رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

منذ تكوينها حتى انتصار أكتوبر.!

تاريخ القوات المسلحة المصرية فى خمسة آلاف عام! (5)

«الجزء الخامس والأخير»

كمين يونيو.. والنصر الأعظم فى أكتوبر.. وحديث الرئيس الأخير فى الإسماعيلية

«1»

«محمد على باشا، الزعيم جمال عبدالناصر، الشهيد أنور السادات، الرئيس عبدالفتاح السيسى».. هناك رابط قوى يربط أصحاب هذه الأسماء، رغم ما يبدو بينها من اختلافات ظاهرية من حيث المشروع الخاص بكل منهم، وهوية كل مشروع، وطموحات كل منهم، وما استطاع إنجازه.. هذا الرابط هو أنهم جميعًا، كقادة شعوب، ينتمون إلى نفس الفئة من القادة، فئة القادة ذوو الأقدار التاريخية الكبرى، مسببات هذا الوصف لا ينبع فقط مما أحاط بكل منهم من ظروف غاية فى التفرد فى تاريخ مصر، وإنما ينبع أيضًا من التكوين الشخصى لكل قائد منهم، التكوين الذى يشمل حجم الطموحات والخلفيات الفكرية والإرادة الفولاذية والثقة بقدرات الأمة التى حكموها، والثقة الذاتية لدرجة اليقين بالوصول للهدف رغم ما كان يبدو ظاهريا وقت الحدث أن هذا الوصول مستحيل تمامًا.

هذا التشابه ينبع أيضًا من أن كلًا منهم قد استفز واستنفر طاقات وإمكانات كامنة فى أمة كان الجميع يظن، وقت ظهور كل من هؤلاء القادة، أنها قد فارقت الحياة أو على وشك ذلك، أتى كل منهم لحكم مصر فى ظرف استثنائى مفصلى يتناسب تمامًا مع هذا التكوين الشخصى المتفرد الذى لا يملكه كل من حكم مصر سواء قديمًا أو حديثًا، من السذاجة أن ننظر لمحمد على باشا على أنه ذو مشروع شخصى، فمشروعه كان تحديث مصر، وأيضًا من السذاجة أن نتهم ناصر بأنه كان «غشيم» لا يصلح للحكم، فما أنجزه لا يقل فى أثره عما أنجزه محمد على. 
ثم أخيرًا كان التشابه الأهم والأخطر، الذى جمعهم جميعًا فى فئة واحدة، وهو أن طموحهم المشروع لأمتهم واكتشاف المخندق المعادى لمصر لحقيقة شخصية كل قائد منهم قد أدى إلى أن تتفق الضباع ويصطف المتآمرون ويجمعون شتاتهم الذى لم يجمعه وقتها سوى الاتفاق على الخلاص من كل قائد فى وقته، واجه كل قائد منهم هذا المشهد الذى تتجمع فيه أطياف متباينة، بعضها يرتدى مسوح الأشقاء أو الأصدقاء على هدف واحد وهو كسر مشروع هذا القابض على سلطة الحكم فى مصر لأن استمرار وجوده خطر داهم، وكسر مشروعه يصبح فجأة هدفًا محوريًا يجب تحقيقه بأى وسيلة ومهما يكن الثمن.
كان تآمر قوى الاستعمار الغربى واضحًا صريحًا ضد محمد على باشا، واتخذ الشكل التقليدى بكسر قوته العسكرية ومحاولة فرض ضغوط وشروط صريحة لإذلال الرجل، لأنه تخطى الخطوط الحمراء، لدرجة لم يحتملها عقله وأصابه ما يشبه الجنون. 
واتخذ التآمر على ناصر شكل «الكمين» السياسى الذى شارك فى إحكام إعداده كثيرون يدعون الصداقة أو حتى الإخوة، كمين سياسى أريد له أن يتخذ شكلًا عسكريًا لكسر الروح القومية المصرية والقضاء على مشروعه قبل أن يستفحل ويتضخم ويقترب من مشروع محمد على النهضوى الأكبر.
ولم يكن سهلًا الإيقاع بالشهيد السادات فى كمين سياسى مشابه، لأن شخصيته العبقرية وتاريخ حياته أوجبت أن يكون الكمين أكثر خباثة وأشد فتكًا، كان كمين استدراجه ناعمًا قاتلًا، لكن تأثيره طويل المدى، دفعت مصر ثمنه بعد سنوات من استشهاد السادات نفسه، دفعت مصر هذا الثمن فيما خاضته فى حرب استنزافها الثانية ضد ميليشيات التكفير، ولا تزال فى فترة نقاهة عقلية للتخلص من آثار هذا الكمين.
أما السيسى فيبدو أنه قد استوعب تاريخ مصر جيدًا، واستوعب هذه التجارب الثلاث، وهذا يفسر سر سياسة وقرارات مصر فى بعض المواقف الزاعقة، التى يتكشف بعدها أنها لم تكن سوى كمين، ويتم حاليًا معه استخدام سيناريو مختلف عن سيناريوهات القادة الثلاثة الآخرين، وهو سيناريو أشرت إليه فى مقال سابق بعنوان «حرب التشويه الشرسة التى تواجهها مصر».

