المرأة التى هزمت عدو المرأة.. أصعب حوار صحفى فى حياة العقاد
طفلة وطالبة صحافة تسقطان عدو المرأة فى شر أعماله
صافى ناز كاظم الصحفية تحت التمرين ترصد تحوّل الكاتب إلى طفل يقول النكتة
هل تعرف عملاق الفكر والأدب محمود عباس العقاد؟
أعرف أنك تعرفه بالطبع عزيزى القارئ.. كما ألحظ بوضوح الانطباع الذى يأتى فى ذهنك مباشرة عند ذكر اسمه.
انطباع بالجدية الشديدة والرهبة العميقة من رجل ارتبطت كلمة «معارك» باسمه، كما لم ترتبط بأحد.. وهى معارك محمودة بالطبع، فمعاركه الأدبية والسياسية والثقافية من الصعب حصرها، وجوجل خير شاهد عصرى على ذلك.. فبضربة كيبورد واحدة لتكتب «معارك العقاد» ستُفاجأ بسيل من النتائج التى تجعلك تندهش وتسأل: كيف جاء الرجل بكل ذلك الوقت لتلك المعارك التى لم يسلم منها أحد، وضمت تقريبًا كل رموز الثقافة والفكر من أول عميد الأدب العربى طه حسين وحتى توفيق الحكيم ونجيب محفوظ؟ وقل أى اسم ستجد له معركة فكرية مع العقاد.
وبخلاف كل تلك المعارك فقد التصق فيه لقب آخر يزيد الرهبة وهو «عدو المرأة»، وعززه هو بعزوفه عن الزواج أو الارتباط بأى أنثى. لكن هل تعرف أن نفس هذا الشخص المتجهم فصيح اللسان.. جاد الكلام.. يأتى عليه يوم يجلس فيه «مرحرحًا» على الأريكة يلقى النكات غير المضحكة وفى نفس الوقت يضحك هو بصوت عالٍ وهو يتحدث مع أنثى.. ولكن ليست ككل أنثى.. إنها عفاف حسن الطوخى. مَن هى تلك الأنثى التى أسقطت العقاد من أعلى قمة جبل الجدية الذى بناه عبر سنوات طويلة وغيّرت الصورة النمطية؟
الحكاية التى سنحكيها هنا كان مسرحها مجلة «الجيل» البديعة التى كانت بمثابة مجلة الشباب الأولى فى الخمسينيات والستينيات، وكانت بطلة الحكاية الأولى هى طفلة تمتلك حينها من العمر ٦ سنوات فقط، فى نهاية الخمسينيات عرّفتها المجلة بأنها حفيدة الطوخى تاجر اللعب المشهور، وهى تلميذة فى السنة الأولى الابتدائية بمدرسة وادى النيل بالعباسية.
أما البطلة الثانية للحكاية فكانت طالبة فى السنة الثالثة من قسم الصحافة بكلية الآداب وتعمل محررة تحت التمرين فى مجلة «الجيل».. تدعى تلك المحررة صافى ناز كاظم.. نعم هى بعينها التى أصبحت بعد ذلك واحدة من أهم الصحفيات فى تاريخ الصحافة المصرية، والتى يا للعجب أخذت عن العقاد بعد ذلك حبها للمعارك.. فظل اسمها مقرونًا بالحدة الشديدة فى النقد، حيث كان، وما زال، سن قلمها أحد من نصل سكين قد صقلته الأيام بخبرات جعلته بتارًا لا يلين حتى وإن اختلفت مع آرائها القوية غير المهادنة ولا الموائمة.. لكنك لا تملك إلا أن تحترم تجربتها الصحفية العريضة الثرية.
على أى حال.. ماذا حدث بين عفاف حسن الطوخى وعباس محمود العقاد؟ وكيف رصدت المعركة الكلامية صافى ناز كاظم؟
فلنرى
١٣ شارع السلطان سليم بمصر الجديدة
تبدأ صافى ناز سرد التجربة الثرية للمقابلة التاريخية مع العقاد بتوثيق مكان اللقاء وهو عنوان منزل العقاد بمصر الجديدة، حيث وقفت آنسة حسناء، كما تصفها، تسوى فستانها الطويل الذى تمادى فى الموضة.. فارتفع عن ركبتها بأكثر من ١٠ سنتيمترات، وتشد شرابها الرقيق، وتمسح بمنديلها المعطر حذاءها الأنيق. ثم تأملت خيال وجهها فى زجاج الباب الكبير واطمأنت، وبخطوة.. هى مزيج من ثقة.. ورشاقة.. صعدت درجات قليلة وشبت على أطراف أصابعها النحيلة لتدق أول جرس قابلها.
