رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصرُ الشريفة الكبيرة الواثقة.. تتحدث عن نفسها

 

(1)

عفوًا يا مولانا.. فمصر لم تسقط فى اختبار غزة

السبت 18 نوفمبر وبعد مذبحة مدرسة الفاخورة أصدر منبرٌ إعلامى ناطقٌ بلسان مؤسسة مصرية دينية كبرى بيانًا أدان فيه جرائمَ الكيان الصهيونى..ثم قال فى بيانه..(لقد فشلنا جميعًا فى اختبار غزة ونجح الفلسطينيون فى إثبات أكاذيب الاحتلال....)، ثم تلقفت وسائل إعلام البيان وصدرته باسم قيادة دينية مصرية رمزية رفيعة - لم تكن تلك القيادة حاضرة فى الفعالية المصرية الأهم فى استاد القاهرة - ونسبت إلى تلك القيادة عنوانًا رئيسيًا (...الجميع سقط فى اختبار غزة إلا الفلسطينيون!)

بعد أن توقفت جرائم الكيان بصفة مؤقتة لمدة أربعة أيام، يمكننا الحديث بصراحة دون تحرج، فأقول لمولانا الذى صاغ البيان..عفوًا يا صاحب الفضيلة..فوطنك مصرُ لم يسقط فى اختبار غزة.. وغير مقبول أن تتحدث قيادة دينية مصرية بهذا الحجم بنفس منطق بعض عوام الناس ممن يهرفون بما لا يعرفون أو يقدّرون! 

رغم أن المؤسسات الدينية المصرية قامت بدورٍ جليل ومهم ومسئول فى تلك المحنة وتصدت بمسئولية لمهمتها بنشر الوعى بين المصريين، لكن جاءت هذه العبارات فى هذا البيان الرسمى لتلقى مجددًا ببعض التساؤلات عن موقف تلك القيادة الدينية الهامة ومدى إيمانها بفكرة مسئولية كل دولة وطنية عن موقفها وشعبها وحدودها.. الحديث الشمولى عن سقوط (الأمة) فى اختبار غزة يعيدنا أيضًا لنفس الفكرة القديمة التى حاولت دائمًا أن تلغى شخصية ودور الدولة المصرية الوطنية، وتلقى على مواقفها الشريفة والشجاعة بالضباب اتكاءً إلى عقيدة لا تؤمن حقيقة بفكرة الدول الوطنية المستقلة وتصر على الترويج لفكرة أن (الأمة) إنما هى فقط (الأمة الدينية!).

لا أدرى كيف ترى هذه القيادة الدينية موقف مصر منذ الساعات الأولى ليوم السابع من أكتوبر! وكيف لا تدرك تلك القيادة عظم الدور الذى قامت ولا تزال تقوم به مصر.. كيف لم تدرك أن موقف مصر - الذى نجحت فيه باقتدار سوف يسجله التاريخ – منذ اليوم الأول هو الذى منع طرد أهل القطاع من أرضهم، وهو الذى فرض على قوى عظمى - راكضة بقطعها العسكرية على شواطئ المتوسط - أن تعيد النظر فى مخططها الاستعمارى وتعيد حساباتها مرة أخرى فقط بناءً على الموقف المصرى الصلب، والأهم أنها لا تدرك مسئولية القيادة المصرية عن سلامة الأراضى المصرية، وأمن شعب مصر بحكم الدستور والقانون، لو كانت هذه القيادة تدرك ذلك لكان أولى بها أن تصدر بيانًا تساند فيه موقف بلادها وتثمنه وتنزله منزله الذى يليق به، بدلًا من أن تضعه فى سلة واحدة مع مواقف بلاد عربية وإسلامية - أشاحت صراحة بوجهها عما يحدث وكأنه لا يعنيها فى شىء، أو بلاد أخرى اكتفت بحديثٍ رنان بينما كانت تقف سرًا فى خندق الكيان!

(2)

بعد الهدنة..أسئلة مشروعة

مقياس النصر أو الهزيمة فى أى معركة هو مدى تحقيق الأهداف السياسية المحددة مسبقًا، أى أن الفيصل هو مقارنة الأوضاع السياسية لطرف الصراع قبل وبعد المعركة. منذ صباح السابع من أكتوبر لم يعرف أحد خارج جماعة حماس ما هى الأهداف التى تم وضعها لدخول هذه المعركة إن جاز لنا أن نسميها معركة! ما قرأناه فى الأسابيع الماضية مثير للشفقة.. كثيرٌ من البسطاء داعبتهم يوم السبت الأول أحلامٌ كبرى غير واقعية.. وبعضهم فتح المصحف الشريف على سورة الإسراء وكأنه يرى مقاتلى حماس وهم يدخلون المسجد الأقصى كما دخله الصحابة الأوائل! 

