رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إنها مصرُ.. وإنهم المصريون!

 

(1)

نعم من حق المصريين أن يحتفوا بما أنجزوه، وليس من حق أحدٍ أن يحاول سلبهم هذا الحق أو يزايد على مواقفهم أو مشاعرهم.

 أبدأ بهذا ردًا على محاولات البعض أن يجهض فرحة المصريين بمشاهد الانتخابات الرئاسية، أو أن يسفه من تلك المشاعر أو يضعها فى مقارنة ساذجة مع مشاهد غزة، وينكر على المصريين أن يحتفوا بما دفعوا أثمانه الباهظة على مدار أكثر من عقدٍ كامل من دماء أبنائهم ومقدرات بلادهم وأقواتهم! مشاهد احتفاء المصريين بأيام الانتخابات الثلاثة تعبر عن مشاعر مشروعة، ولن نسمح بأن يتم فرض حداد دائم على المصريين، أو أن تتوقف مصر عن ممارسة حقها فى الحياة. وعلى أى مزايد- مصريًا كان أو غير مصرى- أن يقف أمام المرآة جيدًا ثم يستعيد أرشيف الأحداث على مدار ما يزيد على شهرين حتى يدرك مَن حزن بحق، ومن وقف بحق، ومن تواطأ صمتًا أو فعلا! منذ إسقاطهم وهم يريدون نشر حالة الهزيمة والإحباط بين المصريين. يستغلون كل حدث مهما صغر أو عظم حجمه لتسويق حالة الهزيمة بين المصريين. قرأت سيلًا من هذه المحاولات وكلهم يرددون نفس الحديث.. نحن فى نكسة فكيف يحتفل المصريون؟! 

عفوا فمصر ليست فى نكسة.. مصر لديها شرعية عادلة كاملة فى أن تفرح بهذا الموقف الوطنى الشعبى غير المسبوق فى انتخابات يعتقد البعض أنها محسومة النتيجة! رقمٌ واحد يكفى لمنح هذه الفرحة الشرعية الشريفة.. فمصر قدمت منذ عام 2013 حتى العام الماضى 3277 شهيدًا وأكثر من اثنى عشر ألف مصاب فى مواجهات مسلحة للحفاظ على هذا الوطن! 

أى أن هناك 3277 أسرة مصرية بطول مصر وعرضها قدمت كل واحدة منها ابنا أو أكثر من أبنائها شهيدًا لكى تحفظ لنا هذا الوطن.. وأن هناك أكثر من اثنى عشر ألف أسرة بها مصاب إصابة أقعدته ومنعته من العودة لممارسة مهامه أو حياته.. فحقٌ لكل هؤلاء أن يدركوا أن تضحياتهم لم تذهب هباءً! المصريات والمصريون الذين احتفلوا أمام مقار اللجان الانتخابية، إنما كانوا يرفعون أصواتهم بطريقتهم؛ لكى يسمعها العالم، أنهم جميعًا خلف قيادتهم الوطنية الشريفة فى عدم التفريط فى حبة رملٍ واحدة من أرض مصر! لذلك لا ينبغى أن نسمح لأحد أن يفسد موقفنا أو يفسد فرحتنا.. وآسفٌ أن أقول أنه حين كانت مصر فى مأتم حقيقى منذ سنوات، وحين كانت تنزف دماءً واقتصادًا وظن الجميع بها الظنون، وأنها فى طريق حتفها، حين حدث ذلك فلم يقف فى مأتمنا سوانا!

(2)

شكرا للمصريين الذين أدركوا خطورة المشهد إدراكًا واعيًا عضّد من موقف القيادة وقوى ظهرها فى مواجهة المؤامرة.

هذا الإدراك ما زالت مصر فى حاجة ماسة إليه. فيومًا بعد يوم تتكشف خيوطٌ جديدة من المؤامرة.. تصريحات تصدر عن قيادات حماس، ثم يصدر تكذيب أو توضيح لها أو ادعاء أنها فُهمت خطأ.. خطط إجرامية لجعل غزة غير قابلة لحياة بشر على أرضها بعد انتهاء العدوان.. قنوات تليفزيونية غربية وعربية تستضيف من يتم وصفهم بمفكرين ورؤساء منظمات بحثية يروجون لفرضية أن مصر ستجد نفسها مضطرة للموافقة على ما رفضته.. وأهم المشاهد وأخطرها ما يحدث جنوبًا عند باب المندب، وللأسف نجد مَن يصفق له ويصف من يقومون به بالبطولة!