ثم تكمل صافى ناز وصف اللقاء التاريخى الذى يحدث أمامها وتقول عن عفاف:
«رفعت أهدابها الطويلة اللامعة إلى الرجل الجالس بجانبها.. ووجدته يبتسم لها فى حب وحنان كبير.. ولكنها لم تبتسم. فالأمر الذى يشغلها فى منتهى الخطورة.. وسمعته يقول لها..
- أهلًا.
فردت فى اقتضاب:
- أنا.. عفاف.
واتسعت ابتسامة الرجل..
- شرفت يا آنسة عفاف.
اسمك إيه؟
وبدت كأنها تريد أن تقول شيئًا عنها..
هى-.. أنا كنت فاكرة اسمك.
هو- لكِ حق تنسيه.. ده اسم طويل قوى.
هى-.. تقوله ثانى؟
هو- وبعدين تنسيه..؟
هى- لأ، مش هانسى.
هو- طب قولى لى أول.. إنتى عمرك قد إيه..؟
واستمر الحوار الطريف بين العقاد وعفاف على هذا المنوال إلى أن سألت عفاف أسئلة، وصفتها المحررة بأن بعضها شغل المفكرين منذ فجر التاريخ، فتسأل الصغيرة السؤال الأزلى: «فين ربنا؟» ثم تتبعه بسؤال آخر أشد صعوبة: «طب ربنا خلقنا إزاى؟».. هنا يضطر المفكر الإسلامى الكبير صاحب المؤلفات الموسوعية إلى إلباس الإجابات ثوب الهزل حتى لا يضطر إلى إجابات تورطه فى ازدراء، حيث يتأمل عفاف ويقول: «ده لازم ربنا تعب فيك قوى!»، ثم يسألها: هى ماما طابخة إيه النهارده؟.. فترد عفاف: سبانخ.. فيباغتها الأديب بسؤال هجومى آخر: «ولما تروحى تاكليها هتعرفى انطبخت إزاى؟» قالت له عفاف: لا.
هنا يجهز العقاد عليها بالإجابة القاطعة التى لا تقبل التأويل فى عرف عفاف: «أهو زى ماما ما طبخت السبانخ من غير ما تعرفى إنت إزاى.. ربنا خلقنا من غير ما نعرف إزاى».
هل انتهت المعركة بين عفاف والعقاد عند هذا الحد؟
لا، لم يحدث، حيث ترصد صافى ناز هجمة مرتدة قوية من عفاف أمام مرمى المفكر العملاق عندما تباغته بسؤال ثعبانى مخيف: «طب قوللى.. ليه ربنا خلق ناس كتير.. ليه مخلقش واحد بس؟..! ثم تجهز عليه بآخر أشد قسوة: «اللى بيخلى الناس.. تبقى مسلمة وتبقى قبطية؟»
يضع العقاد يده فوق رأسه، كما تصف صافى ناز ويجيب:
هو عمل زى ما إنت عايزه تمام.. خلق واحد.. لكن الواحد مارضيش يقعد لوحده.. فخلق له واحدة.. وبعدين الاتنين بقوا تلاتة.. وبعدين أربعة.. وخمسة.. وبعدين بقينا كتير.. منهم ناس مسلمين وناس مسيحيين وناس يهود.. عشان ما يبقوش زى بعض.. تحبى إنتى يبقى كل فساتينك حمرا؟!
تلتقف عفاف الطُعم وتجيب: لا.. لازم يبقى عندى أحمر وأخضر وأصفر.
هنا ينقض العقاد عليها بالاستنتاج: كمان ربنا عايز يكون عنده مسلمين ومسيحيين ومصريين وإنجليز وروس.
نكت بايخة
ويبدو أن عفاف فى نهاية الحوار أرادت أن تخفف من وطأة الأسئلة الوجودية التى حاصرت العقاد بها فقالت له: قولى نكتة، وهذا نص ما كتبته صافى ناز كاظم:
عفاف- تعرف تقول نكتة..!
العقاد- كان فيه واحد صاحب سينما وبعدين سمع مرة دوشة عند شباك التذاكر.. راح يشوف فيه إيه لقى «اتنين عور عاوزين يدخلوا بتذكرة واحدة»!
عفاف- لا.. قول نكتة!
العقاد- ما هى دى نكتة.
عفاف- ماضحكتش.
العقاد- طب اسمعى.. كان فيه اتنين تلامذة.. شقاى قوى.. قاعدين فى الفصل قام واحد شتم التانى وقال له «إنت أكبر حمار!».
قام المدرس قال له: «إنت يا ولد.. إزاى تقول كده.. إنت مش شايف إنى موجود!».
وقهقهت عفاف.
ثم انتهى أغرب حوار صحفى فى حياة عملاق الأدب والفكر عباس محمود العقاد بأن قامت المحاورة عفاف حسن الطوخى لتسلم على الرجل الذى انحنى لأول مرة ليسلم عليها، ثم قالت له وهى تودعه: أستاذ عباس.. إنت كويس خالص.