والآن بعد الهدنة يمكن للجميع أن يلقى بكومة من الأسئلة المشروعة..أكثر من خمسة عشر ألف شهيد غالبيتهم من الأطفال والنساء.. خمسة وثلاثين ألف جريح..نصف البنية التحتية للقطاع تم تدميرها.. جرائم حرب ضد الصحفيين والأطباء..وإعادة احتلال أجزاء من القطاع واستباحته..كل هذا مقابل ماذا؟ ما الذى كان على أجندة حماس لتحقيقه؟ هل تجهل حماس ما كان سوف يحدث بعد هجماتها المزعومة؟ هل اتخذت حماس قرارًا بالتضحية بأكثر من مليوني فلسطينى مقابل سجنائها؟ أو مقابل ما لا نعلمه ولا يعلمه الفلسطينيون أنفسهم؟! حديث غريب مع إيمان نافع زوجة عميد الأسرى الفلسطينيين..لم تذكر المرأة فى حديثها كلمة واحدة عن شهداء غزة.. كل حديثها عن خروج الأسرى! حديث مع زوجة معتقل آخر وصفت ما يحدث بأنه انتصارٌ كبير للمقاومة! ما هذا العبث والجنون؟! وماذا عمن قُتلوا فى المقتلة الكبرى؟! هل كان هناك اتفاق على التضحية بمن وصفهم موسى مرزوق قبل ذلك بأنهم (لاجئون تقع مسئولية حمايتهم على دولة الاحتلال) مقابل أسرى بأعينهم ينتمون لفصائل بعينها؟! 

مَن الذى قام بإعطاب القبة الحديدية؟ فلسطينى أم إسرائيلى؟! لو كان فلسطينيًا فهذا منطقى بأنه جزء من الخطة والهجمة.. لكن لو كان إسرائيليًا كما بدأت بعض وسائل الإعلام فى الهمس الخافت والتسريب على استحياء.. يصبح السؤال أكثر إلحاحًا وألمًا! لماذا وما هو الثمن الذى تم الاتفاق عليه؟! 

كيف ولماذا أتت كل هذه البارجات الحربية بهذه السرعة؟! 

ما سر الدور الذى لعبه حزب الله فى اليوم الأول من تصعيد خطابى كبير ثم تقريبًا إعلان الانسحاب على الهواء مباشرة فى خطاب عبثى لنصرالله؟!

هناك سؤالٌ يتحاشاه كثيرون ويتعذرون لتحاشيه بأعذار شتى.. لقد قبل اليهود وقاموا بتلويث الديانة اليهودية عبر نصوصٍ تراثية تلمودية.. لقد قاموا بصبغة ديانتهم بعنصرية بغيضة كل الديانات منها براء..ادّعوا أن الله منحهم حق قتل كل من هو ليس يهوديًا، بل وزادوا عن ذلك بادعاء مشروعية جرائم غير أخلاقية مثل قتل الأطفال والنساء والتمثيل بالجثث واستباحة كل شىء عبر تفسيرات ضمها التلمود..رضوا بذلك وصاغوه وجعلوا منه عقيدة يتم تلقينها للصغار..ولم يعودوا يشعرون بأى خجل أخلاقى من إعلان ذلك!

الآن..أتقدم بصفتى مسلمًا بهذا السؤال الذى تحاشاه الجميع..هل فى الإسلام يباح خطف النساء والأطفال أو قتلهم حتى لو كانت المعركة ضد عدو متجرد من كل القيم الأخلاقية؟! هذه الليلة أفرجت حماس عن رهائن إسرائيليين وأجانب، غالبيتهم من النساء والأطفال! وحماس تقدم نفسها بأنها (حركة مقاومة إسلامية)، بل ويقدمها البعض بعد السابع من أكتوبر بصفتها حركة مجاهدة تمثل فكرة الجهاد الإسلامى! هل فى الدين الإسلامى - قرآنًا وسنة وفقهًا وفكرًا - ما يبيح خطف هؤلاء الأطفال والنساء ومنهم أجانب غير إسرائيليين، أى أنهم ليسوا جنود احتياط فى الكيان الصهيونى؟!