ما يحدث الآن هو الترجمة الفعلية لما قاله السيسى فى بدء الأزمة أو المؤامرة بأن القادم ربما يكون أصعب.. وحين يقول ذلك رئيس مصر؛ فيجب على المصريين أن يستوعبوه جيدًا ويستعدوا له! 

منطقة باب المندب تمثل شريان اقتصاد حيويًا لمصر؛ لتحكم هذا المضيق فى الملاحة التجارية القادمة لقناة السويس، لذلك فهى منطقة أمن قومى مباشر لمصر. فكيف لمواطن مصرى أن يهتف لمن يهددون أمن بلاده القومى بتهديد هذا الشريان الحيوى للاقتصاد المصرى؟! 

بدأ المشهد على استحياء حين تم إطلاق مسيَّرات أو "أجسام غريبة" من أقصى الجنوب سقط بعضها قريبًا من الأراضى المصرية. ثم بدأت القرصنة بمحاولة دغدغة المشاعر العروبية والدينية، بأن هذا استهدافٌ للسفن الإسرائيلية.. ثم السفن المتجهة للموانئ الإسرائيلية.. وأخيرًا تم توسيع نطاق الاستهداف، حتى تم الوصول للمشاهد الأخيرة.. أن قامت شركات ملاحة تجارية عالمية بوقف سفنها من الإبحار فى البحر الأحمر، أى عدم المرور فى قناة السويس لأجل محدد أو لأجلٍ غير مسمى! بعض الدول والشركات أعلنت أنها سوف تعود لاستخدام طريق رأس الرجاء الصالح! ويجرى الحديث أو التفاوض الآن على تكوين تحالف دولى للسيطرة- أو حماية- على الملاحة فى باب المندب! ومصطلح الحماية فى القاموس الاستعمارى المعاصر يعنى بوضوح السيطرة والهيمنة! هذا هو الفصل الثانى من المؤامرة! الفصل الأول الممتد من عشرات السنوات، وتم محاولة تفعيله يوم السابع من أكتوبر هو محاولة سرقة قطعة من أرض مصر! فلما أجهضت مصر هذه المحاولة تم بسرعة افتتاح الفصل الثانى! تطويق مصر من باب المندب ومحاولة التحكم فى الملاحة فى قناة السويس أو تهديدها أو تقزيمها لصالح ممراتٍ تجارية أخرى! منحوا كل قوى الاستعمار الغربى المعاصر فرصة كبرى لوضع أقدامهم فى باب المندب ثم يحدثونك عن النصر الكبير يوم السابع من أكتوبر! نعم هو نصرٌ، لكنه نصرٌ لمن يرتعون الآن هناك على بوابة البحر الأحمر!

(3)

تصريحات أسامة حمدان التى حاولت حماس بإصرار إنكارها أو تغيير معناها ليست جديدة! حمدان لم يأتِ بجديد إطلاقًا، فقد أعلنت حماس صباح السابع من أكتوبر، على لسان أكثر من متحدث، عن نيتها ورغبتها فى الاتجاه ناحية الحدود المصرية! وكما يقولون فالمجد للأرشيف! فكل تصريحات هنية وشعلان وحمدان وغيرهم بعد ذلك بأيام عن رفضهم مخطط التهجير لا قيمة لها، فالحقيقة أتت مبكرة جدًا. وقد كان لى شرف كتابة مقال مبكر جدًا يوم السابع من أكتوبر ردًا على ما سمعته، وقبل كل ما تلا ذلك من تطورات.. حيث كتبتُ مقالًا بعنوان (ردًا على حديث نواف التكرورى رئيس هيئة علماء فلسطين!) كما أن كل تصريحات هؤلاء بعد ذلك، إنما جاءت حفظًا لماء الوجه بعد أن كشف السيسى مبكرًا جدًا المخطط كاملًا وأعلن رفض مصر التام له! 