وانتهى الحوار الذى صاغته صافى ناز كاظم طالبة السنة الثالثة فى كلية الآداب والتى تعمل صحفية تحت التمرين فى مجلة «الجيل» لتكشف لنا وللقراء عن وجه آخر للعقاد الجاد العملاق الذى لا يعرف للهزل طريقًا.
ثم تبدأ صافى ناز بذلك التحقيق عمرًا من العمل الصحفى الطويل الذى أثمر عن تجربة صحفية خلاقة عبر مشوارها الطويل فى بلاط صاحبة الجلالة حتى لو اختلف الكثيرون مع بعض أو جل آرائها وكتابتها.
كيف رصد أنيس منصور حب الأديب الكبير الحوار مع الأطفال؟
نترك صافى ناز كاظم، الصحفية تحت التمرين بمجلة «الجيل»، لرئيس تحرير المجلة ذاته وهو أنيس منصور لنعرف أن أنيس أيضًا كشف عن هذا الجانب الطفولى المضىء فى حياة عملاق الأدب والفكر عباس العقاد بفصل كامل فى كتابه الأشهر «فى صالون العقاد كانت لنا أيام» عنوانه «هو والأربعون طالبة»، يتحدث فيه عن يوم فى صالون العقاد ليس ككل الأيام، حيث كانت إحدى المدارس قد طلبت من العقاد أن يسمح ببعض التلميذات أن يحضرن فى رحلة مدرسية إلى صالونه ليسألنه ويستأنسن به.. وبعيد عن العجب والدهشة من أن الذهاب إلى صالون العقاد فى الخمسينيات والستينيات كان يعد من قبيل الرحلات الترفيهية للتلاميذ الصغار.. فالأعجب أن العقاد وافق ورحب ترحيبًا كبيرًا، ويحكى هنا أنيس منصور فى بداية الفصل عن تلك الرحلة المثيرة:
«كان الصالون قد امتلأ بتلميذات المدارس وقد جلسن على المقاعد والتصقن بالأستاذ ووقفت إحدى المدرسات تلتقط الصور وتنظم المناقشة، وكان الأستاذ سعيدًا حقًا ووجهه مشرقًا وضحكته صافية، ويداعب هذه ويمسك أذن تلك.. ويدعوهن جميعًا إلى الاقتراب منه وكان يهمس فى آذان التلميذات بما يجعلهن يضحكن.. ولم أتبين بالضبط ما الذى كان يقول، وكانت المدرسة تنبه الطالبات إلى ضرورة التزام الأدب واحترام المكان وكانت تقول للأستاذ: لو أن حضرتك شجعتهن على ذلك فسوف تتعالى أصواتهن وضحكاتهن وأنت سيد العارفين، ولكن الأستاذ لم يكن يعلق على ذلك فهو سعيد بهذا الزحام».
ثم يواصل أنيس منصور حكيه لما حدث داخل بيت العقاد فى هذا اليوم مع ٤ طالبات بعضهن كن فى سن صغيرة مثل عفاف حسن الطوخى، الفتاة التى حاورته تحت سمع وبصر صافى ناز كاظم.. وحتى الأسئلة التى وجهتها الطالبات الأربعون، والتى رصد بعضها أنيس فى كتابه الممتع، هى أسئلة طريفة أخرجت العقاد الآخر الطفل من بين جنبات العملاق الذى تهتز لآرائه أركان أعتى المؤسسات الثقافية والسياسية فى ذلك الوقت، وتحول صالونه الثقافى إلى كعبة يحج إليها الجميع.. لكن الجديد أنه أصبح ينافس جنينة الحيوانات فى اجتذاب الرحلات المدرسية إليه.. وبشكل يجعلك تتساءل كيف أقنع القائمون على تلك المدرسة، التى لم يذكر أنيس منصور اسمها، التلميذات اللائى تبدأ أعمارهن من ٦ سنوات بأن الذهاب إلى بيت رجل تخطى السبعين من عمره والجلوس إليه والاستئناس به أفضل وأكثر إمتاعًا من الذهاب إلى الحدائق والمتنزهات؟.
كما ظهر جليًا كم افتقد هذا الرجل القوى وجود الأطفال فى حياته، فالعقاد، كما نعرف، لم يتزوج ولم ينجب، لكن فى هذا اللقاء الذى تكلم عنه أنيس أو ذلك الحوار الذى رصدته صافى ناز نسى العقاد أنه عملاق الأدب والفكر وعدو المرأة وصاحب أعتى المعارك الفكرية والسياسية.. وتحوّل إلى طفل كبير بمجرد أن رأى أمامه طفلة صغيرة يداعبها ويترك لها لجام الحديث ويكتفى هو بصد الهجمات، وهو الرجل الذى تعوّد من سنوات طويلة على اللعب رأس حربة يصوب تجاه الخصوم أعتى التسديدات الفكرية التى لا تصد ولا ترد.
