رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طه حسين بين المهنة والفن

لا يتوقف صاحب «الأيام» عن مفاجآته رغم مرور خمسين عامًا على رحيله، العودة إلى قراءة كتبه لا تتوقف، ولا تتوقف المطابع عن طباعتها. لغته القريبة إلى القلب، التى تشبه صوته المحبب، رجاحة عقله، انحيازه للمستقبل، جرأته، ثقافته التى تنهل من مشارب متباعدة فى ثقافات متنوعة، كلها تشير إلى معجزة مصرية كونية. صديقنا الكبير عبدالرشيد المحمودى تفرغ لسنوات لترجمة أعماله المكتوبة بالفرنسية والإنجليزية، وكتبتُ عن بعضها هنا قبل عامين، وفى الأيام الفائتة وقعت تحت يدى محاضرة للعميد بالفرنسية لم تنشر فى كتاب، ترجمها راهب الثقافة الرفيعة والمحاور العظيم الأستاذ فؤاد دوارة ضمن كتاب فى غاية العذوبة يحمل اسم «أيام طه حسين»، صدر عن أخبار اليوم سنة ١٩٩٠، المحاضرة ألقاها صاحب الفتنة الكبرى بالفرنسية فى المؤتمر الدولى للفنانين المنعقد فى فينيسيا فى سبتمبر ١٩٥٢، وحضره أكثر من مائتى ممثل لأربعين دولة وإحدى عشرة منظمة فنية دولية، بالإضافة إلى مائة وخمسين فنانًا سمح لهم بالحضور كمراقبين، وقد وضع منظمو المؤتمر اسم طه حسين ضمن قائمة الشرف التى تصدرت أعمال المؤتمر، وضمت أعظم مفكرى وفنانى العالم أيامها، من أمثال توماس مان ويوجين أونيل وهنرى مور. المحاضرة التى ألقاها قبل ٧١ عامًا تناقش أزماتنا الحالية، فى الكتابة والحرية والسعى وراء لقمة العيش، هو كان مشغولًا بالمهنة الأخرى للكاتب، فى بداية محاضرته ذكّر الحضور بالمؤتمر الدولى الذى عقد فى سنة ١٩٣٧، وترأسه بول فاليرى، للكلام عن «مستقبل الأدب»، وكانت المناقشات متشائمة، لأن الأدب يتعرض لمخاطر جسيمة: من ناحية قلة القراء المتزايدة، فالبرغم من تزايد عدد من يعرفون القراءة والكتابة، فإن قلة نادرة هى التى تهتم اهتمامًا حقيقيًا بالإنتاج الجدير بالتقدير، وبالطبع ظهور السينما والإذاعة والانتشار الخرافى للصحافة والاكتشافات السريعة التى حققتها التقنية الحديثة، كل هذه الوسائل أصبحت تستغرق اهتمام الناس وتشجع كسلهم الطبيعى. ويرى طه حسين أن الكاتب إذا أراد مخاطبة أعداد كبيرة من القراء فعليه بالرغم من تزايد أعدادهم أن يبسط، وهو أكبر خطر يهدد أصالة ما يكتب، إذ يضطر إلى العدول عن الاختيار الدقيق للكلمات والتعبيرات التى تفرض نفسها على كل كاتب يحترم نفسه، ويقدر المقتضيات الصارمة للفن حق قدرها، وتحدث عن تفرغ الأديب والفنان لينتج، وتساءل: أينبغى أن نتجه للدولة ونرجوها أن تعين الكاتب والفنان بتقديم «معاشات» لهما كما أصبحنا نسميها مؤخرًا؟!، ويجيب بأن الدولة سيد خطر، لأنها لا تقدم شيئًا بلا مقابل!، فإذا كان الثمن هو استقلال الأديب والشاعر والفنان والموسيقى والمصور، فهى صفقة قاتلة، إذا تذكرنا أنه لا سبيل إلى إنتاج حق إلا فى ظل الحرية، والتنازل عن الحرية يساوى قتل الفن والروح معًا. ويقول صاحب «على هامش السيرة» إن الكتّاب والفنانين من كل العصور وكل البلاد كانت لهم مهنة، وغالبًا كانت علاقتها بالأدب ضئيلة، أرسطو كان معلمًا للإسكندر، بيكون كان سياسيًا، وتحدث كثيرًا عن حالات بعينها، وفى النهاية قال إن الميزة الرئيسية لوجود مهنة أخرى للمبدع أنها توفر له حرية مطلقة، وهى الحالة المُثلى والضرورية التى تحميه من تشويه مواهبه وابتذال قدراته، وكلما كانت المهنة الأخرى بعيدة عن ميول الكاتب الشخصية كان ذلك أفضل له، هذا إذا لم تثبت التجربة عكس ذلك بصفة مستمرة، فإذا اشتغل عامل بناء أو أمير بحر فستكون لديه فرص أكبر للحفاظ على طاقته الروحية سليمة إلى حين يشرع فى العمل الأدبى، وعلى العكس من ذلك، فإن الكاتب الذى يختار مهنة قريبة من الأدب، كالصحافة أو السينما أو الإذاعة، قد يتعرض بين الحين والآخر لنوع من التداخل بين العملين، فيحدث خلط بين المهنة والفن. صاحب «الحب الضائع» الذى كتب فى الصحافة ورأس تحرير جريدة «الجمهورية» فيما بعد، يرى أن حالة الصحفى: السرعة والتبسيط والانتظام، وهى صفات لها مزاياها وعيوبها، فهى رائعة حين نخاطب مئات الآلاف، بل ملايين القراء، ولكن أساليب الصحافة المتسرعة تكون عادة على حساب التأمل الحر الضرورى لكل من يرغب فى كتابة عمل له وزنه، ويرى فى المقابل أن العمل فى الصحافة يتيح للكاتب كسب عيشه بكرامة، وأن كتابة المقالات مفيدة وفيها تدريب على الأسلوب ورياضة عقلية نافعة، وتحقق نفعًا كبيرًا للقراء، وتطرق إلى عمل الأديب فى السينما والإذاعة بالمنطق نفسه، واعتبر عمل الأديب فيهما يفيدهما، كما حدث مع جان كوكتو وجراهام جرين. المحاضرة الطويلة تطرقت لمسائل حياتية غير مطروقة، كنا نحتاج رأى العميد فيها، الرجل الذى قدم دواره كتابه بجملة له يقول فيها «أشهد الله والناس على أننى لا أعتقد فيما بينى وبين نفسى وضميرى أننى عبقرى، أو نابغة، أو حتى مجتهد..».