جاءت تصريحات حمدان التى أثارت جدلًا كبيرًا لتكشف الوجه الحقيقى لهذه الجماعة.. فتلك التصريحات لا يمكن إطلاقًا وصفها بالخطأ أو العفوية. ففى مثل ما تتعرض له المنطقة لا يمكن أن يكون ظهور أحدهم على إحدى الشاشات حدثًا عفويًا.. ولا يمكن أن تصدر أي عبارة من العبارات دون أن تكون مقصودة وموجهة لمن يعنيهم الأمر! فأسلوب "الهزل الجاد" لا وجود له فى هذه المشاهد الدموية القاتمة! حركة حماس منذ سنوات تحلم وتتوهم بالسيطرة على قطعة من أرض سيناء تكون دويلة لهم لا للفسلطينيين! وما أقوله ليس ضربًا من الجنون أو افتراءً كاذبًا، إنما وقائع محددة واتهامات تم توثيقها رسميًا فى وثائق محلية وإقليمية ودولية! حماس تريد قطعة من سيناء تكون مركزًا لتجمع أطياف الجماعات الراديكالية بحجة مقاومة الاحتلال ثم نجد فجأة جنود الاحتلال الصهيونى يدافعون عن أنفسهم فى سيناء!

حماس هذه الأيام تطلق كثيرًا من التصريحات الموجهة لجهات معينة.. ثم تعود لتوضيح بعضها أو إنكاره إذا ما لزم الأمر ذلك.. وهو أسلوبٌ نعرفه تمامًا من سابق خبراتنا مع الجماعة الأم فى مصر! اعترفوا بوجود إسرائيل وقبلوا الانضواء تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية.. ثم أنكروا بعض ذلك فى وسائل إعلام، وأنكروا كل ذلك فى وسائل إعلام أخرى! وأقولها هنا مبكرًا.. لو رأى رعاة حماس أن مصلحتهم فى انضواء حماس تحت راية السلطة الفسطينية فستفعل حماس ذلك، وقد تفعله مبكرًا جدًا عن كل توقعاتنا! ولو أمر هؤلاء الرعاة قادتها بإعلان اعترافهم بدولة الكيان فسيفعل هؤلاء القادة ذلك فى التو واللحظة!  

(4)

أتذكرون ما حدث فى مصر منذ سنوات باستخدام اللوادر لاقتحام السجون؟! فى خيوط المؤامرة مشهدٌ مماثل معد بالفعل، ويعتقد مخرجوه والمعدون له أنه بإمكانهم تنفيذه فى لحظة معينة مع الحدود المصرية الفاصلة بين القطاع وبين سيناء! ذكر ذلك أحد مَن يتم وصفهم بالباحثين فى معرض حديثه عمّا يمكن أن تفعله حماس.. وهو نفس الشخص الذى حاول استفزاز الدولة المصرية منذ أيام باستقطاعه جزءًا من آليات إخراج الأجانب من غزة للإيحاء للمصريين بأن مصر لا تستطيع إخراج المصريين دون أخذ الإذن من السفارة الإسرائيلية، مما اضطر الدولة المصرية للرد! حين يتحدث هذا الرجل يقلقنى حديثه، خاصة إذا ما كان على شاكلة حديثه الأخير عن أن من مفشلات مخطط التهجير أن تمتنع حماس عن القيام بدفع الفلسطينيين للقيام باقتحام الحدود بلوادر وبلدورزات! حديثٌ مسموم- على شاشة قناة مسمومة غربية ناطقة بالعربية- وكأنه يمهد للمشهد! 

(5)

بعض عبارات السيسى فى الأيام الأولى من العدوان على غزة تبدو وكأنها قراءة لسيناريو يدركه الرجل جيدًا بصورة تذهل المتابعين بعد كل تطور جديد.. لقد قال الرئيس السيسى إن محاولة تهجير الفلسطينيين يمكن أن تتخذ شكلا جعل الحياة فى غزة مستحيلة بعد انتهاء العدوان.. وهو ما يفعله الكيان الصهيونى فى المرحلة الأخيرة من العدوان.. بعد الدهس والتدمير المقصود وليس العشوائى.. وبعد أن أصبحت مساحات كبرى من القطاع عبارة عن خرائب وأطلال.. يقوم الكيان بما أسماه فعلًا عسكريًا سريًا، وهو محاولة إغراق الأنفاق بمياه البحر! المعلومات المسربة أو المتاحة عن التفاصيل قليلة، لكنها تؤكد أن دولة الاحتلال الصهيونى قد شرعت فى ذلك بالفعل، وأن ذلك سيستغرق أسابيع.. هذه جريمة لا تقل عمّا تقترفه من جرائم فوق الأرض.. يحتاج الأمر إلى مجموعة كبيرة من الخبراء والأكاديميين والعلماء من مختلف أفرع التخصصات؛ لكى يقوموا بتقديم تقييم علمى لنتائج هذه الجريمة وما سوف يترتب عليها من نتائج بيئية ولوجستية على أرض وواقع ومستقبل غزة! أسئلة كثيرة تقفز إلى الذهن.. ماذا عن أعضاء حماس المتخفين تحت الأرض؟ هل سينتظرون حتى يتم إغراقهم، أم أنهم كعادتهم سيختفون من المشهد وسيتركون ما بقى من القطاع وأهله لمصيرهم؟! وهل سيكون لذلك تأثير على الأراضى المصرية المجاورة للقطاع؟! 

