رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

(المثقف) و(المفكر).. الفارق بينهما ودور كل منهما فى نهضة الدولة!

(1)
يختلط الأمر أحيانًا على البعض فيما يخص بعض المصطلحات، وتتزايد أهمية توضيح الفوارق بين تلك المصطلحات فى أوقات معينة تمر بها الدول. وفى مصر يتم هذا الخلط كثيرًا بين المثقف والمفكر، ويترتب على هذا الخلط، أحيانًا، أن تعلق الناس آمالًا كثيرة على بعض المثقفين تفوق دورهم الحقيقى وتفوق فى الأصل قدراتهم! 
باختصار يمكن القول إن المثقفين هم القاعدة التى يخرج منها (بعض) المفكرين. فالمفكر لا بد أن يكون من طبقة المثقفين، لكن العكس ليس صحيحًا، فليس كل المثقفين مفكرين! المفكرون يمثلون الشريحة العليا من المثقفين! فالمثقف هو الشخص الذى يكوّن عبر سنوات عمره مخزونًا معلوماتيًا يحوى بيانات ومعلومات وأفكار المفكرين والمتخصصين والفلاسفة وغيرهم. فهو شخص يحمل العلم لكنه لا يصنعه أو يصوغه أو يخلقه أو يبدعه!
ومن نافلة القول إنه لا علاقة إطلاقًا بين (المتعلم)، أى الحاصل على مؤهل دراسى رسمى وبين (المثقف)! فملايين المتعلمين يمكن ضمهم لكتل الجماهير الغوغائية حين تنتفى عنهم صفات المثقفين من امتلاك حصيلة معلوماتية ذاتية تم تكوينها بطرق موضوعية حقيقية ولم يتم حشرها سماعيًا دون إخضاعها للبحث ودون بذل جهد القراءة، التى تعتبر الحد الأدنى لكلمة بحث! فملايين المتعلمين الذين يقضون أعمارهم دون قراءة عدد معين من الكتب المعرفية، هم كتلة من الغوغاء متميزة بمعرفتها للقراءة والكتابة ولديها بعض التأهل للقيام بوظائفها! 
أما (المفكر) فهو مثقف مضافٌ إليه عاملان آخران، الأول هو تكوينه العقلى المبدع والمبتكر، بينما الثانى رغبته الكاملة فى تقديم إبداعه وابتكاره لمجتمعه! فالمثقف الذى يمتلك عقلًا مبدعًا خلاقًا لكنه عازفٌ عن ترجمة تلك القدرة فى صيغة أفكار وحلول ونظريات قابلة لنقل المجتمعات لا يمكن تصنيفه كمفكر! فالمفكر يخلق ويصنع العلمَ ويمتلك القدرة والرغبة على تقديم الحلول لما يتعرض له من قضايا فى مختلف التخصصات. المفكرون إذًا هم من يقدمون الأفكار لمجتمعاتهم. هم من يمتلكون الحلول!
حين يخطئ المجتمع ويقدم بعض المثقفين على أنهم مفكرون ينتظر منهم حلولًا لأزماته ومشكلاته المتراكمة، يكون المشهد عبثيًا تمامًا كما شاهدنا منذ أشهر حين تمت دعوة أحدهم لحضور فعالية مصرية دولية فى حضرة قيادات الدولة المصرية، وطُلب من هذا المثقف أن يقدم على الهواء مباشرة ما يراه حلولًا لأضخم أزمات مصر وهى الانفجار السكانى فسمعنا عبثًا صدم بعض مريديه ممن يضعونه- خطأً- على رأس قائمة المفكرين!
(2)
تتناسب طرديًا القاعدة التى يمكنها أن تفرز مفكرين فى كل مجتمع من حيث الاتساع والتنوع مع قاعدة المثقفين المتاحة فى هذا المجتمع! وقاعدة المثقفين تتناسب أيضًا طرديًا من حيث المساحة والتنوع مع شخصية كل أمة! فكلما زادت أعداد القارئين والمهتمين بتكوين قاعدة معلوماتية ذاتية فى الأمة اتسعت مساحة المثقفين، وبالتالى كلما قويت قدرة هذه الأمة على تفريخ وإنتاج مفكرين قادرين على الأخذ بيدها قدُمًا! بينما الأمم التى تشيح بوجهها عن القراءة والعلم، وتضع نفسها فى خانة معادية لهما، تصبح أمة فقيرة ومحدودة فى عدد مثقفيها، وبالتالى تصبح أمة شحيحة الإنتاج فيما يخص المفكرين! والأمة التى تكون شخصيتها كذلك تعانى معاناة شديدة وتكون خطوات تحولها بطيئة جدًا لا تتناسب مع حجمها السكانى أو قدراتها ومواردها! لأنها باختصار أمة لديها عجز عقلى عن الاستفادة القصوى من تلك الموارد أو تلك الكتل السكانية المكتظة!