«2»
حتى المرحلة الجامعية كنت لم أقرأ بعد حرب يونيو حق قراءتها، ولم تكن تمثل لى سوى مشاهد الانسحاب المرة، وما قرأته وقتها عن دفن أسرانا أحياءً فى سيناء. لذلك كنت أكره عبدالناصر لأنه المسؤل عما حدث، بعدها وبعد سنوات من القراءة المكثفة بشكل موضوعى يتيح رؤية المشاهد كاملة، بما قبلها وما بعدها وبما زامنها وأحاط بمصر، وبعد قراءة مشروع ناصر، وصلت إلى قناعة ذاتية أن 5 يونيو 67 لم تكن حربًا أو هزيمة أو نكسة.. لم تكن سوى كمين أريد له أن يخرج فى شكل هزيمة عسكرية، لم أعد أكره ناصر، لكننى أتمسك بمشاعر اللوم على السقوط فى الفخ بشكل لا يليق به أو بمصر لا قديمًا ولا حديثًا، لكننى فهمت واستوعبت ما كان يواجهه، وماهية مشروعه وتفهمت أن العلم السياسى والعسكرى كان هو الضرورة الواجبة الناقصة فى المشهد، التى أدركها محمد على جيدًا، وأن الإخلاص والتفانى والقومية وتملك مشروع تنموى نهضوى، كل ذلك لا يغنى عن الاستعانة بأدوات العلوم العسكرية والسياسية.
لم تُهزم القوات المسلحة المصرية، لكنها لم تحارب، تشارك الجميع فى تجهيز المسرح لتدخل القوات الإسرائيلية سيناء دون أن تشتبك مع القوات المصرية، هذه هى الحقيقة التى كان يعرفها الجميع وأولهم إسرائيل التى كانت أشبه بلص قام بسرقة أرض كبرى فى حماية بلطجية، ثم أصبحت لا تكف عن ابتزاز هؤلاء البلطجية لكى يستمروا فى حمايتها من انتقام أصحاب الأرض، انشغلت منذ أن وطأت أقدامها أرضنا بفكرة واحدة كيف تقيم حصونًا حول الأرض المسروقة تختبئ خلفها.
ثم قالت القوات المسلحة كلمتها فى توقيت مبكر جدًا بعد الكمين، توقيت لا يتناسب مع موقف قوات مهزومة، لكنه يتناسب مع موقف قوات مغدور بها، فرضت القوات المسلحة شكل حربها بعد أيام قليلة فقط من سرقة أراضى مصر، فكانت كلمة البداية معركة رأس العش التى كانت رسالة مبكرة، يوليو 67، وقوية للصوص الصهيونية بأنهم لن يستطيعوا الاحتفاظ بما سرقوه، ثم بدأت القوات المصرية تصب نيران مدفعيتها فوق رءوس المذعورين المتخفين فى حفر مغطاة بأكياس رمل سيناء منذ منتصف يوليو فى نفس العام. 
ثم ألقت القوات البحرية بصفعتها الكبرى يوم 21 أكتوبر 67 بإغراق المدمرة إيلات بصواريخ سطح سطح لتسطر تاريخًا جديدًا فى العلوم العسكرية البحرية، الحرب الحقيقية بدأت منذ معركة رأس العش. ومصر، حسب ما كتبه الإسرائيليون عام 74 فى كتاب التقصير، هى التى فرضت شكل هذه الحرب. وكبدت إسرائيل خسائر بشرية تفوق خسائرها فى حروبها السابقة مجتمعة.وحين تم وقف إطلاق النار فى أغسطس 1970م كانت جميع تحصينات إسرائيل مهروسة هرسًا وكلفت إسرائيل مليارات الليرات فقط لإعادة بنائها، وفى الوقت الذى انشغل فيه الإسرائيليون بمحاولة الدخول لدشمهم المهروسة، كانت مصر تقوم ليلًا بتحريك قواعد الصواريخ المضادة للطائرات نحو الضفة الغربية للقناة لشل حركة الطيران الإسرائيلى، اعترافات إسرائيلية مطولة بمئات الخسائر البشرية فى حرب الاستنزاف، وأن مصر كانت دائمًا تمتلك المبادرة، وأن مصر حققت ما أرادت من هذه الحرب بفرض شكل التحصينات على إسرائيل، ثم قيامها ببناء حائط الصواريخ الذى سيمنع أى برطعة للطيران الإسرائيلى الذى خلق تفوقه، فى عدد ما يمتكله من طائرات، وهمًا كبيرًا لدى قادة هذا الكيان، توهموا أن ما حدث فى 5 يونيو كان تفوقًا عسكريًا أو قدرة لطيارى سلاح الطيران أنفسهم ولم يستوعبوا أن ما حدث هو أن هناك من قام بتقييد المصريين على الأرض حتى تستطيع هذه الطائرات أن تضرب أهدافًا، بعد تحييدها، لم تكن عسكرية، أو أن تطارد جنودًا عزل فى الصحراء، الغطرسة الصهيونية ألقت بضبابها على عيون قادة العصابة الصهيونية ولم يستفيقوا بشكل كامل رغم صفعات حرب الاستنزاف، اعتمادًا على البلطجة الدولية المتوقعة التى اعتقدوا أنها ستحميهم من شراسة المقاتل المصرى المدافع عن حقه وأرضه، فقامت القوات المسلحة المصرية بإفاقتهم بشكل كامل يوم 6أكتوبر 73.

