رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا يصر بعض أئمة مساجدنا على تجاهل نصر أكتوبر؟!

(1)

اليوم الجمعة الموافق السادس من أكتوبر، والموافق لمرور نصف قرن على نصر مصر الأعظم ويومها المشهود فى العصر الحديث، وموضوع خطبة الجمعة التى حفظتها ذاكرتى - من فرط الحزن لا الاحتفاء - هو الاستشهاد وفضله وأنواعه، والمحصلة مؤسفة ومحبطة..لا جديد فوق المنبر فيما يخص نصر أكتوبر، حتى عندما أهدانا الله يوم جمعة موافقًا ليوم السادس كان نفس النهج والإصرار..لا أصدق حتى الآن أن إمام المسجد اتخذ قرارًا ونفذه بألا يذكر تصريحا أو تلميحا أى شىء عن اليوم الذى لا تحتفى به مصرُ وحدها، لكن يحتفى معها وبها أشقاءٌ عرب وآخرون يدافعون عن الحق والعدل! وما فعله هو استمرار لسنواتٍ طويلة اتخذ فيها أئمة مساجد مصر موقفًا هو الأغرب والأسوأ تجاه يومٍ قدم فيه أكثر من عشرة آلاف مصرى أرواحهم فداء لهذا الوطن وأبنائه وعِرضه وكرامته، ولولا أن وهب الله لمصر هذا الجيل لربما لم يكن متاحًا لنا اليوم رفاهية هذه المناقشة رغم قسوتها وألمها!

استبشرتُ خيرًا بمقدمة الخطبة عن الاستشهاد فى سبيل الله، لكن ما لبث الوجوم أن حل محل الاستبشار حين استغرق الشيخ فى خطبته عن عبدالله بن رواحة، وعمير بن الحمام (رضى الله عنهما) وقصة استشهادهما، وتحدث عن صحابى آخر هو حنظلة بن الربيع، أفاض فى الحديث عن فضائل الجهاد فى سبيل الله والاستشهاد فى سبيل الله وذكر أن الاستشهاد أنواعٌ منها المبطون والغريق...إلخ ولم يلفظ لسانه طوال خطبته بكلمة أو عبارة (المدافع عن وطنه!) ولم يلفظ بلسانه أية كلمة أو عبارة يشتم منها أنه يلمح ليوم السادس من أكتوبر! أستعير ما نقوله بالعامية..هو فى إيه؟! هى الناس دى مالها فعلًا؟! 

(2)

أنا فى حالة ذهول.. لماذا يتخذ بعض أئمة مساجدنا هذا الموقف الرافض للاحتفاء بنصر أكتوبر؟! أعرف أنه قد كان من أدبيات الخطاب الدينى المتطرف - الذى أظن أن مصر نجحت بشكلٍ كبير فى حصاره والبدء فى تصويبه - التفريق بين مصطلحات اتفقوا عليها مثل (شهداء الدنيا وشهداء الآخرة!) وأن ما حدث فى العقود السابقة كان واضحًا لا يحتاج إلى شرح أو مزيدٍ من تفسير. فقد انقسم كل الذين يصعدون المنابر فى مصر - رسميا أو بقوة الأمر الواقع وسيطرة الجماعات التكفيرية والمتطرفة على مساجد مصرية كثيرة - إلى قسمين، الأول هم من صرحوا وصارحوا بأنهم لا يعترفون بكلمة وطن أو الدفاع عنه أو الموت من أجله، وأن كل الحروب التى تقوم من أجل الأرض لا علاقة للإسلام بها وأن قتلى هذه الحروب ليسوا شهداء، وكنا نسمع هذا صراحة وعلانية! أما القسم الثانى وهو الأهم فهم أئمة مصر الرسميون خريجو مؤسسات دينية رسمية وحاصلون على تصاريح بالخطابة أو يقومون بعمل دائم وهو وظيفة (إمام مسجد)، وفى العقود السابقة وحتى اندلاع أحداث يناير، اتخذ هؤلاء موقفًا سلبيًا من المسألة برمتها، فهم قرروا الصمت! وهنا فالصمت لا يمكنه أن يكون حيادًا، بل كان موافقة ضمنية لما كان يتم ترديده علانية من قبل المنتمين للقسم الأول! موافقة ترضى هوى المنتمين للتطرف الدينى وفى نفس الوقت لا تعرضهم لأى مساءلة! تمامًا كاليوم! فمن هذا الذى يمكنه أن يلوم إمامًا يتحدث عن استشهاد صحابى جليل؟! لكن الله يمنحنا أيامًا ولحظات كاشفة لا يمكنها أن تكون عَرَضية دون حكمة إلهية، فمشيئة الله أن يوافق يوم الجمعة السادس من أكتوبر، ليكون ذلك فرزًا وكشفًا لما يحمله كل إمامٍ فى رأسه! 

