رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

منذ تكوينها حتى انتصار أكتوبر..

تاريخ القوات المسلحة المصرية فى 5 آلاف عام! (1)

(الجزء الأول)

كلمة السر الأولى..الدفاع عن حدود مصر الشرقية!

(1)

القوات المسلحة المصرية هى أعرق جيوش العالم النظامية، تتوازى عراقتها مع عراقة مصر.. أقدم دولة وطنية وضعت لنفسها حدودا تُعد الأقدم فى العالم. ما بين التكوين الأول منذ حوالى القرن 28 ق.م وبين انتصار أكتوبر 1973م لدينا تاريخٌ ممتد لما يقرب من خمسة آلاف عام من البطولات والشرف العسكرى، ولدينا أيضًا مئات المحاولات المعادية والموجهة بشكل مباشر من أجل تحقيق هدف واحد، وهو تجريد مصر من قوتها العسكرية، أو إضعافها أو تشويهها، ولدينا جملة من الحقائق والمسلمات التاريخية التى صاغتها الوقائع والأحداث، والتى ينبغى أن يدركها المصريون المعاصرون! فى هذا الحديث بأجزائه مجتمعة- ونحن نتنسم ذكريات نصر أكتوبر الأعظم ونحتفى بمرور نصف قرن على إعجاز المصريين العسكرى والشعبى- سأحاول خوض رحلة موجزة مع تاريخ قواتنا المسلحة عبر العصور المختلفة حتى نصل فى آخرها إلى إدراك تلك المسلمات والحقائق الوجوبية!

إن الوقت الأمثل والمحك الحقيقى للحكم الأخلاقى والقيمى على أى حضارة، خاصة من حيث جنوحها للسلام أو العدوان، أو من حيث تقيدها بقيم أخلاقية حقيقية حين يُكتب عليها خوض مواجهات عسكرية، هو حين تكون تلك الحضارة فى ذروة قوتها العسكرية مقارنة بما يجاورها أو يعاصرها من حضارات أو أمم، فالأمة التى تملك قوة عسكرية تفوق الآخرين ثم تؤثر السلام ولا تجنح للسطو أو الاعتداء على الأمم الأخرى؛ فهى حضارة شريفة داعية للسلام، أما الأمة التى يصيبها السعار بمجرد أن تتملك تلك القوة- ودونما أن تتعرض لأي اعتداءات- فتصبح كوحشٍ كاسر يحاول أن يلتهم الأمم الأخرى فهى أمة عدوانية طامعة غازية وتجنح لاستعمار الشعوب مهما حاولت أن ترفع من رايات كاذبة لتبرير سلوكها!

(2)

حين يتجول أحدنا فى معابد الكرنك أو الأقصر أو أبوسمبل يشاهد مئات المناظر الحربية البرية أو البحرية للقوات المسلحة المصرية فى عصر الدولة الحديثة- من حوالى 1550 حتى 1050 ق.م- ولو لم يقرأ أحدنا تاريخ أمته جيدًا فسيقع فى الفخ بسهولة، ويمكنه أن يكون صوتًا دعائيًا كاذبًا ضد حقائق التاريخ، ويتقول على هذه الأمة الشريفة بما ليس فيها، ويتهم أعظم حكامها بما لم يكن فيهم! لذلك نبدأ القصة من أولها حتى نستطيع تقديم صورة عادلة عن هذه القوات المسلحة الشريفة. منذ حوالى 3200ق.م- وبعد قرون طويلة سابقة من العمل والانتقال من مرحلة البدائية لمرحلة المدنية الكاملة- قامت مصر كدولة ذات حدود وعاصمة واحدة ومؤسسات حكم وإدارة محلية ومدارس ومؤسسات دينية. وكانت لها قوات مسلحة غير منظمة؛ لأنها كانت تمارس مهام بسيطة على حدودها الشرقية والجنوبية والغربية، بينما كانت هناك شرطة لحفظ الأمن بالداخل.. كان لمصر علاقاتها التجارية مع جيران خلف حدودها.. حققت مصر فى القرون الأولى خطوات عملاقة فى اتجاه توطيد وتقوية مؤسساتها مقارنة بجيرانها. 