«3»
إذن حققت القوات المسلحة المصرية نصرين كاملين فى ست سنوات ومن بعد كمين يونيو مباشرة، الأول هو نصر حرب الاستنزاف الذى لم يكن يحظى للأسف بما يليق به فى مصر فى العقود الماضية، وحسنًا تفعل الشركة المتحدة بإلقائها الضوء عليه بشكل يليق، ثم النصر الأعظم وهو يوم مصر والمصريين فى القرن العشرين يوم السادس من أكتوبر! عمل معجز بكل مقاييس العلوم العسكرية العصرية. ببيانات وإحصاءات قطع الأسلحة، وموقف القوى الإقليمية، يمكن القطع بسهولة أن العنصر البشرى المصرى وليس السلاح كان كلمة السر فى هذا النصر المعجز، أفضل الشهادات ما يأتيك بلسان أعدائك، وكان لى شرف عرض إحدى هذه الشهادات فى أكتوبر العام الماضى بجريدة «الدستور»، بعرض موجز لكتاب التقصير الإسرائيلى الصادر عام 74 وقبل أن تستفيق إسرائيل تمامًا وتشرع فى محاولات تزييف الحقائق، سيل من الحقائق العسكرية وشهادات قادة وضباط وجنود شهدوا «الجحيم الذى فتح المصريون أبوابه فى وجهنا».
يمكن تقسيم هذا الإعجاز، حسب شهادة قادة وضباط وجنود الكيان الصهيونى، إلى عدة مراحل. 
المرحلة الأولى مرحلة الخداع الكبرى المتفردة فى التاريخ العسكرى التى قام بها قادة مصر العسكريون حتى خدروا أعصاب القيادات الصهيونية لدرجة أن المصريين قاموا بعمل بروفات حية للعبور قبل تنفيذه بأشهر على مرمى من الضفة الشرقية، ولم يفطن الإسرائيليون يوم 6 أكتوبر أن المصريين سوف يقومون بتنفيذ نفس ما شاهدوه قبلها، بعض القادة هناك أصابهم الجنون وهم يستعيدون مشاهدة فيلم «المناورة» التى نفذها السادات قبل الحرب بفترة وجيزة، وصف قادة إسرائيليون خطة التمويه هذه بأنها الأنجح فى التاريخ المخابراتى والعسكرى الحديث. 
المرحلة الثانية كانت فى تنفيذ كل سلاح ما تم تكليفه به من مهام فى الساعات الأولى التى شملت العبور والسيطرة على نقاط وتحصينات بارليف، ومما أبهر الأعداء والخبراء هو هذا التناغم والتناسق بين الجميع، حين اكتشف العالم أن المصريين قد أسقطوا كل أساطير تحويل سطح القناة لجحيم من فتحات مواسير النابالم، فيما بعد حاولت إسرائيل الادعاء أن هذه المواسير يوم العبور كانت خارج الخدمة وفارغة، بدأت إسرائيل بعد سنوات من صدمتها فى محاولة «لملمة» الصفعات التى تلقتها قواتها العسكرية التى كسرت كل الأساطير السابقة، فكانت تحاول أن تنشر دعايات تقلل من هذا الإنجاز المصرى أو ذاك، لكنها لم تفلح فى ذلك لأن الاعترافات الأولى كان قد تم توثيقها ونشرها بالفعل فى مؤلفات علمية، وبدت إسرائيل فيما تحاول فعله من تغيير حقائق ما حدث وكأنها امرأة أصابتها لوثة جنون فاعتقدت أنها قادرة على لم اللبن المسكوب على الأرض.
ثم المرحلة الثالثة وهى مرحلة المعارك على الأرض، وأفاض الإسرائيليون فى وصف هذه المرحلة التى أصابتهم بالهلع الحقيقى، هى المرحلة التى رأوا فيها، وجهًا لوجه، المقاتل المصرى، وما يمكن أن يفعله، وصفوا كيف يصعد المقاتل المصرى هذا الساتر وهو يحمل معداته وحقيبة أشبه بحقيبة جيمس بوند فى الأفلام، ولم يكتشفوا سر هذه الحقيبة إلا حينما استخدمها المقاتلون المصريون، حيث غيّر المصريون بعض مفاهيم العلوم العسكرية التقليدية باستخدام هذه الصواريخ خفيفة الوزن، فوجئت أطقم الدبابات الإسرائيلية بأن مقاتلين مصريين يواجهون الدبابات ويطاردونها ويصعدون عليها ويقفون فى مواجهتها ويستهدفونها بتلك الصواريخ.
أفاض بعض الضباط والجنود فى وصف قوات الصاعقة المصرية وزئيرهم وظهورهم فجأة بأعداد رهيبة تثير الفزع وتدفع أطقم دبابات للتظاهر بأنهم موتى.