يوم السابع من أكتوبر سمعتُ بأذنى من أكاديميين عرب على نفس القناة عبارات تحتفى بما فعلته حماس وتحاول أن تضعه فى مكانة أعلى من نصر السادس من أكتوبر.. مصر فى حروبها وفى حرب أكتوبر تحديدًا لم تقتل أو تخطف مدنيًا واحدًا..حاربت عسكريين وقتلت عسكريين وأسرت عسكريين..فما موقف هؤلاء اليوم بعد أن شاهد العالم نساءً وأطفالًا اختطفتهم حماس؟!

(3)

قبل تزييف التاريخ..مصر هى التى أنهت أكذوبة الجيش الذى لا يُقهر!

هل كان هدفُ حماس كسرَ الجيش الصهيونى؟ طوال اليوم الأول كانت هناك جملة من الأكاذيب يتم ترويجها عمدًا عبر شاشة تلك القناة المتصهينة والناطقة بلغتنا العربية..من تلك الأكاذيب أن هجوم (طوفان الأقصى) قد حطم أسطورة الجيش الصهيونى الذى لا يُقهر! كان من الممكن أن نعتبر هذه الأكذوبة من الدعابات، لولا أننا وجدنا من بين المصريين من يصدقها ويروج لها وكأن التاريخ تم محوه! أى جيشٍ هذا الذى لا يُقهر؟! كانت هذه العبارة لها بعض الوجود حتى يوم السادس من أكتوبر عام 1973م! لقد أصبحت هذه العبارة من مخلفات التاريخ منذ مساء ذلك اليوم منذ نصف قرنٍ! هذا ما يعرفه الكيان الصهيونى ذاته واعترف به كتابة وبشكل رسمى عبر كتبٍ منشورة وعبر تحقيقاتٍ رسمية عسكرية، حتى الجسر الجوى الأمريكى - بمعداته الخارجة لتوها من المصانع أو المخازن بمقاتليها - لم ينجح فى إعادة الحياة لهذه الأكذوبة الدعائية الكبرى! وكل ما نجح فيه ذلك الجسر وقتها هو إنقاذ حياة الكيان الصهيونى ذاته وإبقاؤه على قيد الحياة بعد أن لقنته مصر درسًا عسكريًا تاريخيًا وكسرت غطرسته التى بناها عبر ممارساته الإجرامية ضد مدنيين عزل بمجازر عسكرية! 

هذا الجيش فى عنصره البشرى هو جيشٌ هش وجبان..منذ عام 1917م بنى سمعته على غير الحقيقة على جثث قرويين مسالمين ولم يواجه حتى السادس من أكتوبر جيشًا حقيقيًا. فى عام 1948م كانت جيوش العرب فقط ثلث هذا الجيش الذى صنعته ودربته وسلحته إنجلترا، بينما كانت جيوش العرب لا علاقة بينها وبين العسكرية سوى أزياء جنودها! وفى عام 1956م هاجم هذا الجيش مدن القناة المدنية وقصف أحياءها! وحتى فى هذا الهجوم كان هذا الجيش أجبن من أن يقوده بمفرده! وفى 1967م قامت أطراف دولية - بما فيها الاتحاد السوفيتى - بخوض المعركة السياسية نيابة عن هذا الجيش الجبان، وهيأت له سرقة أرض مصر دون أن يُسمح للجيش المصرى بخوض المعركة! هذا هو التاريخ الحقيقى للجيش الصهيونى.. جيش جبان.. بنى سمعة غير حقيقية عبر اقترافه مجازر مروعة عسكرية ضد مدنيين آمنين وربما نائمين فى بيوتهم! 

حتى كانت مواجهته الأولى الحقيقية يوم السادس من أكتوبر.. خطط التمويه العبقرية التى أبدعتها القيادة المصرية لم تكن إلا لتجريد هذا الجيش الجبان من تدخل القوى الإقليمية الكبرى لعدد ساعات كافية لمواجهته هو فقط وجهًا لوجه..جيشًا لجيش! وفى هذه المواجهة، وبأقل إمكانات عسكرية عددًا وعُدة، عبرت العسكرية المصرية عن نفسها ووضعت هذا الجيش الصهيونى الجبان فى حجمه الحقيقى!