فى حوالى القرن 28 ق.م واجهت مصر موجات من محاولات الاعتداء على الحدود الشرقية. كان ذلك نقطة البدء الحقيقية فى تكوين قوات مسلحة منظمة- برية فى البداية، ثم برية وبحرية- يكون الملك المصرى هو قائدها الأعلى ويكون لها عدد من القادة مختلفى الرتب والألقاب والمهام والتخصصات. منذ ذلك التاريخ حتى انتهاء عصر الدولة القديمة حوالى 2280 ق.م ولمدة خمسة قرون تكونت الشخصية العامة للقوات المسلحة المصرية. والشخصية العامة لأى قوات مسلحة تشمل مجموعة القيم الحاكمة والمحركة لسلوكها العسكرى أثناء الحروب، وطبيعتها من حيث الميل للانضباط أو الجنوح للفوضى والتمرد، وتشمل أيضا قوة ولائها أى نفورها من مشاهد الخيانة أو قبولها واعتيادها عليه، مدى اعتزازها بنفسها الذى يعبر عن نفسه فى رفض مشاهد الاستسلام أو تفضيله عن مواصلة القتال فى المواقف الصعبة!

ومن تمام الشخصية العامة لتلك القوات مدى شمولها التكوينى كل بقاع البلاد أو اقتصارها على مناطق بعينها. لدينا وثيقة تعود للأسرة السادسة عن فلسفة الحكم المصرى القديم فى أن يكون تجنيد المصريين شاملًا كل مناطقها لكى يكون جيشًا وطنيًا خالصًا. هو نقش تركه "أونى" فى مقبرته بأبيدوس يتحدث فيه عن تكليفه بتجنيد آلاف من المصريين، ويذكر كيف أنه طاف مصر شمالًا وجنوبًا حتى يستطيع أن يتم مهمته. بجوار الجيش المنظم ابتدع المصرى القديم فكرة تجنيد "احتياط" فى أوقاتٍ مواجهة مخاطر أو اعتداءات معينة. فى هذه القرون تمت صياغة آليات وفنيات إعداد الجيش المصرى، وتم وضع قوانين حاكمة عامة سيتم الالتزام بها فى القرون التالية.

فمن حيث شخصية القوات المسلحة المصرية- التى تبلورت فى تلك القرون الخمسة، والتى أعلنت عن نفسها جزئيًا، وستعلن عن نفسها بشكل كامل فى القرون اللاحقة- يمكننا أن نقول إنها تدور فى فلك الوطنية والحفاظ على أرض مصر. هو جيش للحفاظ على "كِمت" أو مصر، وليس جيشًا للغزو الخارجى أو السطو على أراضى الغير. وهو جيش "مصرى" يشمل كل المصريين. وجيش قرر أن يلتزم بأخلاق وسمات حضارته المصرية التى تدعو إلى أن يكون الملك مسئولًا عن تحقيق فكرة العدل والحق والنظام. فكانت بعثات التجارة الدولية تنطلق برًا ونيلًا وأحيانًا بحرًا إلى مناطق أبعد كثيرًا من حدود مصر، وكان المصريون يرون كثيرًا من مناطق الجوار هذه على درجة من الضعف يمكنها إغراء الحكم المصرى بتبنى سياسة الغزو العسكرى، لا سيما أن تلك البعثات كان يصاحبها ويمثل القوام الأكبر منها شخصيات عسكرية، لكن ذلك لم يدفع لا الملوك المصريين ولا الشخصيات العسكرية القيادية؛ لأن يخرجوا عن قيم العدل والحق! خمسة قرون كاملة تكفى لأن نقول بيقين إن الجنوح للسلام كان سمت هذه القوات منذ بدء تكوينها.