(3)
دور المثقف فى نهضة دولته دورٌ عظيم لا يقل أهمية عن دور المفكرين، بل يمكن اعتباره هو الذى يمهد الأرض شعبيًا للمفكرين للقيام بدورهم ويختصر وقتًا طويلًا يمكنه أن يضيع فى محاولات المفكرين العبثية للوصول لتحقيق أفكارهم وحلولهم حين يتوارى هذا الدور أو يتكاسل المثقفون عن القيام به، أو حين تكون أعدادهم شحيحة غير متناسبة مع عدد السكان! فالمثقف هو الذى يقوم بدور الوسيط بين المفكرين وبين كتل الغوغاء ويقوم- بما يملكه من رصيد معلوماتى وبياناتى وإحصائى وتاريخى عن الأمم السابقة- بترجمة أفكار وطموحات وحلول المفكرين بلغة تستوعبها تلك الكتل!
المثقف يمكنه اختيار المفردات المناسبة والتوقيتات المناسبة لاقتحام أى قضية من قضايا التغيير، فيمكنه أن يعبئ الكتل الشعبية حول هذه القضية، ويمكنه أن يفسدها تمامًا ويجهض أى خطط بخصوصها لو أراد ذلك! فالمثقفون يكونون أحيانًا أخطر على نهضة الأمة من الكتل الغوغائية ذاتها! يمكنهم حرق قضية عادلة أو منحها قبلة الحياة! هم بمثابة أئمة الشعب ويقومون أحيانًا بأدوار مشابهة لأدوار رجال الدين فى تعبئة الجماهير!
(4)
فى الحقبة المعاصرة من التاريخ الإنسانى اتخذ دور المثقفين أهمية أكثر خطورة بعد أن توافرت وسائل الإعلام وأصبح كثيرٌ منهم يجلسون على سدته فى شكل صحفيين ورجال إعلام ومذيعين! أصبحت هذه الطبقة من المثقفين أهم بكثير جدًا من الطبقة التقليدية التى تمارس دورها فى المؤسسات التعليمية والثقافية التقليدية! يصوغ شخصية كلٍ منهم عدةُ مفردات شخصية ومهنية وعقائدية، منها السيرة الحياتية وما تعرض له كلٌ منهم أثناء سنوات عمره، طموحاته، أخلاقياته، تربيته الأسرية، قناعاته الدينية والوطنية، مدى اتزانه النفسى، ومدى استمرار هذا الاتزان النفسى عبر تقلباته وقفزاته المهنية، وثباته الانفعالى تحت وهج الأضواء الحارقة، وأخيرًا وبشكل أهم ما هى غاياته؟! هل غايته الإصلاح فعلًا والقيام بدوره فى نهضة أمته، أم غايته ذاتية خالصة لا يعرفها إلا هو؟! 
وهل غايته التى يكتمها بين أضلعه (صالح الجماهير) أم (حب الجماهير)؟! فلكلٍ من الغايتين (كتالوج) محدد، وتترتب على قيامه بتنفيذ هذا الكتالوج نتائج عليه هو شخصيًا، فإما أن يتم اعتباره (فلتة عصره) أو يتم قذفه بالحجارة!
ففى فترات تغير الدول من مرحلة متخلفة إلى أخرى أكثر تطلعًا للحضارة، تكون غاية (صالح الجماهير) أحيانًا متضادة مع غاية جلب (حب الجماهير) أو الزعامة! فى تلك الفترات تتطلب غاية صالح الجماهير كثيرًا تقديم ما تكرهه تلك الجماهير، بينما يشمل كتالوج جلب حب الجماهير مفردات واضحة محددة.. لا تقترب من إدانة الجماهير.. دائمًا أخبرهم أنهم ضحايا.. دائمًا قف فى صفهم ظالمين كانوا أو مظلومين، مقصرين متنطعين كانوا أو مخلصين عادلين فى أحكامهم! 
لتحقيق تلك الغاية ما على رجل الدين إلا أن يقول قال الله تعالى.. قال رسول الله (ص)! أما المثقف الصحفى أو الإعلامى فليس عليه إلا أن يسفه من كل جهد تقوم به الدولة.. يذرف الدموع فى بكائيات شعبية على آلام الجماهير.. يفتش عن أى تفصيلة شاردة هنا أو هناك ليتهكم على أى منظومة أو مؤسسة يرى أن بوصلة الجماهير تتجه بعيدًا عنها!.. دون أن يقترب مجرد اقتراب مما يدين تلك الجماهير! فالمثقف الذى يحدد غايته تلك يتعامل بمنطق جملة سيد قطب الشهيرة فى مسلسل الجماعة.. حين سألته زينب الغزالى وقت أن كان يبحث عن منصب وزعامة فى ظلال ضباط يوليو.. حضرتك محسوب على الظباط دول.. فأجاب بعفوية صادقة قاطعة.. (سيد قطب يا حاجة زينب لا يُحسب إلا على سيد قطب!) فالمثقف الذى يعمل لنفسه فقط لا يختلف كثيرًا من أيديولوجية لأخرى.