لقد عرت مصرُ بقواتها المسلحة هذا الجيش وقدمته للعالم على حقيقته...وقبل أن تقدمه للعالم فقد قدمته لمجموعات المقاومة العربية فى الدول التى سرقت إسرائيل بعض أراضيها! كشفت مصر عن سر هذا الجيش وكشفت سوءته..وحطمت الأسطورة الدعائية (الجيش الذى لا يُقهر).. ثم توالت اللطمات والصفعات على وجهه بعدها..مرة فى جنوب لبنان..ومرات فى قطاع غزة والضفة..!

إذن فحين تخرج علينا بعض الأبواق يوم السابع من أكتوبر، وتحاول أن تخدع الشعوب بأن هذا اليوم هو هزيمة غير مسبوقة لجيش الكيان الذى لا يقهر! وبعضهم قال إنه الجيش الأقوى فى المنطقة وإن جيوش المنطقة تخشاه! حين نسمع هذه الخرافات علينا أن ننتبه حتى لا يتم تزييف التاريخ.. فكفانا خداعًا ودجلًا وكذبًا.

(4)

مصر القوية الشريفة الكبيرة تتحدث عن نفسها.

مساء الخميس كانت مصر - الشريفة القوية المخلصة الواثقة من نفسها وشرفها - حاضرة فى مشهدٍ مهيب تتحدث للعالم عن نفسها.. وأجمل الحديث فى المحن هو حديث الأفعال. زايد كثيرون عليها عقودًا طويلة..اتهموها كثيرًا..رجموها بالحجارة زيفًا وبهتانًا كثيرًا..حتى المحنة الحالية ومنذ الساعات الأولى يوم السبتُ سمعتُ بأذنى من بادر بمحاولة التطاول عليها وتحريض أهلها! صمتُ مصر عن الانزلاق والتدنى ليس ضعفًا وإنما شموخًا ونأيًا بنفسها عن مقام الصغار الذى لا يليق بها..هذه هى الحقيقة..صمتُ مصر فى ذروة المحنة عن الانتصار لنفسها ولمواقفها لم يكن إحساسًا منها بأى تقصير، إنما إدراك منها لعظم ما يراد بها..وإدراكها أن الحملة الاستعمارية الحالية لا يتجرأ فى كل المنطقة من يقوم بإعلان خطوط حمراء فى وجه قادتها سوى مصر، لذلك فلم يكن لديها من الوقت متسعٌ تستهلكه فى الرد على ما ومن لا يستحق! 

قررتْ أن تقوم بدورها الشريف الذى يتفق - كما قال الرئيس نصًا - مع التاريخ والجغرافيا، استعرضت مصرُ مساء الخميس فى استاد القاهرة أمام العالم كله ما قامت به حتى فرضت الهدنة. خطوات واثقة قوية سببت صدمة حادة لرعاة الاستعمار الحديث ورعاة الكيان الصهيونى! بدت خطوات مصر الأولى وكأنها أفاقتهم جميعًا وأعادتهم لحقائق التاريخ والجغرافيا التى تناسوها فى غمرة مشاهد الهرولة والانبطاح والتطوع بالخيانة والمراهقة السياسية التى اعتادوا عليها فى هذه المنطقة منذ قيام هذا الكيان المجرم فى 1948م وككل مرة كانت مصر هى التى تقوم بهذه الإفاقة الجبرية لهؤلاء الذين لم يستوعبوا كل مرة أن مصر كيانٌ متفرد كان أولًا ثم أتى الجميع! كائنٌ لا يتفق مع أبجديات التاريخ أن يتم وضعه فى سلة واحدة مع أىّ ممن أتوا بعدها يتشبثون بأبوابها طمعًا أو خوفًا أو حتى حسدًا.

تحدثت مصر الشريفة القوية عن نفسها بقوة وجرأة تليق بها وبما تتعرض له..بعثت بالرسالة واضحة.. كررتها ثلاث مرات بلغة واضحة محددة..مصر لن تسمح بتصفية القضية الفلسطينية..التهجير خطٌ أحمر لمصر! رسالة للجميع.. للقادمين من بعيد متوهمين أن بوارجهم العسكرية فى شرق المتوسط قد تخيفها فتفرط فى شرفها..سواء كان شرف الموقف أو شرف الدفاع عن أرضها..

