رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حب وطنك قبل وطن الجيران.. الشعار والساخرون منه!

(1)
نشر تفاصيل محادثات الرئيس السيسى مع رؤساء وقادة غربيين فى الأسابيع الماضية كشف جوانب كثيرة مما يحدث على مدار شهرٍ كامل. فما أصبح يقينا لا يقبل الشك أن الكيان الصهيونى - ممثلًا عن الكاوبوى المتصهين ودول استعمارية تقليدية – قد وجد فى هجمات السابع من أكتوبر فرصة ذهبية للقفز خطوات كبرى فى سبيل تحقيق مخططه الذى يعرفه كل من يقرأ التاريخ جيدًا. لقد وجدت الدولة الصهيونية اللقيطة تاريخيًا فى تلك الهجمات مسوغًا ومبررًا لاستكمال سيرتها المجرمة فى ارتكاب المجازر، وصولًا للهدف الأهم وهو التوسع غربًا على حساب الأراضى المصرية على خطوات متدرجة، أولاها طرد أهل قطاع غزة إلى سيناء، ثم فيما بعد وكما قال السيسى على الهواء مباشرة، يتم مد نطاق المواجهة داخل الأراضى المصرية. تفاصيل محادثات الرئيس قطعت كل شك وأصبحت هذه الخطة معلنة بشكل شبه رسمى لا يستحى أهل الشر من الجهر بها. 
معنى هذا أن الدولة الوحيدة فى المواجهة الآن هى مصر! فهى المستهدفة وموقفها الرافض لهذا المخطط بكل صوره المعدلة كل عدة أيام جعلها تقف فى مواجهة صريحة ضد هذه الحملة الاستعمارية الجديدة! لقد تجاوز الموقف فكرة التعاطف مع القضية الفلسطينية إلى خوض معركة وطنية مصرية صريحة منذ الساعات الأولى ليوم السابع من أكتوبر! معركة لصد هجمة تستهدف سلامة الأراضى المصرية والسيادة المصرية على كامل التراب الوطنى، كما تستهدف التحرش الصريح بالقوة العسكرية المصرية ومحاولة جرها عنوة إلى معركة مجانية تستهدف تقليم أظافر مصر وإرجاعها للوراء عقودًا طويلة!
فى تلك الأجواء القاتمة ظهر شعار مصرى خالص (حب وطنك قبل أن تحب وطن الجيران).. مَن صاغ هذا الشعار كان يدرك قطعًا ما تمر به مصر.. لم يكن معناه أن يولى المصريون ظهورهم لما يتعرض له أهل الجوار الفلسطينى من جرائم صهيونية، لأن الواقع الذى رأيناه ومازلنا نراه يؤكد أن مصر هى من تحمل فوق عاتقها ومنذ يوم السابع من أكتوبر عبء ما يحدث. فمصر هى التى بادرت بإعداد الحافلات المكتظة بالمساعدات، ثم دعت العالم لإرسال ما يريد إلى مطار العريش، ولولا موقف مصر هذا لربما لم يكن دخل إلى القطاع كسرة خبز واحدة حتى الآن، ولكان العالم الآن يناشد نفسه بإدخال هذه الكسرة! 
لذلك لم يكن هذا الشعار يريد من المصريين أن يتخلوا عن هذا الدور، لأن تخليهم عنه ضد مفردات تاريخ مصر وشخصيتها ومبادئها التى قامت عليها منذ آلاف السنين! لكنه كان للفت انتباه قطاعٍ كبير من المصريين إلى ما يحدث خلف الكواليس والذى لم يعد خافيًا بعد أن أزالت مصرُ عنه الغطاء وأذاعته على الهواء مباشرة..كان المقصود أن يدرك هؤلاء المصريون أن بلادهم فى خطرٍ داهم، وأن حجم التهديدات التى تواجهها الدولة المصرية بالغ الضخامة، وأن من بادروا لوضع أعلام فلسطين عليهم أن يدركوا أن مصر فى حاجة الآن إلى أن يصطف المصريون حول علمها هى فقط! وأتخيل أنّ مصر تود لو سألتهم سؤالًا محرجًا، حين استباح أرضى ودماءَ أبنائى بعض مقاتلى حماس وعاثوا فى سيناء ودمروا واقتحموا، حين حدث هذا.. هل قام برفع علمى هناك أحدٌ؟!
منذ سنوات قليلة حين تعرضت فرنسا لهجوم إرهابى، قام مصريون برفع علم فرنسا.. ساعتها بعضُنا نصح هؤلاء بألا يرفعوا سوى علم بلادهم، لكنهم لم يفعلوا.. وبعد مجازر العصابة الصهيوينة هرولت فرنسا للوقوف فى صف الكيان المجرم! الكرامة الوطنية لأى مواطن تحتم عليه أن يعامل الجميع بالمثل.. فلا يرفع علم بلادٍ لم يقم مواطنوها بالفعل نفسه حين كانت بلاده فى لحظة المحنة! 