«4»
عبّرت القوات المسلحة المصرية فى حربى الاستنزاف وحرب أكتوبر عن شخصيتها التاريخية الأصيلة المستمدة من شخصية الأمة المصرية الأصيلة نفسها، التى ذكرتها فى الجزء الأول، والتى شهد بها شهود كثر على جيش مصر الذى كونه محمد على. لم تندثر تلك الشخصية وكأن القوات المسلحة المصرية قد اختصها الله بالحفاظ على هذه السمات من الاندثار، تختفى أحيانًا عقودًا أو قرونًا، بسبب الإبعاد والإقصاء العمدى، ثم نفاجأ حين تتاح لها الفرصة وكأنها لم تغب ولو يومًا واحدًا، هذا ما يسمى بعدم الانقطاع الحضارى، شجاعة متفردة تجدها حاضرة بقوة فى مئات المشاهد التى وصفها الأعداء، عدم جنوح للخروج عن القيم العسكرية الشريفة مع الأسرى. لم نقتل الأسرى أو ندفن أحدهم حيًا كما فعلوا هم مع كثير من أسرانا العزل بعد سرقة يونيو، وهذا هو الفارق بين حضارة الشرف وحضارة الخسة، انضباط أخلاقى وقيمى. انضباط عسكرى وحب تنفيذ الأوامر العسكرية. لم يتم تسجيل مشهد استسلام مصرى واحد بين دفتى كتاب كامل كتبه ضباط وقادة إسرائيليون شهدوا الحرب، قدرة على احتمال الصعاب ومشقة الصحراء.. تقديس الأرض المصرية.. لم يكن المقاتل المصرى فقط ينفذ الأوامر العسكرية، لكنه كان يدافع عن شرفه وأرضه. 
ثم عبّرت القيادة المصرية السياسية عن الشخصية المصرية الداعية والمفضلة للسلام وذلك بعد أن حققت نصرها العسكرى واستردت قناة السويس وطردت فلول العصابات الصهيونية، المسماة كذبًا جيش دفاع، بعيدًا عن ضفة القناة، فمدت يدها بالسلام لتثبت أنها ليست داعية حرب وإنما داعية حق وعدل وسلام، وأنها حاربت لتسترد أرضها وتعاقب وتقطع يد من تطاول على ترابها المقدس، وأنها تختار السلام اختيارًا لا ضعفًا، فَهِم ذلك وقَبِل من فهم، ورفض من رفض، فلمصر حقها الكامل فى اختيار ما يتسق مع شخصيتها وما يحقق مصالح شعبها.
بدأت القوات المسلحة، بعد توقيع اتفاقيات السلام، فى إعادة بناء نفسها اتساقًا مع ما استوعبته تاريخيًا فى وجوب بقائها على درجة من القوة كافية لحماية الأمة المصرية ومقدراتها ولردع من يخال له القدرة على سرقة قطعة من أرضها من الضباع المجاورة أو قوى الاستعمار فى أثوابها الجديدة.