ولنكن مثلها على قدرٍ الحدث فنقول بصراحة..إن رسالة مصر لم تكن لهؤلاء فقط.. إنما كانت لكل من تآمر سرًا أو علنًا، ولكل من ضغط سرًا أو علنًا، بل ولكل من سولت أو تسول له نفسه ولو فى خلوته مع شيطانه، مهما كانت جنسية أو ديانة أو هوية أحدٍ من هؤلاء. مصر أرسلت برسالة للجميع..أرض مصر ليست للبيع أو المساومة، والمصريون دولة وشعبًا لهم نفس المعتقد..أرضهم شرفهم..فمصر ليست قبيلة متنقلة..مصر دولة مدنية حضرية، تقوم عقيدة أبنائها منذ اليوم الأول لمولدها على أن الأرض شرف...وهى من وضعت أسس قيام الدول فى التاريخ. 

أعلنت مصر عن الحقيقة فيما يتعلق بالمساعدات..فبعد كل هذا السيل من المزايدات..تجلت الحقيقة، وهى أن حوالى سبعين فى المائة مما تم تقديمه لقطاع غزة هو مصرى خالص..كل الدنيا قدمت ثلاثين بالمائة ومصر وحدها قدمت سبعين بالمائة..اقتطعته - رغم أزماتها الاقتصادية المتتالية - من قوت أبنائها، وهى وهم معها راضون فرحون بأن يكونوا على قدر اسمها وقدَرها! لم يكن حديث مصر عن هذه الحقيقة تباهيًا أو منًّا بما تقدمه، إنما فقط ليعلم أبناؤها الحقيقة لكى لا يستسلموا لمزايدات أحدٍ على موقفها..أحيانًا يضطر الكرماء الشرفاء أن يعلنوا عن بعض مواقف كرمهم وشرفهم دفعًا لأذى المزايدين ومنعًا لتزييف التاريخ.

فكل الذين رأيناهم فى الأسابيع السابقة من زعماء وقادة دول إسلامية - عربية وغير عربية - وهم يلقون بأبلغ العبارات ضد الكيان الصهيونى لم يكونوا سوى مزايدين طالبى شعبية رخيصة على جثث الأطفال والنساء، لأنهم حين اتخذوا قراراتهم التى لم تكن تكلفهم حتى ثمنًا سياسيًا، لم يكن ما جادوا به يرقى لحرارة عبارة واحدة من عباراتهم الرنانة أمام الجماهير!

(5)

هل يمتلك هؤلاءُ الشجاعة للاعتذار للرئيس السيسى؟!

(من خلاصة التاريخ السياسى الكونى وتاريخ مصر قديمًا وحديثًا ومعاصرًا، يتضح بجلاء أن وجوب امتلاك مصر قوة عسكرية عصرية متطورة باستمرار قادرة على مواجهة قدر مصر وتحدياتها وحماية ثرواتها وأرضها ليس اختيارًا، لكنه قضية مصير لا تقبل أى مساومة أو مواءمة أو تردد.. وعلى كل قيادة مصرية أن يكون ذلك على قائمة أولوياتها وواجباتها الحتمية..لا يصح أن يخضع ذلك الالتزام لأى ابتزازٍ داخلى ينتج عن توجيه الرأى العام بوسائل الإعلام الموجهة، أو ابتزاز خارجى مهما يكن الظرف الذى تواجهه مصر).

(على المصريين إدراك أن امتلاك تلك القوة بصفة مستمرة ومتطورة أصبحت قيمته مساوية لقيمة الحياة ذاتها، ويفوق ما سواه من احتياجات. أى عليهم تفهم فكرة (أن نجوع ولا نقبل بضعف تلك القوة أو الانتقاص من قدراتها وتأهيلها).

(فلقد كُتب على مصر أن تبقى فى بؤرة التهاب سياسى وعسكرى..فإسرائيل تعتقد طبقًا لأساطيرها وأوهامها أنها ستعود يومًا لاحتلال سيناء..الطريقة الوحيدة الناجحة التى يجب أن تنتهجها مصر..القوة، قوة مصر وقدرتها على حماية أراضيها هو الحق الوحيد الذى سوف تفهمه إسرائيل، ليس على المصريين الانزلاق لأى جدل تاريخى سمج يحاول اللصوص ترويجه..على المصريين فقط أن يكونوا قادرين عسكريًا بصفة دائمة على حماية أرضهم أى سيناء..).

هذه فقرات من كتابى (الكتاب الأسود) الصادر منذ عامين..