اليوم يوافق مرور خمسة عقود كاملة على هذا النصر العظيم، وكان يمكنه أن يكون بداية حقيقية لحقبة تاريخية مختلفة فى علاقة المؤسسات الدينية المصرية بشخصية مصر وتاريخها وأيام مجدها وعزها، اليوم تقريبًا كل المصريين يشعرون بالسعادة وأنه يوم عيد حقيقى وكثيرٌ منهم يستمتعون بمشاهدة أعمال وثائقية أو درامية عن هذا اليوم المُعجز، وبعضهم يحدث أبناءه بما يعرف..إلا أئمة مصر لا يعترفون بأن هذا اليوم عيدٌ ويجب الاحتفاء به، أو على الأقل لا بأس دينيًا من الاحتفاء به والحديث عن شهدائه!

الذين بلغوا العقد الخامس من العمر أو يقتربون من ذلك، يتذكرون جيدًا بعض المشاهد - التى حين يتم وضعها فى مواجهة موقف الشيوخ من يوم أكتوبر - تصبح مشاهد محبطة أو - من وجهة نظرى الشخصية - مخزية ومشينة! ففى يومٍ ما صلّت مساجد مصر وترحمت على (شهداء البوسنة والهرسك) بينما حتى اليوم يبخل أئمة المساجد حتى بالدعاء لشهداء أكتوبر عقب خطبة الجمعة أو حتى الترحم عليهم! 

(3)

أفاض شيخنا فى وصف حرص أحد الصحابة على الجهاد يوم عرسه، حتى إنه وحسب وصفه (ضاجع زوجته ثم هرع للجهاد حتى دون أن يغتسل من الجنابة ودون أن يتلذذ بزوجته أو تتلذذ به ثم غسّلته الملائكة). ورغم تحفظى على بعض هذه الألفاظ التى لا تليق، فإننى أعتقد أن تاريخ كل ديانة ودولة فى بدايات تأسيسها ملىء بصفحات بطولية كبرى، وأن لدينا مئات الخطب التى نستمع فيها إلى سِير هؤلاء الأبطال من الصحابة. فلا يضير الإسلام شيئًا أن تُخصص خُطب بعض الجُمع لجهاد مصر المعاصرة، والذى يجب أن نشعر بالامتنان لأبطاله، فنحن الذين جنينا ثمار هذا الجهاد، ومنهم الشيخ والمصلون على حد سواء! 

لذلك فإننى أريد أن أسأل هذا الإمام وغيره من أئمةٍ أصروا على تجاهل هذا الجهاد المصرى المعاصر، بينما ينتهزون كل فرصة للاستفاضة وتكرار صفحات دينية حفظناها عن ظهر قلب..ألم يخبرك أحدٌ يا مولانا أن هناك مئات من أبطال الظل الذين مكثوا شهورًا فى صحراء سيناء يستطلعون أخبار العدو وهم لا يقتاتون إلا على كسرة خبز وشربة ماء، وبعضهم كان عليه أن يحيا حتى بدون هذه أو تلك! ألم يخبرك أحدٌ عن أبطالٍ بترت سواعدهم وظلوا فى أرض المعركة؟! هذا اليوم يوم هؤلاء الأبطال والشهداء، هذا حقهم فى أن يُحتفى بهم فى كل شبرٍ من أرض مصر وفى كل مؤسسةٍ من مؤسساتها، ولم يكن من حقك أن تختطفه منهم! نحن المصريين نحب الصحابة ونجلّهم، لكن المشكلة فى بعض أصحاب الفضيلة! 