روح الانضباط والالتزام العسكرى طغت على شخصية العسكرى المصرى، سواء كان قياديًا على رأس القوات أو ضابطًا أو جنديًا. فلم تسجل الوثائق عبر هذه القرون حالات تمرد لقيادات عسكرية على مؤسسة الملك أو حتى على الرتب الأكبر والأعلى طمعًا فى الوثوب إلى مكانها. كان غاية كل منتمٍ للقوات المسلحة أن يحظى بتقدير قياداته عبر أدائه العسكرى وأن يحصل على نياشين الشجاعة وأن ينقش ذلك على جدران مقبرته. فلم تكن فكرة الأطماع الشخصية العسكرية الداخلية حاضرة فى الشخصية العامة للقوات المسلحة المصرية، فكانت بذلك متسقة مع قيمها الأخلاقية العسكرية ومع السياسة الخارجية المصرية المفضلة للسلام.

الاعتزاز الشديد بالنفس وبالألقاب العسكرية جعل من القوات المسلحة المصرية والمنتمين إليها حريصين على ألا تُذكر فى تاريخ حياتهم صفحة مشينة. فهم الذين يبذلون كل غال فى سبيل إنجاز مقبرة تمنح صاحبها مكانًا فى الحياة الآخرة، وكانوا ينقشون كل تفاصيل حياتهم وإنجازاتهم، لذلك فقد رفضوا ونفروا كل نفور من أى سلوك عسكرى مشين من خيانة أو استسلام، أو حتى الاكتفاء بمجرد الأداء العسكرى العادى، إنما كانوا دائمًا يبحثون عن التميز والتفاخر بما قاموا به، ولدينا عشرات الوثائق التى تعود للدولة القديمة والوسطى، لكن الوثائق العسكرية للدولة الحديثة تعتبر هى الأكثر وضوحًا فى صياغة عبارات قوية تصف هذه السمات التى صاغتها القوات المسلحة لنفسها منذ بدء تكوينها، لأن قادة الدولة الحديثة لم يكتفوا بذكر مفاخرهم، إنما كانوا يشيرون دائمًا بكل تقدير إلى أسلافهم القدامى!

لم تكن القوات المسلحة المصرية منذ بدء تكوينها الأول قوات بدائية بربرية فوضوية تستبيح لنفسها كل شىء فى أرض المعركة، لكنها خُلقت منضبطة تروضها قيمها الذاتية قبل أن يروضها انضباطها والتزامها بأوامر قيادتها الأخلاقية. وحسب تعبير بعض الموسوعات التاريخية "كان الجيش المصرى أخف الجيوش كلها فى المجتمعات القديمة فى حب البطش والانتقام والتنكيل بالأعداء"! بل إن لدينا وثيقة لملك مصرى تعود للأسرة العاشرة أى فى ذروة فترة الاضطرابات بين الدولتين القديمة والوسطى القرن 21 ق.م يوصى ابنه بأن أفضل طرق تأمين حدود مصر الشرقية ضد موجات الاعتداء ومحاولات التسلل هو إعمار سيناء بأعداد من الشباب المصرى، أى أن فلسفة الحكم المصرى وفسلفة الحضارة المصرية- حتى فى ذروة مواجهة الخطر- كانت مواجهة محاولات الاعتداء بالسلام والإعمار! وهذا يوضح طبيعة هذه الحضارة وشخصية قواتها المسلحة! والسبب فى ذلك هو فلسفة مصر الدينية التى كانت تفرد الاهتمام الأكبر لتوجيه أبناء مصر ناحية الانضباط السلوكى الأخلاقى الفعلى، فكان أهم الأوراد المنجية فى العالم الآخر أن يثبت الشخص عدم ارتكابه أفعالًا مدانة أخلاقيًا من اعتداء أو قتل أو سرقة أو اغتصاب لحقوق الغير، أى أن يثبت انضابطه الأخلاقى قبل أن يثبت قيامه بأفعال خيرة! 