منذ سنوات بدأ الرئيس السيسى فى تعظيم قدرات مصر العسكرية..تعرض الرجل لموجات ممنهجة من الهجوم الإعلامى من الخارج سواء من جماعة الإخوان الإرهابية أو من يقوم باستعمالها ويوجهها، أو حتى من قنوات عربية مسيطر عليها، كان هدف هذه الموجة معروفًا لدى أى متابع لأحوال مصر..كان الهدف هو ابتزاز مصر وإثناؤها عن تعظيم قوتها العسكرية كمرحلة أولية قبل انطلاق المراحل الأخرى التى نشاهدها اليوم! 

المؤسف أننا وجدنا من المصريين من انساق خلف تلك الدعاوى، وأنا شخصيًا خُضت مناقشات طويلة مع البعض ممن انساقوا خلف تلك الموجة الإعلامية القوية التى أقنعت بعض المصريين أن توجيه هذه الأموال ناحية دعم الأغذية وخفض أسعارها مثلًا أهم من شراء الأسلحة.

قبل اندلاع هذه الأحداث الأخيرة بشهور كتبتُ أكثر من مرة أن الرئيس عبدالفتاح السيسى قد ظُلم إعلاميًا كثيرًا، وأنه تعرض لموجات ممنهجة متوالية من الهجوم..كان من المتفهم والمنطقى أن تنطلق تلك الموجات من خنادق معادية صريحة أو خلايا خائنة بشكل صريح اتخذت من دولٍ - كانت وقتها معادية لمصر بشكل معلن - مقرًا للهجوم عليه وعلى مصر. لكن كان المؤلم أن ينساق كثيرٌ من المصريين خلف تلك الموجات ويوجهون لصدر الرجل سهام اتهامات تثير التعجب والألم! لكنه صبر كثيرًا واتخذ منهجًا لإدارته يتلخص فى العمل الوطنى المخلص لرجل ذى رؤية والصمت عن الانتصار لشخصه..وأبت الأقدار إلا أن تنصفه فى مواقفٍ كثيرة..آخرها تلك الموجة الاستعمارية الجديدة.

فهل يمتلك كل من هاجم الرجل وسياسته فى تعظيم قدرات مصر العسكرية الشجاعة الكافية لأن يقدموا له ولبلادهم اعتذارًا يليق به وبها؟!

(6)

مصر الكبيرة تستمر فى صدارة المشهد..لا حلول دون مصر.

فى مشهدٍ مهيب يضيف سطرًا جديدًا لتاريخ مصر الكبيرة..تنحى الجميع وكانت هى حاضرة بقوة فى صدارة المشهد..باقتدار وحسم قادت مصرُ مشهد تبادل الرهائن والأسرى..وقدم الرئيس لهذا المشهد بمشهدٍ هام صباح الجمعة فى المؤتمر الصحفى المشترك مع رئيسى وزراء بلجيكا وإسبانيا..قررت مصر أن تستبق الجميع وهى تعلم ما خلف الستار..قال الرئيس إن رفض التهجير القسرى ليس فقط بالتصريحات..لكن بخطوات على الأرض.. وفسر ما يحاول تمريره الكيان الصهيونى بدفع أهل القطاع للفرار طوعًا بعد أن يستحيل لهم الحياة فى الشمال..ثم أصر على أن حرية الحركة يجب أن تكون فى كل القطاع ومن الجنوب للشمال حتى يعود من نزحوا إلى أرضهم للتشبث بها..للمرة الثانية تقوم مصر بكشف الأقنعة وتفتح الستار على مصراعيه حتى لا يتم استدراج الجميع إلى نفس السيناريو الذى أراد الكيان المجرم فعله فى الأيام الأولى..وهو أن يتم تأمين مرور الأهالى فقط من الشمال للجنوب، ثم بعد انقضاء الهدنة يتم قصف الجنوب فلا يكون هناك سوى حدود مصر!

تصريحات الرئيس كانت رسالة أخرى قوية أن مصر تدرك جيدًا ما يُراد لها وللمنطقة..الوصول لهدنة لا يعنى إفشال المخطط، وإنما فترة لالتقاط الأنفاس..وأن مصر ليست ساذجة ولن تسمح أو ترضخ لأية ضغوط.. اليوم أدرك الجميعُ أن مصر عصية على الكسر، ولا حلول متغطرسة تتجاهل إرادتها أو تحاول العبث بأمنها القومى!