سؤال خارج عن السياق، لكنه يفرض نفسه بشدة بعد أن سجل الإسرائيليون المفرج عنهم من الرهائن لدى حماس شهاداتهم عن كرم الضيافة وحسن المعاملة التى لاقوها من حماس من مأكل ومشرب وعلاج.. لماذا لم يكن لأطفال فلسطين نصيبٌ من هذا الكرم، سواء فى توفير ملاذٍ آمن لهم تحت الأنفاق أو توفير بعض الطعام أو الأدوية لهم؟!

(6)

بعد أن تكشف كثيرٌ من خيوط المؤامرة.. أنا قلقٌ على بلادى، لكننى مطمئنٌ تماما أنها ستعبر هذه المحنة وسوف تنتصر.. ويقينى هذا لا ينبع من شعاراتٍ جوفاء، إنما يرتكن إلى وقائع وأسباب حقيقية واقعية محددة.. السبب الأول هو ما حدث فى عام 2008م ومقارنته بما حدث يوم 7 أكتوبر الماضى. دعونا نتخيل لو أن الدولة المصرية لم تقم بعد 2013م بما قامت به على حدودنا الشرقية، ثم فوجئتْ بما حدث يوم السابع من أكتوبر، ما الذى كان سيترتب على ذلك؟! بعد ثورة يونيو قامت مصر فى عهد السيسى بإقامة حدود قوية بطول حدودنا الشرقية، كما قامت بتدمير ما يزيد على ثلاثة آلاف نفق أقامتها وتاجرت بها وبنا حركة حماس! فى عام 2008م حدث اختراق للحدود المصرية واقتحام ما يزيد على 300 ألف فلسطينى لتلك الحدود- حسب ما ذكره وزير خارجية مصر الأسبق أبو الغيط! بعد ثورة يونيو، قامت الدولة المصرية بإخلاء الشريط الحدودى وأقامت حدودًا قوية حقيقية. لو لم تفعل ذلك ثم حدث ما حدث يوم السابع من أكتوبر لأصبح المشهد كالتالى.. صباحًا كانت هجمات حماس.. بعد الظهر انطلقت بالفعل دعاوى تحريضية من بعض قيادات حماس- كما وثقتُ ذلك فى المقال السابق الإشارة إليه- للمصريين بالاتجاه إلى حدودهم الشرقية والقيام بعمليات عسكرية، وهذه دعاوى صريحة لمناصرى الجماعة الإرهابية فى مصر للقيام بذلك.. ثم كانت الخطوة الثالثة من متحدثى الكيان الصهيونى بتحريض أهل القطاع للاتجاه جنوبا للحدود المصرية.. لو لم تقم إدارة السيسى بما قامت به عامى 2014 و2015م لقامت حشود من حماس ومن غيرها بعشرات أو مئات الآلاف باقتحام الحدود المصرية مساء السابع من أكتوبر، ولأصبح هذا واقعًا بالفعل ولتم جر مصر قسرًا لمواجهة عسكرية لم يكن أحد يعلم متى وكيف ستنتهى! هذه هى الحقيقة التى لا يدركها كثيرٌ من المصريين اليوم! وهذا أول أسباب ثقتى ويقينى فى أن القائمين على إدارة الدولة المصرية على قدر المسئولية، وعلى قدر مصر ذاتها! لقد خاضت مصر المواجهة مبكرًا واستبقت المؤامرة بسنوات وليس بأيامٍ أو أشهر وكفت نفسها وشعبها دفع ثمنٍ كبير ربما كان سيؤدى إلى رجوعها للخلف سنواتٍ أو عقودٍ طويلة! القائمون على إدارة مصر منذ ثورة يونيو ليسوا هواة أو مغامرين، إنما رجال دولة وطنيون مخلصون ومؤهلون- علميا ووطنيا- تمامًا لما يقومون به ولما تواجهه مصر! 