(3)

كانت قوات شديدة العصرية والتقدم مقارنة بما جاورها وعاصرها من جيوش. تفردت بنظمها المتطورة من حيث التقسيم لسرايا وكتائب وفيالق، ولكل منها علامة مميزة، وأعداد محددة من المشاة والعربات الحربية والفرسان. وشملت حياة الجندية تدريبات بدنية متطورة كالعدو والسباق والمصارعة وتسلق المرتفعات والمبارزة بالأسلحة المختلفة، وتصويب الحراب والبلط والخناجر والسيوف المعقوفة ومهاجمة الحصون واختراقها والتستر خلف المتاريس واستخدام التروس وركوب الخيل.

كان للجيش المصرى منذ بدء تكوينه مصانعه الحربية ومعسكرات تدريب، ولكل منها إدارات مختلفة مثل إدارة الأسلحة والمعدات وإدارة المؤن وتجميع الأسلحة، وإدارة المخابرات الحربية. كما حرصت قيادات الجيش على تزويد القوات بما يكفيها من مؤونة حتى لا ينجرف بعضهم- تحت وطأة الحاجة- إلى النهب أو العدوان. وحرصت القيادات على تحفيز الجنود بمختلف الأشكال. واتخذ هذا التحفيز أحيانًا شكل ميدالية فى صورة أسد تتدلى من شريط رمزًا لشجاعة الجندى فى الميدان، أو ميدالية فى صورة ذبابة رمزًا لخفة الجندى فى مطاردة العدو. وأحيانًا اتخذ التكريم شكل أسلحة مذهبة ومطعمة بالأحجار الكريمة أو قطعة أرض فى بلد الجندى.

امتلك الجيش المصرى أسطولًا بحريًا منذ بدء تكوينه، كان مكونًا من أربع فئات من المراكب "فئة لخوض المعارك- ولنقل الجنود- ونقل الملك وحرسه وحاشيته- ولنقل البضائع". لقد صنع المصريون المراكب منذ فجر التاريخ، وكانت أولى المعارك الموثقة على نهر النيل معركتهم ضد الهكسوس أوائل القرن السادس عشر قبل الميلاد، بينما كان أكبر معاركهم البحرية فى البحر المتوسط فيما بعد، وهى معركة رمسيس الثالث ضد شعوب البحر وانتصارهم الكبير آنذاك فى القرن الثانى عشر قبل الميلاد.

كان جيشًا مصريًا خالصًا فى الفترة من القرن 28 ق.م وحتى بدايات ما يعرف بالعصر المتأخر "الممتد من الأسرة 21 حوالى القرن العشرين ق.م وحتى غزو الإسكندر لمصر 332ق.م".

(4)

بعد أن مرت مصر بعصر الاضطراب الأول واستعادت قوتها وكونت الدولة الوسطى- 2134 حتى 1778 ق.م- استعادت قوتها المسلحة بريقها الأول وعكف حكام مصر على دراسة أسباب ما تعرضت له مصر فى عصر الاضطراب ورأوا وجوب بناء حصون قوية على حدود مصر الجنوبية على حدود الشلال الثانى أى على نفس حدودها المعاصرة تقريبًا. قامت القوات المسلحة بدورها على مدار حوالى أربعة قرون ونصف القرن. لكن ظهرت أفكار سياسية جديدة تخص شكل الحكم ومدى السلطة الممنوحة من الدولة المركزية لحكام الأقاليم. أصبحت هناك قوات محلية تخضع مباشرة لسلطات حكام الأقاليم. لم يكن لتلك السياسة أى أثر سلبى فى فترة قوة الدولة المركزية، لكن تلك الآثار السلبية بدأت فى الظهور فى أواخر عصر الدولة الوسطى حين بدأ حكام الأقاليم فى الدخول فى صراعات محلية وصلت لمحاولة بعضهم ادعاء حق الحكم الملكى. تزامن ذلك مع تعرض حدود مصر الشرقية لموجة تسلل كبرى وسيطرة واستيلاء على قطعة من أرض مصر تشمل سيناء وتمتد غربًا للدلتا، تبع ذلك الغزو الأجنبى الأول لمصر وهو غزو الهكسوس. لقد كان صراع الساسة المحليين من حكام المقاطعات هو السبب الأقوى فى نجاح هذا الغزو الأجنبى لمصر عام 1675ق.م! سبقت هذا الغزو مرحلة تفكك داخلى استغله الجيران شرقًا! ثم فوجئ المصريون بعد أن وقعت مصر تحت هذا الغزو بأن بعض جيرانها فى الجنوب قد تواطأوا مع الغزاة وعقدوا معهم محالفات تستهدف حصار مصر! كان ذلك صدمة كبرى للمصريين جعلتهم فيما بعد يغيرون سياستهم الخارجية التى امتدت لما يزيد على سبعة عشر قرنًا!