الموقف لم يكن يحتمل السخرية من هذا الشعار.. كان يتطلب أن يدرك الساخرون أولًا لماذا تمت صياغة الشعار، وأن يدركوا ما يحدث على الأرض منذ أن تحدث الرئيس السيسى فى حفل تخرج طلاب الكليات العسكرية ناقلًا للمصريين بشفافية وصراحة خطورة ما يتعرض له أمنهم القومى من تهديدات! يبدو أن بعضنا لم يستوعب ما قاله الرجل وما واجهته القيادة المصرية منذ السابع من أكتوبر وحتى الآن!
(2)
تشجيع شعار (صُنع فى مصر) هو هدفٌ وطنى ولا شك، ولا يمكن أن يختلف عليه اثنان.. لكن حملة المقاطعة التجارية التى انتشرت فى مصر عليها علامات استفهام كبرى، وبعض تلك العلامات ليس بعيدًا عن شعار حب وطنك أولًا! أول هذه التساؤلات عن هؤلاء الذين يتزعمون هذه الحملة الآن ويحرضون الناس عليها، لماذا لم نسمع لهم صوتًا من أجل مساندة شعار صنع فى مصر حين كانت مصر تختنق اقتصاديًا من أجل توفير العملات الأجنبية فى السنوات القليلة الماضية؟ لماذا لم يتحمسوا للوقوف مع اقتصاد بلادهم قدر تحمسهم لما يقوموا به الآن وهم يظنون أنهم يقومون بعمل مقدس؟! هل هؤلاء لديهم معلومات حقيقية عما يقاطعونه، ووضع كل شركة وهويتها وهوية مَن يعمل بها، وهل حقًا يقومون بمقاطعة ضد منتجات صهيونية، أم أن ما يحدث هو محاولة لاستغلال الحدث للضغط على الاقتصاد المصرى؟! ثم ماذا بعد أن ينتهى المشهد العسكرى؟ هل سيستمر هؤلاء فى تشجيع المنتج المصرى أم أنهم سوف ينسون كل شىء بعد أن يكونوا قد أدوا مهمتهم وبعد أن يكونوا قد تسببوا فى خسائر لشركات مصرية ووجهوا ضربات للاستثمار فى مصر؟! هل هى حملات موجهة عن عمد لصالح أطراف ومؤسسات على حساب مؤسسات وأطراف أخرى؟! يقولون إن شركات مصرية عتيقة وبعد زيادة الإقبال على منتجاتها قامت بمضاعفة خطوط إنتاجها وقامت بتوظيف عمال جدد.. قطعًا لا يمكن ألا يفرح مصرى محب لبلاده لهذه الأخبار.. لكن هل سيستمر زعماء المقاطعة على سيرتهم بعد شهرٍ أو شهرين، أم سوف تضطر تلك الشركات المصرية العتيقة إلى تسريح من وظفتهم وغلق ما أضافته من خطوط إنتاج؟! هل قامت إحداهن - ممن يتزعمن المقاطعة ويجتهدن فى الوصول إلى منتج غسيل مصرى مثلا – بتغيير هاتفها المحمول بآخر مصرى، أو حتى قامت بشراء ملابسها من منتجات شركة المحلة الكبرى، وبعضهن اعتدن على براندات عالمية؟ أم أنهن فقط يوجهن باقى المصريات للمقاطعة؟! 
منذ سنوات ليست بعيدة كانت تركيا تقوم بأنشطة معادية لمصر، واستضافت إرهابيين وقتلة اقترفوا جرائم دموية ضد مصريين مدنيين وعسكريين.. وفى نفس هذه السنوات كانت نفس (الهوانم والبهوات) الذين يتزعمون حملات المقاطعة الآن يقومون بتشجيع الاقتصاد التركى على حساب اقتصاد بلادهم سواء بالسفر وقضاء العطلات هناك والمساهمة فى نزيف العملات الصعبة من مصر، أو بشراء منتجات تركية يوجد ما يوازيها من منتجات مصرية خاصة منتجات المطابخ! لماذا لم يقم هؤلاء وقتها بتزعم حملات مقاطعة للمنتجات التركية أو تشجيع المنتجات المصرية؟!
تشجيع المنتج المصرى بمختلف أنواعه ومجالاته يجب أن يكون هدفًا قوميًا أسمى.. لأن هذا المنتج أصبح ضرورة مصرية حتمية للصمود أمام ما سوف تواجهه مصر ثمنًا لموقفها ووقوفها بقوة أمام الحملة الاستعمارية الصهيو غربية الحالية.. لكن لا ينبغى أن يكون ذلك لحظيًا وانسياقًا خلف دعاوى ظاهرها برىء وباطنها لا يخلو من ريبة وشك فى استهداف الاقتصاد المصرى! 