(5)
الأمة التى تراودها آمال النهضة عليها أولًا أن تنظر لموضع أقدامها ومفردات حالتها من حيث اتساع مساحة المثقفين نسبة لعدد سكانها، ويمكن إدراك ذلك بسهولة من خلال متابعة إحصائية مثلًا لعدد الكتب المتداولة فى معارضها الكبرى أو التى يتم الحصول عليها من المكتبات لمدة عام ونسبة ذلك إلى عدد السكان ومن خلال عدد متابعى القنوات العلمية والمعلوماتية.. إن وجدت أن النتائج محبطة، فعليها التعامل مع الواقع ووضع خطة طويلة الأمد بالتركيز على الأجيال الصغيرة. ثم عليها أن تنظر إلى حالها المعاصر فتفرق بين المثقف والمفكر، فتفسح مجالات ومنابر أكثر للمفكرين! عليها أن تبحث عنهم فى القاعات والمعامل والهيئات والمؤسسات التعليمية والثقافية حتى لو كان ذلك فى القرى والنجوع، تمامًا كما يفعل كشّافو كرة القدم لانتقاء أفضل العناصر القادرة! تحتاج أى أمة إلى هؤلاء الكشافين لمسح بقاعها الجغرافية وانتقاء وانتشال المفكرين من أصحاب القدرة على خلق الحلول، والأفضل أن تنتقى الشباب منهم ممن لديهم الطموح والقدرة بجوار الخلق والإبداع!
(6)
لو حاولنا تطبيق ما سبق على الحالة المصرية، فربما تحبطنا بعض الحقائق والمشاهد لأول وهلة، لكن بمقارنتها بما سبق تتضح الصورة بأن المصريين بدأوا بالفعل فى قرار توسيع قاعدة مصر من مثقفيها! فمثلًا أرقام مبيعات معرض القاهرة للكتاب فى آخر دوراته لا تتناسب إطلاقًا مع عدد سكان مصر، لكنها الأعلى بين ما سبق من دورات! وأصبح للشباب نصيبٌ كبير فى الأنشطة الثقافية فى مصر حتى أصبح لدى مصر عددٌ من الناشرين وأصحاب دور النشر الشباب وأصبح للشباب كُتابهم وروائيوهم! 
لكن هذه المشاهد المشجعة لا تجُب الحقائقَ الكبرى، وهى أن مصر وإن بدأت طريقها للتغيير فلا بد وأن طريقًا طويلًا ينتظرها لأن ما تراكم فى قرون- لأننى لا أؤمن أن حال المصريين يرجع للعقود الماضية فقط- كان كثيرًا ثقيلًا ولا بد لأى أمة أن تقطع الطريق- إن تمسكت بإرادة التغيير- الذى سلكته ودفعت ثمنه الأمم التى سبقتها! وهذا ليس دعوة للإحباط، لكنه إقرارٌ لمسألة والتاريخ الإنسانى هو من أقرها! لا تسير أمم طريقًا وتدفع أثمانًا حتى تصل للحضارة المنشودة، بينما تتكاسل أمة أخرى ويتوهم بعض أفرادها أنهم ولمجرد اتخاذ موقفٍ سياسى واحد قد قدموا ما يجب تقديمه، وأن الوصول لذروة الحضارة سيتم بقفزة بهلوانية! لا بهلوانية أو أوهام أو فهلوة فى تقدم الأمم! هو طريق على الجميع أن يسير فيه إن أراد هذا الجميع تلك الغاية!
(7)
إن ما حدث من مثقفى ومفكرى مصر فى العقود الأخيرة، خاصة التى سبقت أحداث يناير 2011م- وفى أبسط وصف له- لم يرتقِ إلى ما كانت تحتاجه مصر، وفى حالات كثيرة كان تخاذلًا صريحًا أو تواطؤًا متعمدًا! ولا أتحدث هنا عن علاقة بسلطة حاكمة، إنما فى تهيئة المصريين للخروج من دوائر التخلف والظلام! وستظل قضية الانفجار السكانى هى الأشمل والأهم التى تكشف دور كل طرف فيما ألم بمصر فى العقود السابقة!
فبعض المثقفين خانوا دورهم المفترض وانضموا فى مشاهد كثيرة إلى صفوف من كانوا سببًا مباشرًا أو فاعلًا مباشرًا فى محنة مصر! وكثيرٌ من مفكريها آثروا العزلة واكتفوا بالمشاهدة أو قرروا اتخاذ قرارٍ بالخروج الكبير أو الهرب من مسئولياتهم الأخلاقية والوطنية!
مصر الآن تحاول إعادة ترتيب أوراقها بشكلٍ صحيح ومن الأوراق التى يجب عليها أن تضعها فى الحسبان هى الاستفادة القصوى من مفكريها بطول البلاد وعرضها وفى جميع التخصصات، وهى قد اتخذت خطوة مهمة بالفعل ودعت المعروفين منهم إلى مؤتمر الحوار الوطنى، لكن بقى تنفيذ الجزء طويل الأمد وهو تنفيذ فكرة التقاط العقول المفكرة الشابة بجميع أنحاء مصر ومنحهم الفرصة كاملة للمساهمة بما لديهم!