اشتعلت الروح القومية المصرية فى بعض مناطق مصر. لم يقبل المصريون فكرة الخضوع للحكم الأجنبى وقرروا أن يستعدوا لإنقاذ بلادهم، وقد قادت حرب التحرير أسرة قوية من جنوب مصر أو الأقصر شملت عدة ملوك "سقنن رع. كاموس. أحمس الأول". أظهرت القوات المسلحة فى هذه الحرب كل خصائصها وشخصيتها التى كونتها عبر القرون الماضية. استشهد بها سقنن رع واستشهد ضباط وجنود فى سبيل دحر الحكم الأجنبى. ظهرت الروح القومية بشكل قوى فى جميع الوثائق التى تركها قادة الجيوش المصرية منقوشة على مقابرهم، ومن أشهرها مقابر منطقة الكاب التى نجد بها أهم وثائق حرب التحرير، وهى وثيقة القائد أحمس ابن أبانا قائد الأسطول فى تلك الحرب، الذى عاصر ثلاثة من ملوك الأسرة الجديدة "الملك أحمس والملك أمنحت الأول وتحتمس الأول". عاصر هذا القائد الملك أحمس قائد حرب التحرير وداحر الهكسوس، كما عاصر أول ملكين بعده وهما مؤسسا الدولة الجديدة أو الدولة الحديثة ومن صاغا سياستها الخارجية الجديدة. فى هذه الوثيقة الكبيرة نجد وصفًا للمعارك ونجد حضورًا قويًا لما ذكرته من خصائص وشخصية القوات المسلحة المصرية من شجاعة وروح قومية وحرص على أداء الضباط والجنود مهامهم وحرص القائد الأعلى على مكافأة المتميزين من هؤلاء الضباط والجنود، والأهم أننا نجد وصفًا لحروب عسكرية شريفة ولا نجد ذكرًا لنهب أو سلب أو أي ممارسات من تلك التى كانت شائعة فى ذلك الوقت!

(5)

بعد تجربة المصريين القاسية تلك وما فوجئوا به من خيانة بعض الجيران وانتهازهم فرصة غزو مصر للمشاركة فى القضاء عليها، بدأ ملوك الدولة الحديثة التى امتدت لخمسة قرون- حوالى 1550 وحتى حوالى 1050قبل الميلاد- فى تعظيم قدرات قوات مصر المسلحة بصورة لم يسبق لها مثيل، كما بدأوا فى صياغة سياسة خارجية جديدة تقوم على الردع وتأمين أعماقهم القومية خارج حدود مصر، ويقع كثيرون منا فى خطأ كبير فى قراءة وتفسير هذه السياسة ولا يضعونها فى موضعها الصحيح مما سبقها من قرون. فمصر أثبتت أنها حضارة داعية للسلام وحسن الجوار، وكانت أكثر من أربعة عشر قرنًا من تملك مصر القوة العسكرية القادرة على اجتياح جميع البلدان المجاورة، لكنها لم تفعل كافية جدًا لأن نقدر هذه الحضارة حق قدرها. فما حدث بعد طرد الهكسوس كان رد فعل لما سبق ولم يكن اختيارًا مصريًا خالصًا!