(7)

السبب الثانى فى يقينى بانتصار مصر فى مواجهتها الحالية هو مراقبة أداء الإدارة المصرية فى العقد السابق وفى إدارتها ملف الأزمة الحالية. يمكن أن نلخص سيرة إدارة السيسى فى حكم مصر فى عبارة واحدة.. هى أنها قد درست جيدًا ما وقعت فيه جمهوريات مصر السابقة من أخطاءٍ كبرى أدت لسقوطها أو تدهورها أو تقهقر مصر فى ملفات بالغة الحيوية والحساسية.. فخطأ جمهورية عبد الناصر فى عام 67م باتخاذ خطوات سياسية متسرعة غير مدروسة وأكبر من قدرات الدول،ة قد أدى للكارثة التى أجهضت مشاريع مصر التنموية.. الاستجابة للوقوع فى الفخ كان هو الخطأ الأكبر.. بلا شك فقد كانت إدارة السيسى فى الأزمة تضع نصب عينيها هذا الدرس فأجهضت محاولة إجبار مصر على الوقوع فى هذا الفخ مرة أخرى.

وكان خطأ الجمهورية الثانية هو إقدام قيادتها بعد نصر أكتوبر على فتح أبواب مصر على مصراعيها أمام جماعات الإسلام السياسى، وقد قاد هذا الخطأ مصر إلى تيه دموى واقتصادى ومجتمعى انتهى بنهاية دراماتيكية باغتيال قيادة الدولة ذاتها.. تم اغتيال الشهيد السادات وبقيت فى مصر حدائق الشيطان، واستمرت الجمهورية الثالثة فى محاولات خاطئة للتعايش مع هذا النبت الشيطانى الأسود دون أن تتجاسر على محاولة اقتلاعه، كما ارتكبت خطأ قاتلا آخر، وهو تقاعسها عن البدء فى خطط الإصلاح الاقتصادى الحقيقى وجعلت من الوهم حاكمًا، فاستمرأنا نحن العوام هذا الوهم الاقتصادى وأطلقنا لأنفسنا العنان فى الاتكاء على الدولة وابتزازها مقابل صمت الجميع، صمت الإدارة عن العمل الحقيقى، وصمت الشعب عن خروجه خارج التاريخ! هذا الخطأ المزدوج- ترك حدائق الشيطان والتقاعس عن الإصلاح الاقتصادى الحقيقى- أدى إلى النهاية الحتمية بسقوط هذه الجمهورية عام 2011م!

من يتأمل أداء السيسى فى سنوات حكمه السابقة يتأكد أن إدارته قد درست هذه الأخطاء دراسة علمية كاملة، وقررت بشجاعة تاريخية نادرة أن تمد أصابعها لكتل اللهب، سواء كان ذلك فى اجتثاث جذور الجماعات الشيطانية المارقة، أو مواجهة المصريين بحقيقة أوضاعهم الاقتصادية ووجوب تجرع الدواء الاقتصادى المرير!

لذلك فالثقة فى قدرة الجمهورية المصرية الرابعة على مواجهة هذا التحدى الجديد تنبع من أنها قد استوعبت دروس الماضى جيدًا، وقد فعلت ذلك بأسس وأساليب علمية حقيقية. فهى دولة لا تُفاجأ بما يحدث حولها، كما أن لديها حلولها التى تجيد استخدام كلٍ منها فى وقته تماما!

(8)

كيف لشعبٍ نعرف جميعًا مفرداته العقلية ومدى ما تعرض له من عمليات غسيل مخ عنيفة فى العقود السابقة، ونعرف أن البحث المعلوماتى الموضوعى الدقيق، وبكل أسف ليس من مفرداته حاليًا، وغالبيته من الطبقات التى تعانى اقتصاديًا، كيف لشعبٍ هذه مفرداته أن يستوعب كل هذه المؤامرات المعقدة التى تُحاك ضده وضد بلاده فى هذه الفترة الوجيزة؟! استوقفنى هذا التساؤل وأنا أتابع مشاهد الانتخابات الرئاسية، أو أستمع لمحادثات عارضة هنا أو هناك بين أفراد من عامة المصريين ربما لم ينشغلوا قبل ذلك بأى أحداث سياسية.