«5»
ما أنجزته القيادة المصرية، من فرض توقيت المعركة وتحقيق هدفها بهذا الشكل الأسطورى الذى كسر أنف الصهيونية ومعها قوى استعمارية تقليدية ثم فرض رؤيتها فى كيفية تحقيق السلام واسترداد باقى التراب الوطنى سلمًا، كان كافيًا جدًا لأن تكون تلك القيادة مستهدفة بشكل مباشر وأن تكون مصر ذاتها مستهدفة حتى لو بالتجميد، كمين الشهيد السادات اتخذ شكل اتفاق ثلاثى بين مصر ودولة عربية كبرى وأخرى عظمى تحولت مصر بموجب هذا الاتفاق إلى مسرح لأفاعى وحيات وضباع الجماعات التكفيرية حتى حانت لحظة دفع مصر الثمن التى عاصرناها. 
ظهر بعد تفجر المواجهة دور القوات المسلحة، حيث خاضت حرب استنزاف ثانية لتطهير أرض مصر من ميليشيات مسلحة ومختلطة تعمل لصالح جيوش وأجهزة مخابرات دول أخرى،حرب استنزاف كلفت مصر مليار جنيه شهريًا لمدة تسعين شهرًا. 
أى أن القوات المسلحة المصرية حققت ثلاثة انتصارات فى ثلاثة حروب فى حوالى خمسة عقود ونصف العقد «حرب الاستنزاف الأولى ضد الصهيونية، حرب أكتوبر، حرب الاستنزاف الثانية ضد ميليشيات تعمل بالوكالة عن عدة دول»، وفى كل واحدة من هذه الانتصارات عبّرت هذه القوات عن سمات الشخصية المصرية الأصيلة والأصلية.
بدأ السيسى يثير تململ واستفزاز قوى الشر بعد أن عبر عن مشروعه ببساطة «عايزين نبى بلدنا»، مشروعه على بساطته كما يتخيل البعض هو تمامًا ما أراده محمد على باستثناء أى أفكار توسعية، وهو مشروع ناصر باستثناء اختيار السيسى للقومية المصرية مع علاقات معتدلة مع الجميع، أداء السيسى يحاول أن يتجنب ما وقع فيه السابقون من أخطاء دون التنازل عن الهدف، ومع نضجه المعلوماتى والفكرى واستيعابه التام تاريخ الأمة المصرية وعوامل قوتها، فقد أدرك أن البقاء على قوات مسلحة قوية هو هدف وجوبى لا سبيل للتنازل أو التهاون فيه، فبدأ فى تعظيم قدرات القوات المسلحة بشكل مشروع وأدرك غالبية المصريين هذه الحقيقة فساندوا الرجل ولم يستجيبوا لأى محاولات متعمدة للقيام بالضغط على الرئيس فى هذا الملف. 
كما قامت القوات المسلحة بمشاهد أخرى تسير بشكل متسق مع تاريخها كله، مثل مشاهد إعمار غزة، ومشاهد الإنقاذ فى ليبيا ومشاهد غوث السودانيين على حدودنا الجنوبية.

