن على ما يبدو أن ممدوح لم يكن مختلفًا كثيرًا عن على البدرى فى حظهما القليل، حيث انتمى كلاهما إلى جيل مظلوم بحكم نهائى من التاريخ.. جيل لديه أحلام بعرض السموات تستند إلى موهبة ودأب وشغف لا مثيل لها، لكن الأيام والظروف والبشر أبوا أن يحقق الاثنان ممدوح وعلى ما يستحقان من مكانة.

إنعام الجريتلى.. المرأة التى فتحت الباب للطفل المعجزة

فى عدد «آخر ساعة» الصادر يوم ١٨ ديسمبر ١٩٦٨، نُشر تحقيق على صفحتين بعنوان «٤ بنات وراء الكاميرا».. موضوع التحقيق عن جيل جديد يشق طريقه فى التليفزيون لمخرجات واعدات، ويتنبأ المحرر سعيد أبوالعينين فى مقدمته بمستقبل باهر لهن؛ ليكملن ما بدأته مخرجات السينما الأوائل، مثل عزيزة أمير وفاطمة رشدى، على حد وصف المحرر.

من ضمن الأسماء التى تحدث عنها التحقيق رباب حسين، التى أصبحت مخرجة كبيرة بعد ذلك بالفعل، لكن ما يهمنا هنا إنعام الجريتلى التى تناولها التحقيق بإكبار شديد وأبرز دورها الكبير فى التليفزيون منذ أن تخرجت فى معهد السينما فى العام السابق على النشر، وقالت إنعام للمحرر إن المرأة مارست كل فنون العمل التليفزيونى والسينمائى مثل المونتاج والماكياج والديكور والأزياء وبقى الإخراج.. ظلت مترددة نتيجة الصورة الذهنية التى رسمتها ظروف العمل للمخرج بأنه رجل عصبى وانفعالى، ما جعل الجنس اللطيف يتردد قبل الإقدام على تلك الخطوة التى أقدمت عليها إنعام ورباب، وغيرهما.

وعلى الرغم من أن إنعام الجريتلى بعد ذلك أخذها التمثيل بشكل أكبر جعل مستوى لمعانها خلف الكاميرا كمخرجة ليس على مستوى تطلعاتها فى تحقيق «آخر ساعة»، إلا أنها امتلكت دورًا كبيرًا فى احتضان مواهب أطفال كثيرين فى نهاية الستينيات والسبعينيات عبر مشروع مسرح التليفزيون، الذى أشرفت عليه بجانب برامج أخرى للأطفال، وعلى رأس هؤلاء المواهب كان الطفل الموهوب ممدوح عبدالعليم، الذى أبهر الجميع، وأولهم إنعام، بما امتلكه من حضور قوى ومرونة شديد فى تقمص الأدوار، ما جعل إنعام تقف فى ظهره وتلقى بكرة موهبته فى ملعب مخرجى التليفزيون الكبار أمثال نور الدمرداش الذى صار اسمه ملك الفيديو، ويتلقفه نور، والد صديق له فى مدرسة الأورمان اسمه معتز الدمرداش- لاحقًا سيصير لقب الإعلامى الكبير سابقًا لاسمه- المهم أن ملك الفيديو استعان بممدوح الموهوب فى دور الطفل رضا فى مسلسل «الجنة العذراء»، الذى لاقى نجاحًا كبيرًا عند إذاعته بداية السبعينيات.. وبقى طوال تلك الحقبة يتنقل بين الأدوار التليفزيونية المتنوعة التى تناسب سنه؛ حتى جاءت حقبة الثمانينيات وقد صار ممدوح شابًا عشرينيًا يافعًا؛ لذلك كان طبيعيًا أن تأتى له السينما راضخة ومستسلمة لموهبته الاستثنائية وحضوره الجميل.. فجاءه المخرج هشام أبوالنصر وعرض عليه الدور المناسب لهيئته الشكلية فى فيلم «قهوة المواردى»، لكنه وجد فى دور آخر داخل الفيلم فرصة لتغيير الصورة النمطية التى أُخذت عنه، وهو دور لا يعتمد على الوسامة، وإنما يعطى فرصة للموهبة لكى تظهر وتنجلى وتزداد لمعانًا، وهو ما حدث فعلًا بعد عرض هذا الفيلم.