(3)
شخصيًا لم أكن أتوقع أى جديد من أى قمم عربية أو إسلامية سواء فى الرياض أو غيرها.. فكل دولة صاغت رؤيتها وموقفها منذ الأيام الأولى حسب مصالحها وحسب مدى تحرر قرارها أو خضوعه وخضوعها.. مكلمة لساعات طويلة لم تأتِ بجديد.. موقف كل دولة واضح.. صياغات لغوية براقة تبارى فيها أصحاب الفخامة والمعالى والسمو، لكنها لم تُضف إلى ما كان يجرى على الأرض.. كان مطلوبًا اتخاذ قرارات فعلية تبنى فوق موقف مصر بصفتها المستهدفة الأولى وبصفتها صاحبة الموقف الأقوى والأوضح.. كان مطلوبًا اتخاذ مواقف تساند الموقف المصرى ومن تكوين كتلة عربية قادرة بالفعل على مساندة الموقف الفلسطينى بسقف طموحٍ أكبر مما تم الخروج به وهو وقف إطلاق النار.. لكن - كالمتوقع - ستقف مصر وحيدة تواجه تهديدات تستهدف أمنها المصرى القومى.. خرجت القمة بمطلب واحدٍ، وقف إطلاق نار فورى.. لكن لا آليات ولا ضغوط لإجبار قادة الحملة المجرمة على وقف إطلاق النار هذا.. كل دولة تنظر لمصالحها ومدى ما تستطيعه ومدى عجزها.. وهنا أعود للشعار.. حب وطنك أولًا وقبل أى شىء آخر.. كل تفكيرنا يجب أن يكون فى هذا السياق، لأن هذه هى الحقيقة التى تحرك الجميع..
وأنا كمصرى أقول لو حدث وقف إطلاق النار هذا وتم فتح المعابر لإدخال المساعدات بشكل مستدام سيكون هذا إعلانًا ثالثًا لانتصار مصرى خالص بعد فرضها لدخول المساعدات وبعد رفضها خروج الرعايا قبل إدخال المساعدات.. ستكون مصر قد فرضت رؤيتها وفتحت الطريق على مصراعيه لباقى الدول العربية والإسلامية لكى تدفع فى طريق ترويض العصابة وخلق دولة فلسطينية بشكل حقيقى!
ولو لم يحدث هذا، ولو كان هناك حقًا دولٌ عربية ترى عكس ذلك وتريد أن تنتهى من عبء القضية الفلسطينية على حساب مصر، فأنا – انطلاقًا من نفس الشعار بأن أحب وطنى قبل أوطان الآخرين - أقدم لهم حلًا جديدًا تمامًا.. إحدى الدول العربية يمكنها حل القضية للأبد.. أن تقوم بنقل الفلسطينيين جميعًا إلى أراضيها الشاسعة البالغة أكثر من ضعفى مساحة مصر.. وأعتقد لو طُرح هذا الحل فسوف يُخلق على الفور جسرٌ جوى أمريكى خليجى وجسرٌ بحرى موازٍ وثالثٌ برى.. وكل هذه الجسور يمكنها نقل هذه الملايين وإنشاء وطنٍ جديد لهم مع منحهم جنسية هذه الدولة ونضمن إنهاء الصراع، ويتركوا لنا الكيان على حدودنا فنحن جديرون بتحطيم أوهامه لكن فى إطار فكرة وطنية تخص مصر وليس فى إطارٍ قومى عربى! يمكن لتلك الدولة منحهم ما يوازى مساحة فلسطين واستيعابهم فى أعمال محلية بمساهمات الأغنياء الفلسطينيين بالخارج وأيضًا بما كانت سوف تحصل عليه مصر من مقابل مادى لو أنها وافقت! 
قبل قمة اليوم، وعلى مدار شهرٍ كامل بدا تمامًا تهرؤ الموقف العربى والإسلامى الرسميين. لسنا فى حاجة إلى فئة القادة الخطباء المفوهين يحدثوننا – كما حدث اليوم – عما نشاهده كل يوم من مجازر، أو عن تعريف مصطلح جريمة حرب قانونًا، إنما كنا فى حاجة إلى مواقف عملية لدول ذات سيادة يمكنها أن تتخذ قرارت شريفة وتدفع ثمنها.. يمكن لرئيسها أو ملكها أن يقول لا بشكل فعلى ويسانده شعبه ويقبلون معًا دفع ثمن الكرامة..لكن على مدى شهرٍ كامل تجسد خضوع دول خضوعًا تامًا، وقيام دول أخرى بأدوار تمثيلية مسرحية أمام الشعوب، بينما هى أضعف من أن تصدر أمرًا لجندى مارينز من جنود إحدى القواعد على أراضيها! لا قوة أو قرار أو كلمة لدول دون جيوش وطنية قوية.. وجيوش العرب تم تدميرها بيد العرب أنفسهم! لذلك لا تنتظروا قرارًا أو كلمة أو فعلًا ممن لا يملكون قرارهم!
أنا أحب مصر أولًا وأخيرًا.. شرفٌ أن تنتمى لوطنٍ شريف لا تخجل من حمل هويته أو علمه! على مدى شهرٍ كاملٍ سطرت مصر فصلًا جديدًا فى تاريخٍ طويل من الشرف الذى افتقده كثيرون!