«6»
منذ أيام قليلة وفى معرض الاحتفال بيوم التفوق للجامعات المصرية بمدينة الإسماعيلية استمعتُ لكلمة الرئيس السيسى فى جلسة «بناء الإنسان»، ولا أبالغ إن قلت إن ما ذكره الرئيس بصراحة، وهو يتحدث عن الألف معلم وطريقة إعدادهم فى الأكاديمية العسكرية، يجب التوقف عنده كثيرًا، خاصة حين يكون الحديث عن تاريخ القوات المسلحة المصرية. قال الرئيس إن إلحاق هؤلاء المعلمين لمدة ستة أشهر بالأكاديمية العسكرية لبناء الشخصية بعيدًا عن فنيات المهنة. وإن ذلك لا علاقة له بالعسكرة كما يقول البعض، لكننا نريد أن نطمئن على مستقبل الصغار وأننا لا نشكك فى ولاء أحد. حديث يصب مباشرة فيما أعتقد يقينا أنه أحد أهم سمات القوات المسلحة المصرية التاريخية. فهى، عبر القرون، كانت خير حافظ ومؤتمن على الإبقاء على شخصية الأمة المصرية. هذه الشخصية تعنى الولاء المطلق لأرض مصر وتعنى التمسك بالقيم المصرية الأخلاقية العامة، والتحصن ضد محاولات سلخ الهوية المصرية التى تعرضت لها الأمة المصرية عبر العقود الأربعة التى تلت انتصار أكتوبر. لقد ألقى الرئيس بحديثه الشجاع هذا حجرًا فى بركة راقدة كنا نتحرج من الاقتراب منها. فبعض من قاموا بمحاولات تشويه الهوية كانوا يفعلون ذلك مستغلين تحكمهم فى عقول الصغار، وأنا شخصيًا أذكر جيدًا أننى أول مرة أستمع لمصطلحى «شهداء الدنيا» و«شهداء الدين» كان ذلك على لسان أحد معلمى اللغة العربية والتربية الدينية، وذلك فى معرض محاولته إقناع تلاميذ فى مرحلة إعدادية بأن الشهادة بمفهومها الإسلامى تنطبق فقط على الحروب الدينية، بناء الشخصية المصرية يعنى الحفاظ على مكونات هويتها التاريخية وتصالحها مع جميع تلك المكونات، وإعادة تصويب الخطاب التعلميى بجانب الخطاب الدينى. حين يتم تأهيل كوادر التعليم، فى هذه النقطة، فإننا بذلك نحصن أجيالًا قادمة من الوقوع فى نفس الفخ الذى وقع فيه مصريون فى تلك العقود السابقة التى ذكرتها، التحاق كوادر تعليمية، وربما قريبًا كوادر إدارية، بالأكاديميات العسكرية للحصول على دورات توعوية بجانب التأهيل المهنى الفنى لا يعنى تجييش أو عسكرة المجتمع، إنما يعنى تأهيلًا من نوع خاص يختص بالهوية وبسمات الشخصية المصرية والانضباط.