السينما وممدوح.. علاقة غير عادلة لجيل «مهروس» بين جيلين

نجاح الشاب ممدوح المبدئى فى أول ظهور سينمائى له عبر فيلم «قهوة المواردى»، ثم فيلم «العذراء والشعر الأبيض»، ثم «مشوار عمر»، لم يغره بالانصياع لظروف السوق السينمائية وقبول أى دور بغرض الانتشار، لكنه اعتمد أسلوب التدقيق واختيار الأدوار التى يرى أنه يستطيع إخراج قدراته الفنية فيها، لكن للأسف قد تكون تلك الصيغة غير مناسبة لظروف السوق السينمائية فى الثمانينيات التى سيطرت عليها أسماء معدودة على صوابع اليد الواحدة، على رأسهم الزعيم عادل إمام بالطبع ومعه نور الشريف ومحمود عبدالعزيز ومحمود ياسين؛ لذلك بقى هو وأبناء جيله مثل هشام سليم ومحسن محيى الدين وأحمد سلامة وباقى خريجى أكاديمية إنعام الجريتلى فى نظر المنتجين صفًا ثانيًا ما دام الكبار ما زالوا يستطيعون القيام بدور الشاب بطل الفيلم. وما إن بدا أن عادل إمام ورفاقه قد حان الوقت أن يسلموا راية البطولة لجيل جديد، وكانت التسعينيات تلملم أوراقها، فتلقف الراية جيل ثالث أصغر سنًا من ممدوح ورفاقه، وهو جيل هنيدى الذى فتح بفيلمه «صعيدى فى الجامعة الأمريكية» الباب على مصراعيه لأبناء عمره علاء ولى الدين وأحمد السقا وكريم عبدالعزيز وأحمد عز، وغيرهم. ممدوح كان أكثر أبناء هذا الجيل المظلوم والمهضوم حقه بين جيلين رفضًا لهذا الأمر الواقع، وكانت له محاولتان سينمائيتان فى نهاية الثمانينيات غاية فى الروعة والاختلاف، الأولى هى فيلم «بطل من ورق» الذى يعرفه الجميع باسم رامى قشوع، وصارت إيفهات ممدوح- الجديد على الكوميديا- ترند عبر السنوات التالية حتى الآن، مثل جملة رامى الأهم «مبيعرفش يوجفها».

والمحاولة الثانية، وهى التى باع ممدوح من أجلها سيارته للمشاركة فى إنتاج هذا الفيلم مع ماهر عواد وشريف عرفة، وهو فيلم «سمع هس» مع ليلى علوى؛ ليطرق الشاب الموهوب مساحة إبداعية أخرى وهى الفيلم الاستعراضى الكوميدى.. وبشهادة كل النقاد يعتبر هذان الفيلمان شهادة ميلاد وختم جودة لصاحبهما؛ ليتربع على عرش السينما بجانب عادل إمام، لكن هذا لم يحدث والسبب هو ممدوح نفسه.. لكن كيف؟

الحقيقة أن المتتبع لحوارات ممدوح الصحفية خلال تلك الفترة منذ النصف الثانى من الثمانينيات حتى التسعينيات، سيجد روحًا واحدة مسيطرة على الحوار لم تتغير، ويقينًا واحدًا هو المراهنة على الكيف وليس الكم، حيث لم يهتم ممدوح مطلقًا بالانتشار قدر الاهتمام بأن يؤدى فيلمًا جيدًا يحمل رسالة. وإذا أخذنا أحد حواراته الصحفية فى الثمانينيات مثالًا، فلنقرأ عناوين حوار نُشر له فى مجلة «الكواكب» يوم ١٧ يونيو ١٩٨٦، أى قبل الفيلمين، لنعرف ماهية هذا الفنان وقناعاته.. الحوار المنشور على ٤ صفحات كاملة أجراه صحفى الكواكب محمد الدسوقى، وحمل عنوانًا رئيسيًا يقول «ممدوح عبدالعليم: أنا ممثل لدىّ رسالة ولهذا تركت الدبلوماسية»، ثم تأتى بقية العناوين الفرعية لتؤكد ذات المعنى المهم «أرفض الوقوع فى شرك أدوار الولد الحليوة»، وعنوان ثالث «لو تخيلت أننى نجم لن أؤدى دورًا جيدًا»، وعنوان رابع «فيلم جيد أفضل من عشرة أفلام رديئة تسحب من رصيد الفنان عند الجمهور»، وعنوان خامس «مشكلة السينما تكرار الموضوعات والدوران فى حلقة مفرغة». هذا هو ممدوح عبدالعليم، وذلك هو فكره الذى لم يتغير حتى آخر حوار فى عمره أمام منى الشاذلى، وهو الفكر الذى دفع له ثمنًا تمثل فى علاقة غير ودودة مع السينما وصُناعها، لكنه فى الوقت ذاته اكتسب بنفس الفكر احترامًا لنفسه جعل صفة المحترم هى ألصق الصفات به، كما أفردت رفيقة عمره وزوجته الإعلامية شافكى المنيرى فى كتابها الملهم «أيام فى بيت المحترم».