رغم توسع بعض الملوك فى تجنيد بعض الأسرى من غير المصريين فى الجيش المصرى- وكان هذا خطأ سياسيًا ستدفع مصر ثمنه فيما بعد- لكن ظلت القوات المسلحة طوال هذه القرون الخمسة مصرية فى قوامها الأعظم وفى توجهاتها القومية وفى الالتزام والاتساق مع شخصيتها التاريخية "الدفاع عن الأرض- عدم الجنوح لممارسات مشينة عنيفة- الانضباط التام"

تم التوسع فى تجنيد المصريين وتم استحداث وظائف عسكرية جديدة مثل "كاتب المجندين"، وهو لقب رفيع يتولاه مسئول عن عملية تجنيد المصريين. إدارة المجندين أصبحت لها مهام أوسع. تصنيع الأسلحة شمل الحصول على أسلحة من خارج مصر وتصنيعها وتطويرها وإدخال تعديلات عليها. إدخال رياضات عسكرية جديدة، مثل ترويض الخيول وعدم الاكتفاء باستخدامها فى قيادة العربات الحربية، لكن أصبح لها قسم خاص بالخيالة، وهم فى ذلك قد سبقوا البلاد التى سبقتهم فى استخدام الخيول لقيادة العربات الحربية! أصبح لدى مصر إدارة خاصة بالأسرى، وهنا تعبر شخصية القوات المسلحة عن نفسها بقوة فى عدم استخدام أسيرات الحرب فى أي مشاهد مشينة، بل الثابت استخدامهن فى أعمال خاصة فى المعابد، مثل جمع الزهور أو تقديم البخور أوغسل ملابس فى حين كانت حضارات أخرى معاصرة تتفاخر بمشاهد اغتصاب النساء فى حالات الانتصار! ولم يتم استعباد الأسرى الذكور ونأت مصر وقواتها العسكرية بنفسها عن هذا السقوط الإنسانى والحضارى!

كان الملك هو القائد الأعلى لقواته المسلحة وكان يتم تنشئة ولاة العهد والأمراء تنشئة عسكرية ويتم تعليمهم العلوم والفنون بجانب الرياضات البدنية العسكرية ونشأت من مصر فكرة إعداد القادة الجدد من ساسة وعسكريين وعلماء!

فى تلك الفترة ظهرت بقوة "الهيئة الهندسية للقوات المسلحة المصرية"، والتى كانت تقوم بمصاحبة حملات التحجير وتقوم بأعمال هندسية معجزة، ولدينا وثائق عديدة عن إعدادها مساكن سابقة التجهيز لآلاف العمال وقيامها بشق الصخور فى النيل وغيرها! خاضت القوات المسلحة المصرية فى تلك الفترة معارك خالدة كبرى، مثل معركة مجدو ومعركة قادش ومعركة شعوب البحر البحرية ولقب الملك المصرى تحتمس الثالث بنابليون مصر القديمة!

كان هذا هو العصر الذهبى للقوات المسلحة المصرية على كل الأصعدة وفى كل الأسلحة.. وهذه الفترة تحديدًا هى التى تمت دراستها جيدًا من خصوم مصر، وخلقت فيما بعد حتى الآن الفكرة الشيطانية أن سر إضعاف مصر والسيطرة عليها يكمن أولًا فى استهداف قواتها المسلحة!

(6)

فى الثلث الأخير من هذه الفترة العظمى من تاريخ مصر وحضارتها وقواتها المسلحة، أصبحت مصرُ هدفًا مستمرًا لموجات غزو متلاحقة وكثيفة ومن أكثر من جهة أو حدود، بل وأصبحت برية وبحرية متزامنة. وكأن هدف استنزاف قوتها أصبح بندًا دائمًا على موائد الضباع المحيطة بها أو حتى النازحين من بلادٍ أبعد. فمنذ عصر الملك مرنبتاح فى نهايات الأسرة 19 حوالى 1222 قبل الميلاد بدأت حدود مصر الغربية تمثل خطرًا متعاظمًا ضد الدولة المصرية يتمثل فى موجات لهجمات من تحالف قبائل مجاورة مع شعوب البحر من الهندو أوربيين. لم تكن فقط غزوات عسكرية وإنما نزوح جماعى عنيف استطاع هذا الملك صده أكثر من مرة، وفى إحداها أسر أكثر من تسعة آلاف أسير. وفى عصر رمسيس الثالث فى القرن الثانى عشر قبل الميلاد ازدادت حدة وضخامة هذه الموجات المتلاحقة وشكلت حملات كبرى فى أعوام مختلفة من حكمه. فمثلًا فى إحداها بلغ عدد خسائر المعتدين ما يزيد على ألفى قتيل وألفى أسير. وفى ثلاث حملات شن المعتدون هجومًا على حدود مصر من ثلاث جهات بالتزامن، برًا من الحدود الشرقية والغربية، وبحرًا من الشمال. وفى إحداها خاض الأسطول المصرى أعظم معاركه البحرية القديمة وحققوا أعظم انتصار بحرى فى العصور القديمة، وهو الذى خلدوه نقشا وكتابة على جدران معبد مدينة هابو بغرب الأقصر..