«7»
هذا هو موجز لتاريخ القوات المسلحة المصرية عبر ما يقرب من خمسة آلاف عام. ولو تجرأت وأجزت لنفسى حق إمهار هذا المقال البحثى المطول بوصية مَن قرأ هذا التاريخ، فإننى أتوجه بهذه الوصية إلى المصريين المعاصرين أداء لأمانة القراءة والبحث، أقول لهم إن هذا التاريخ قد قرأه جيدًا أعداؤنا. لقد قرأوه وفهموه وحللوه وصاغوا دراسات علنية وأخرى سرية، بعضها قديم وبعضها حديث معاصر، وطبقوا نتائج دراستهم لهذا التاريخ فى طرق استهدافنا، وأول ما وضعوه هدفًا أو استهدافًا كان هذه القوات المسلحة المصرية. أدركوا أنها أحد أهم أسرار بقاء وحيوية هذه الأمة وهذه البلاد التى منحها الله أقدارًا جغرافية متفردة لن يكف عن الطمع فى الاستيلاء عليها الطامعون ليوم الدين، حين فرّط المصريون قديمًا فى قوتهم هذه دفعت مصر ودفعوا معها ثمنًا ثقيلًا من حريتهم وكرامتهم واستقلال بلادهم، فى أوقات كانت المواجهة صريحة باستهداف عسكرى واضح وعداء معلن، وفى أوقات أخرى كانت المواجهة أشد خبثًا وأكثر نعومة، لكن بقيت النتيجة واحدة مثل مسلمات علم المنطق.. حين يفرط المصريون فى قواتهم المسلحة أو يتكاسلون عن تعظيم قدراتها بشريًا وعلميًا وأسلحة، تدفع مصر الثمن طويلًا وتتقهقر عقودًا أو قرونًا للخلف، لن تتغير هذه المسلمة ما بقيت مصر فى موقعها الجغرافى، وما بقيت على الأرض بلاد وأمم. 
فى الوقت المعاصر حدد الضباع خطتهم بشكل أكثر خبثًا، ومفتاح شفرتها كلمة التشكيك والتشويه، التشكيك فى هذه القوات ومحاولة تشويهها وتشويه قياداتها وتشويه المؤسسة ذاتها بين المصريين، فى كتابى الصادر منذ أكثر من عامين «الكتاب الأسود» ذكرت أنه لا يصح أن تكون أقصى غايات المصريين مجرد البقاء على قيد الحياة، فهذا لا يليق بمصر، وهذا ما ذكره الرئيس ذو الرؤية والمشروع حين قال لا يصح أن تكون «اللقمة» هى غاية ما نطمح إليه، مصر أكبر من هذا بكثير، ولكى نقف على عتبات الطريق الذى يقودنا إلى ما يليق بمصر، علينا أن نحدد خياراتنا بشكل واضح.
لا تفريط فى قواتنا المسلحة أو قدراتها أو حتى مجرد السماح بتشويهها أو استهدافها أو زعزعة الثقة فيما تقوم به على الأرض، أو محاولة ابتزاز قياداتها لتحجيم مواردها الاقتصادية.. هذا يجب أن يكون خيارنا الوجوبى الأول. 
على المصريين أن ينضجوا وأن يتخطوا مرحلة الوقوع فى نفس الفخاخ. 
هذه وصية من قرأ تاريخ هذه البلاد.. الدفاع عن كيان هذه المؤسسة والدفع فى طريق تعظيم قدراتها مهما بلغ الثمن الذى يجب علينا دفعه، فالحفاظ عليها وعدم القبول بأى حملات تشويه وتشكيك بها يعنى الحفاظ على مصر ذاتها، والعكس صحيح.