فمما لا شك فيه أن نسب المشاركة فى الانتخابات الرئاسية فى مصر يمكن اعتبارها من النسب الأعلى، سواء فى تاريخ مصر، أو حتى عالميًا، خاصة لو كانت انتخابات تقريبًا محسومة لصالح الرئيس السيسى.. وحين أقول محسومة فأنا أعنى أن هذا الحسم هو تعبير حقيقى عن الواقع المصرى، ولا أعنى الحسم الذى كان سائدًا أيام مبارك! 

لذلك فعلى الجميع أن يدرك أن ارتفاع هذه النسب يعنى شيئًا آخر.. يعنى أنها انتخابات أشبه بالاستفتاء الشعبى على موقف القيادة المصرية، سواء فيما قدمته وأنجزته اقتصاديًا ومجتمعيًا، أو إدارتها الملف الأخير.. هذه النسبة من المشاركة أعتقد أنها رسالة من شعب مصر لمن يهمه الأمر خارجها! 

أما محادثات الناس التى قدر لى أن أستمع إلى بعضها عَرَضا، وكلها عبارات عما مرت به مصر ووجوب الحفاظ عليها، فحين نضعها بجوار مشاهد أخرى منذ السابع من أكتوبر من الثبات الانفعالى للمصريين فى مواجهة الدعوات التحريضية الأولى، ومشاهد أداء القائمين على المؤسسات الدينية من الأئمة والوعاظ بالقيام بواجباتهم بمنتهى المسؤلية، فحين نضع كل هذا فى حزمة واحدة سنخرج بنتيجة ساطعة.. أن الوعى المصرى وفى سنوات قليلة قد قفز قفزة كبرى مفاجأة للكثيرين، وأنا منهم! فقد كنتُ أخشى كثيرًا منذ السابع من أكتوبر مما قد تواجهه مؤسسات الدولة المصرية بالداخل من احتمال وقوع مصريين فى الفخ!

لماذا حدث هذا فى هذا الوقت الوجيز؟ الإجابة تكمن فى كلمة واحدة.. لأنهم المصريون! نعم هذه هى الحقيقة العلمية. لكل شعب خريطة جينية تحدد هويته وسلوكه فى شتى المواقف، ويمكن بدراستها جيدًا أن نتوقع هذا السلوك..المصريون لديهم عشق اسثنائى لبلادهم.. يعانون.. يسخرون من معاناتهم.. وأحيانا من أنفسهم.. يطلقون النكت الفكاهية.. ربما تجد أحدهم يعانى فى شراء احتياجات أسرته.. يسخرون من سعر كيلو البصل.. يتندورن على أزمة السكر.. لكن بمجرد استشعارهم أن أقصى حدود بلادهم فى خطر تنتفض عروقهم ويلقون بكل ما سبق إلى سلة المهملات ويقدمون هذه المشاهد التى رأيناها فى هذه الأيام الثلاثة للانتخابات! حتى لو كانوا يدركون أنهم حتى لن يزوروا هذه البقعة من أرضهم طوال حياتهم، لكنها باختصار..أرضهم!

هذا السر لا يدركه الأغبياء الذين يُجهدون أنفسهم فى مراقبة ردود أفعال المصريين على صفحات السوشيال ميديا أثناء أزمات البصل والسكر! 

هذا السر الذى أعلمه جيدًا هو ثالث أسباب يقينى، وهو الذى يقف دائمًا كحائط صد أمام قلقى على مصر.. فقلقى عليها مشروع، لكنه يبقى فى حده الآمن الذى لا يجعلنى أفقد الثقة فى انتصارها! 

(9)

ولا يمكن قطعًا أن نهمل أحد أهم المفردات فى المشهد التوعوى المصرى، وهو الإعلام المصرى مجتمعًا وبشكلٍ عام من قنوات إخبارية وصحف ومنابر إعلامية، وعلى رأسها قناة القاهرة الإخبارية والوثائقية المصرية وإكسترا نيوز وبرامج التوثيق، مثل برنامج الشاهد.. تأكدت من قوة هذا الدور وتأثيره، وما سببه من قلق للمعسكر الآخر من بعض المشاهد العابرة.. فهذا الرجل- الذى يثير حديثه عن مصر قلقًا خاصًا لدى، لأنه غالبًا ما يكون رأس حربة يتم إطلاقه لبث بالونات اختبار خطط غير شريفة ضد مصر- وفى نفس الحوار الذى ذكر فيه احتمالية إقدام حماس بدفع الفلسطينيين على اقتحام الحدود باللوادر عرّض بالإعلام المصرى صراحة! فى رده على سؤال عن حديثه عن تدخل السفارة الإسرائيلية فى قوائم المصريين العائدين من غزة، أسهب فى تبرير حديثه، ثم قال.. "بعد رد وزارة الخارجية المصرية انطلقت أبواق الإعلام المصرى تستهدفنى..!" مصطلح "أبواق الإعلام المصرى" فى العقد المنصرم حتى الآن هو مصطلح موجه ضد الخطاب الإعلامى المصرى الوطنى المساند للدولة المصرية فى مواقفها ورؤيتها بما فيها الموقف الأخير! لقد أصبح هذا المصطلح من العبارات الكاشفة أو ال "كى ووردذ" التى يمكن من خلالها تحديد شخصية من يتحدث على طريقة "تحدث كى أراك أو أعرفك!".