يؤسفنى أن أقول إن لدى تراكمات سلبية كبرى عن دور أئمة المساجد فى مصر عبر أربعة عقود كنتُ شاهدًا عليها. وأن موقفهم من المسائل والمفاهيم الوطنية الأساسية ومنها نصر أكتوبر تحديدًا هو أحد مسوغات رسوخ هذه الرؤية السلبية لدىّ. لكن أملًا كبيرًا راودنى فى السنوات الأخيرة، وبعد أن فُتحت مسائل بالغة الحساسية ومنها ملف الخطاب الدينى، واستطاعت مصر بالفعل اتخاذ خطوات مهمة لمسنا آثارها وشهدنا تصدى قيادات دينية رفيعة مستنيرة للمشهد، لكن يبدو أننا أحيانًا نبالغ فى توقعاتنا، وأن هناك مسائل معقدة عقليًا فى (السوفت وير) الخاص بشخصيات أئمة المساجد، أو هناك ارتباك مصطلحات وعقائد لدى قطاع كبير منهم!

(4)

إننى كمواطن مصرى أشعر اليوم بإساءة بالغة من هذا التجاهل المتعمد، خاصة أن اليوم قد صادف يوم السادس من أكتوبر، خاصة أن موضوع الخطبة كان عن الاستشهاد..وإننى أعتقد أن هناك مشكلة حقيقية عبرت عن نفسها اليوم بشكل صريح وواضح لا يقبل اللبس.

 وبعيدًا عن التهويل أو التهوين، فإننى - كمواطن مصرى - لدىّ عدة تساؤلات أعتقد بمشروعيتها، وأتوجه بها مباشرة إلى مسئولى وزارة الأوقاف وعلى رأسهم فضيلة العالم المستنير د. مختار جمعة آملًا أن تكون هناك إجابات حقيقية وفعلية.

ما هو موقف الإسلام الذى تعتنقه مصر من جهاد أبناء الأوطان دفاعًا عن أوطانهم؟  

ما هو موقف المؤسسات الدينية الرسمية - وزارة الأوقاف تحديدًا المرتجى اعتدال قياداتها - ممن دافعوا عن مصر فى حروبها المعاصرة حتى قُتلوا دفاعًا عن أرضهم؟ هل هم شهداء حقيقيون أن أنكم تعتقدون أنهم شهداء دنيا؟!

هل حرب أكتوبر هى جهاد إسلامى أم لا؟ 

إن كانت جهادًا، فلماذا لا يتم دمجها فى خطب الجمعة بشكل واضح حقيقى معلن؟!

هل هناك ما يمنع دينيًا التحدث فوق المنبر عن شهداء مصريين وقصص استشهادهم كما يتم التغنى بأبطال ما يسمى بالفتوحات الإسلامية؟! األيس المدافعون عن أوطانهم لديهم مشروعية إسلامية فى اعتبارهم شهداء إن ماتوا وأبطالًا إن عادوا أحياءً؟!

إذا كان الرأى الدينى لعلماء وزارة الأوقاف هو كما نتمنى ونعتقد، فلماذا لا يتم دمج هذا الموقف بشكل رسمى فى خطب الجمعة خلال شهر أكتوبر؟! ولماذا لا تقوم قيادات الوزارة بتقديم مواد تاريخية وثائقية للأئمة إن لم يكن لديهم من المعلومات ما يكفى؟!

وأخيرًا..فإنه ليس عيبًا أن يطلب أحدنا الحقيقة أو العلم.. لذلك فإننى أتوجه لعلمائنا الأجلاء بهذا التساؤل الأخير..إن كنتُ أفهم المسألة بشكلٍ خاطىء، فلا بأس من أن يتفضل أحد السادة العلماء بشرح ذلك وتوضيحه..على الأقل لكى أصمت علمًا لا كَمدًا!