نجحت القوات المسلحة المصرية فى هذه العقود نجاحًا عظيمًا فى حماية حدود مصر، وخلدت هذه الانتصارات المتوالية اسم هذا الملك العظيم الذى يعتبره المؤرخون آخر ملوك مصر العظماء. صمدت قوات مصر المسلحة أمام كل هذه المؤامرات للاستيلاء على مصر وكسر قوتها وإنهاء حضارتها. لكن ترتب على هذه الحروب المتوالية أن تم استنزاف اقتصاد مصر. لكن هذا لم يكن بمفرده سببًا يمكنه ترويض هذه الحضارة العظيمة القائمة على العمل والإنتاج. لكن كان هناك ما هو أسوأ من ذلك. فقد بدأت سلطة البيت الملكى تبدو ضعيفة منهكة بعد ثلاثة عقود قضاها الملك رمسيس الثالث فى الحكم، وانتهز رجال الدين هذه الفرصة فى ابتزاز الملك والحصول منه على مخصصات مالية ضخمة دفعت بمصر إلى ظروف اقتصادية أسوأ بينما تكدست فى المعابد الثروات من الذهب والمنتجات الأخرى والمحاصيل، بينما تدنت أحوال مصر الاقتصادية على كل الأصعدة..

ثم ترتب على خوض القوات المسلحة كل هذه المواجهات المتتالية وتحقيقها هذه الانتصارات أن أصبح هناك آلاف من الأسرى من غير المصريين وأغلبهم من المحاربين..هذا التغير الجديد تزامن مع ما كان يتعرض له رمسيس الثالث من ضغوط فى سنوات حكمه الأخيرة وصلت فى الأيام الأخيرة – فى مشهدٍ غير مألوف فى تاريخ مصر السياسى – إلى تآمر إحدى زوجاته مع ابنه الأكبر لاغتياله. 

كان من نتيجة ذلك أنه اتخذ قرارًا سياسيًا خاطئًا، سيكون هو كلمة البداية المؤلمة فى أن تفقد مصر استقلالها لقرونٍ آتية. .وستدفع مصر وقواتها المسلحة ثمنًا باهظًا جدًا لهذا القرار..إننى أعتقد أن هذا الملك قد ظلمه التاريخ حين علق فى رقبته تبعة هذا القرار، لأن ما تعرض له كان أضخم من أن يحتمله.. موجات متوالية من قوى ضخمة متعددة الجنسيات برًا وبحرًا، لا يكاد يفرغ من صد إحداها حتى تباغته الثانية، ثم كان لتسلل زوجات غير مصريات لبلاط بعض ملوك الدولة الحديثة أثره فى بعض قراراتهم، مثل ولاية العهد.. كل ذلك أضعف موقف رمسيس الثالث أو أنه اتخذ قرارًا رآه سهلًا ومفيدًا لمصر، ثم ما لبث أن غير تاريخ مصر تغييرًا محزنًا.

*****

فى الجزء الثانى سنرى ما الذى فعله وكيف تأثرت قوات مصر المسلحة بهذا القرار ثم دفعت مصر كلها ثمنه لقرونٍ طويلة آتية.