فى حب على البدرى حبيب «ماما أنيسة» وفتى «عكاشة» المدلل

على الرغم من أن ظهور ممدوح عبدالعليم فى شخصية «على البدرى» جاء فى الجزء الثانى ولم يتبلور فعليًا إلا فى الجزءين الثالث والرابع وصولًا للاكتمال فى الخامس، فإنك لا بد أن تلاحظ أن تلك الشخصية تحديدًا كانت لعبة أسامة أنور عكاشة الرئيسية.. فتاه المدلل الذى يستخدمه فى تمرير مكنون مشاعره ومخزون مبادئه وآرائه.. وكأن أسامة قد جمع كل ما يعتمل فى نفسه من مشاعر ووضعها داخل «على البدرى»، هذا الشاب الحالم الذى طحنت الحياة أحلامه كلها أمام عينيه بكل قسوة.

آمن بالحب حتى النخاع، وترجم إيمانه هذا بأن أحب زُهرة، بنت سليمان غانم، حبًا أفلاطونيًا، تخلى من أجله عن طموحاته العلمية عندما خسر بعثته.

وآمن بالناصرية حتى النخاع، أيضًا، إلى أن فتّح عينيه على صورة قاتمة للتجربة كانت غائبة عنه، لكن ظلمات الزنزانة كشفتها واضحة جلية.

توقع أن يكون حبه لزُهرة هو السلوان الذى ينتظره خارج أسوار السجن لينسى به وبها انكسار المبادئ وسحقها أمامه.. فإذا بزُهرة تجهز عليه هى الأخرى بارتباطها برئيسها «عمر» الصحفى الانتهازى، وهى العلاقة التى ستصير لعنتها باقى حياتها. 

وهكذا وضع عكاشة «على البدرى» على حافة الكفر بكل شىء.. وإمعانًا فى الغواية فتح عكاشة له خزائن لقمان، أو قل خزائن سليم البدرى لـ«يفش فيها غله»، وكأن الحياة وأسامة يصران على أن يُخرجا على البدرى الآخر، على الكريه من داخل على الطيب المسالم «تربية أبلة أنيسة وبابا توفيق الحلوة القابضة على مبادئ الحلمية»، وبالفعل خرج «على» الكامن فى عمق الأعماق، وما كان له أن يخرج لولا ذلك الاختبار العكاشى الصعب.

وفوجئنا كما فوجئ أسامة نفسه بعلى السبعينيات، الوحش الذى خرج ليلتهم «على» الستينيات بكل سذاجته.. فجأة أصبح على حوتًا من حيتان الانفتاح، آمن بقانونه ودرس مبادئه بكل ما أوتى من إدراك وغضب.. غضب من قسوة المبادئ الناصرية الزائفة «من وجهة نظره حينها»، وغضب آخر من غدر زُهرة حب العمر التى أجهزت على ما تبقى من على القديم.

لكن على الرغم من الإمبراطورية التى بناها على وظن أنه معصوم من السقوط بعدها، لم يسلم من مقالب أسامة التى بدرها أسفل قدميه كلما خطا خطوة.. وكأن العم أسامة أنور عكاشة اتخذ على البدرى حدوتته الجانبية التى يفرّغ فيها شحناته العاطفية ويسلى بها وقته.

لكن بالرغم من كل ذلك يتضح أن على البدرى الأصلى، تربية أبلة أنيسة وبابا توفيق، ما زال حيًا يرزق داخل على السبعينياتى الانفتاحى المتاجر فى كل شىء.. يستيقظ بين الحين والآخر، وكانت ذروة يقظته فى ذلك المشهد البديع عندما واجه والده وسبب مأساته الأكبر «سليم البدرى».. 

بعد قراءة خبر موت «ناجى السماحى» فى صدر الجريدة الصباحية، خرج على البدرى الطيب ليفصح عن سر أسامة أنور عكاشة وسر ملحمته كلها، لخصها على البدرى فى تلك الجمل الموجزة التى واجه بها أباه سليم البدرى.

قال على البدرى:

«الحلمية كانت دايمًا فيها نوعين من البشر

زى ما تقول جنسين

جنس السماحى

وجنس البدرى

جنس بيدفع دمه وعرقه وحياته 

وجنس بيقبض بس

البدرية فى الظاهر هما اللى عايشين 

والسماحية هما اللى بيموتوا 

لكن فى الواقع هما اللى بيعيشوا 

هما الجوهر».