من مشاهد الوعى الإعلامى المصرى هذا المصطلح العبقرى الذى تستخدمه قناة القاهرة الإخبارية فى الإشارة إلى المقاومة الفلسطينية، فهى تستخدم مصطلح "الفصائل الفلسطينية" ولا تستخدم مصطلح لتسمية فصيل معين! وهذا المصطلح "الفصائل الفلسطينية" هو الحق والحقيقة. فمنذ انطلاق المقاومة الوطنية من قلب القاهرة فى أوخر ستينيات القرن الماضى، حمل لواء المقاومة الشعب الفلسطينى بكل طوائفه ودياناته ومسمياته من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وكانت مقاومة موحدة ذات رؤية واحدة لتحرير الأرض، حتى خرج علينا هذا الفصيل الذى شق الصف، ولأول مرة فى تاريخ القضية الفلسطينية تم سفك دماء فلسطينية ببنادق فلسطينية فى أهم مشهد من مشاهد نجاح الكيان الصهوينى! 

لذلك فمحاولة تزييف التاريخ هى محاولة باطلة.. نحن لا نعرف هوية كل من يقاتل الآن فى قطاع غزة.. والأفضل هو ما سمته قناة القاهرة الإخبارية "الفصائل الفلسطينية" إحقاقا للحق وحرصا على الحقيقة! 

بقيت همسة واحدة أود أن أهمس بها فى أذن القائمين على تلك المؤسسة الإخبارية الإعلامية الأهم.. أتمنى أن يتحلى بعض المحاورين ببعض الجرأة فى الحوار، أو حتى ببعض الوقاحة الإعلامية المشروعة حين يسمعون من أحد ضيوفهم ما يخالف الحقيقة أو يحمل تعريضًا بموقف مصر بأى شكلٍ من الأشكال، بغض النظر عن شخصية الضيف! وربما لن يكون هذا ممكنًا دون أن يكون هؤلاء المحاورون على دراية معلوماتية وتاريخية بالملف، وليس فقط بموقف مصر الحالى.. وليس عيبًا أن تقوم إدارة القناة بتنظيم دورة علمية سريعة ومكثفة يقوم بها أساتذة تاريخ يقدمون فيها لهؤلاء المحاورين شروحًا تاريخية وافية عن تاريخ الحدود الشرقية لمصر وتاريخ القضية الفلسطينية منذ العصور القديمة وتاريخ مصر المعاصر! فمذيع فى برنامج على قناة القاهرة الإخبارية هو موضع يحتوى على مسئولية كبرى وليس مجرد شخص يطرح أسئلة وينصت فى استقبال الإجابات، لكن ينبغى أن يكون محاورًا مستعدًا بكل المعلومات والحقائق، ولا يسمح بأن يُستدرج أو حتى يصمت عجزًا عن الرد الموثق أو حتى تأدبًا مع الضيف!

هذه القفزة الإعلامية الوطنية لا يمكن فصلها عن مشاهد النضج المصرى العقلى العام الذى حقق قفزة كبيرة مقارنة بقصر المدة فى عمر الشعوب!

(10)

فى ساعات قليلة سوف يتم إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية المصرية.. وهى لحظة أخرى لفرحة مصرية مشروعة مدفوعة الثمن مسبقا.. لن نسمح لأحد أن يسلبنا هذا الحق فى الاحتفاء بما دفعنا ثمنه. لا نسمح لأحد بتعليق دماء شهداء غزة فى عنق مصر، لأن هذا إفكٌ مبين! 