(7)

رسالة إلى وزارة التربية والتعليم المصرية..أدركوا وعى صغارنا قبل غسيل عقولهم!

مما قد لا يلتفت إليه كثيرون الآن هو ما تتعرض له أجيالٌ صغيرة من المصريين من محاولات غسيل عقولهم وقلوبهم وأرواحهم عن طريق هذا السيل الإعلامى الجارف الموجه الذى يعمل على استغلال محنة أهل قطاع غزة، ويحاول أن يسوق لهذه الأجيال صورة جديدة من (الهيرو) أو (البطل).. لقطة من اثنتى عشرة ثانية لأحد عناصر حماس وهو يهاجم دبابة إسرائيلية من قرب.. والتعليق المرفق بالفيلم القصير يصف المشهد بأنه أعظم اثنتى عشرة ثانية فى التاريخ! صورة مقاتل حماس ومحاولة تقديمه لصغارنا بأنه النموذج للبطل وبما ينبغى أن يكون عليه أى (مسلم) بكل ما تمثله حماس من فكر وتاريخ وسيرة خاصة ما يتعلق بمصر، هذه المحاولة تعنى باختصار تزييف وعى صغار المصريين والعبث به وخلق أجيالٍ جديدة لا تدرك تاريخها أو ثوابتها الوطنية أو حتى الدينية!

مقاتلو حماس مقاتلون محترفون تدربوا تدريبات عسكرية على أيدى ضباط جيوش متعددة بعضها معروف وبعضها غير معروف وليسوا مقاومين شعبيين، فهم أقرب للجنود النظاميين المحترفين، مهاجمة فرد مشاة لدبابة هي فكرة مصرية خالصة نفذها جنود مصر من المشاة فى صحارى سيناء المكشوفة دون أن يكون لديهم أنفاق يختبئون بها مثل تلك التى تملكها حماس! ولم يكن ما قام به مشاة جنود مصر مجرد لقطة عابرة استثنائية، وإنما عشرات البطولات التى وصفها جنود مدرعات ودبابات إسرائيل بعد الحرب، أصابتهم الصدمة وقالوا حرفيًا (لم يعلمونا أن الدبابة يواجهها جندى مشاة..يتقدم الجندى المصرى ويهاجم الدبابة ويعتليها ويدمر طاقمها!) عبارات تكررت كثيرًا على ألسنة جنود إسرائيل بعد الحرب..(صائد الدبابات) لقبٌ حصل عليه جندى مصرى من ريف مصر. 

محاولة ترويج صورة مقاتلى حماس باعتبارها المثل الأعلى والنموذج للهيرو هى محاولة تجميل فاشلة لن تمحو تاريخًا ملطخًا منذ بدايته بمشاهد قسم الصف الفلسطينى، ومشاهد طعن مصر واستباحة دماء أهلها وسرقة ممتلكاتهم، والأهم هو ترويج لفكرة فاسدة لا تؤمن بالأوطان!

مواقف مصر الشريفة هى لمساندة الحق الفلسطينى، وحقنًا لدماء أبنائه، ودفاعًا عن القضية الفلسطينية الوطنية، وليست وقوفًا بجوار حماس أو موافقة على معتقدها أو منهجها أو سيرتها أو حتى ما قامت به يوم السابع من أكتوبر، والذى لم تثبت بعد براءته من الشكوك والريبة..موقف مصر مبدئى وتاريخى يعود لعقودٍ طويلة قبل أن يتم خلق حماس وزرعها لشق صف المقاومة الفلسطينية الوطنية!

المقاومة الشعبية للاحتلال، مصر هى من وضعت مبادئها فى هذه المنطقة. 

بعد هذا الضباب والعبث واختلاط الحابل بالنابل، يجب على المؤسسات التثقيفية والتعليمية المصرية أن تتنبه وأن تعيد رسم خريطتها التعليمية فى المراحل التعليمية المختلفة..تلاميذ وطلاب مصر بحاجة ماسة إلى أن يتعلموا تاريخ مصر وبطولات أبنائها حتى لا نستيقظ يومًا على كارثة جديدة حين نفاجأ بأجيالٍ من أبنائنا بعد عدة سنوات وقد انقطعت صلاتها الروحية بجذورها وتعلقت بهالات كاذبة تم تمريرها فى غفلة من تلك المؤسسات!