فدماؤهم معلقة فى رقاب هؤلاء "من قتلهم من عصابات الكيان الصهيونى المسماة كذبًا بجيش دفاع..من ادعوا بأنهم حققوا نصرا على هذا الكيان وقد تركوا أطفال غزة فى العراء هدفًا للقتل بينما وفروا لأنفسهم ولمن خطفوهم الأمان والمطعم والمشرب والطبيب المعالج.. الدول العربية والإسلامية التى اكتفت بالكلام ولم تتخذ خطوة واحدة عملية مثل خطوات مصر منذ اليوم الأول للعدوان..القوى العظمى سواء المساندة للكيان الصهيونى، أو التى تدعى أنها مناوئة له لكن لا مصالح مباشرة لديها فى وقف العدوان فصمتت وتواطأت كما تواطأت علينا عام 67م وخدعتنا.. فهؤلاء هم الذين يجب أن تُعلق فى رقابهم دماء شهداء غزة وليس مصر!

للمرة الألف.. جيش مصر للدفاع عن مصر..انتهى عصر الأخطاء المصرية الكبرى..فهناك فى المنطقة جيوش إسلامية وعربية كبرى مثل جيوش بعض دول الخليج والجيش التركى والجيش الإيرانى!

المناقشات الصفيقة عن قبول أو رفض حركة حماس أو غيرها، أو قبول هذه الدولة أو تلك أو رفض هذه الحكومة الغربية أو العربية أو تلك لتهجير أهل القطاع إلى سيناء، هذه المناقشات الوقحة لا تعنينا فى شىء، لأن سيناء جزء من دولة، وهذه الدولة قادرة على حماية أراضيها، وهى صاحبة السيادة على هذه الأراضى، وكل أرض مصر ليست للمنح أو الهبة أو معروضة فى مزادات النخاسين! فلتتحدث كل جماعة، أو دولة عما يخصها وتملك وتستطيع تنفيذه! مصر قادرة بشعبها ومؤسساتها وقياداتها على حماية كامل ترابها من كل الطامعين سواء تدثروا بأقنعة الأخوة أو الصداقة أو كانوا سافرى الوجوه!

المصريون على موعدٍ مع لحظة احتفاء واحتفال مشروعة ببلادهم.. لمصر كل الحق أن تتزين وتستقبل الفترة الرئاسية الجديدة للسيسى فى كامل زينتها وبريقها، ليس لأنها لا تشعر بجيرانها، ولكن لأنها تخضبت بالدماء كثيرا من أجل الحفاظ على ترابها ومن حقها أن تحتفى بأى مشهد انتصار.

وبعد الاحتفاء علينا أن نستكمل مشهد الاصطفاف الوطنى دفاعًا عن هذه الأرض، فالمعركة لم تنتهِ بعد، وهى معركة طويلة المدى حتى بعد صمت آلات القتل.. هى معركة النفس الطويل.. الملاحة فى قناة السويس وُضعت فى مرمى نيران الحملة الاستعمارية.. ومصادر العملة الصعبة كالسياحة تأثرت كثيرا..وطائفة من "الضيوف" تتاجر بأزمة الدولار فى مصر علانية لتوفير أموال للإنفاق على آلاف الأسر المنتمية لجماعة الإخوان الإرهابية سواء كانت أسر مصرية أو تنتمى لجنسية "لا مؤاخذة" الضيوف! 

هى معركة طويلة المدى، لكنها محسومة لمصر لما سبق وشرحته.. ولسببٍ يسبق كل ذلك هو الحق.. فالله تعالى هو الحق والعدل.. وموقف مصر موقف اتسم بالشرف والحق والعدل.. فلن يخذلها الله تعالى، شريطة أن يستمر المصريون فى هذا الترابط الوطنى الجمعى.. وألا يتقهقرون للوراء انسياقًا خلف بعض أصحاب الهوى أو الغرض أو من يتوقون للعب دور حصان طروادة!

هذه هى مصر الآن لم تخذلنا كعادتها.

وهؤلاء هم المصريون وبعد كل ما تعرضوا له كانوا على قدر الحدث ولم يخذلوا بلادهم أو يخذلوا أنفسهم.

إنها مصر.. كلمة سر هذه البقعة من العالم التى اصطفاها الله وكرمها بتلاوة اسمها طالما تُلي كتابه الكريم، وبمنحة الأمن السماوى!

وإنهم المصريون.. سادة الحضارة الكونية.. وأقدر من يدركون قيمة الأرض والوطن!