رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى مواجهة رياح الشرق العاتية 2

فى هذا الجزء سأبدأ من بعد قيام الدولة المصرية كدولة واحدة تتمتع بكل عناصر ومكونات الدولة من أرض وشعب وحكومة مركزية ونظام قانونى موثق ينظم العلاقات بين تلك المكونات ويقوم مقام الدساتير الحديثة. حدث هذا فى نهايات الألفية الرابعة قبل الميلاد. شعب وأرض وحدود ومؤسسات حكم وقانون.. وجيران! وكان للجهة الشرقية النصيب الأكبر حجمًا وتكرارًا عبر التاريخ فى محاولات سرقة مصر. فبسبب المحاولات الأولى التى قام بها بعض القبائل أصدر ملوك الأسرة الثالثة، فى القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد، أوامرهم بتشكيل الجيش المصرى النظامى كمؤسسة واحدة مهمتها الأولى حماية حدود مصر.

منذ ذلك التاريخ حتى خمسينيات القرن الماضى، حين كانت غزة تحت الإدارة المصرية وحين تم رسميًا طرح مشروع توطين غير مصريين فى سيناء ورفض الشعبين المصرى والفلسطينى ذلك، قبل أن يعود مؤخرًا بعض سماسرة النضال ويقبلوه، أى لما يقرب من خمسة آلاف عام لم تتوقف المحاولات رغم تغير الأسماء والتفاصيل ورغم قيام وانهيار دول على حدود مصر، ورغم تغير المعتقدات الدينية، فقد بقى لب الفكرة واحدًا! واستطاعت مصر فى نهاية خمسة آلاف عام الحفاظ على أرضها.

كما ذكرت فى الجزء الأول أن مصر، كما منحها الله مسئولية كبرى عبر تميز الموقع الجغرافى، فقد حباها أيضًا بما يساعدها على تحمل تلك المسئولية عبر الحدود الحامية المانعة، ومن تلك الحدود البحر الأحمر شرقًا. وبقى جزء فى الحدود الشرقية ميّزه الله بالطبيعة الجبلية الوعرة، التى ساهمت فى صياغة تاريخ مصر وما جاورها شرقًا. فكما يقول د. جواد على فى مؤلفه الأهم «العرب قبل الإسلام»، إن شبه جزيرة العرب كانت كالخزان البشرى الذى يفيض كل عدد معين من القرون بهجرات كبرى هربًا من الجدب شمالًا. كانت تلك الهجرات تتجه شمالًا، فتجد أمامها شرقًا الهلال الخصيب وأراضى الرافدين، وغربًا السواحل الفينيقية وسهول الأرض المنخفضة أو كنعان.. ثم يصطدم من يحاول التوغل غربًا أكثر بطبيعة جغرافية وعرة فيقف عندها، أو يقف بشكل أدق على أبواب مصر الشرقية! تمثلت تلك الهجرات فى قبائل مختلفة أعرابية وكنعانية وعبرانية، مثل: العموريين والكنعانيين والعماليق واليبوسيين والبلستينيين والعبرانيين، ستمثل المكون الرئيسى للجيران الدائمين لمصر شرقًا.

حددت مصر حدودها شرقًا وجنوبًا إلى تقريبًا ما يتطابق مع حدودها المعاصرة، وأقامت نقاط تفتيش حدودية وعينت حرسًا لحدودها وحافظت على ذلك لما يقرب من خمسة عشر قرنًا، أى حتى ما يسمى بغزو الهكسوس حوالى القرن ١٧ق. م، ولفظ الهكسوس، باختصار، يعنى تاريخيًا هذه الأخلاط من القبائل التى جاورت مصر شرقًا مضافًا إليها بعض النازحين من أصول آسيوية أخرى. رغم نجاح مصر فى ذلك عسكريًا، لكنها لم تمنع أولًا مد يد العون لمجموعات بعينها حين تتعرض لكوارث طبيعية، أو اضطرابات سياسية، فتمنحها أرضًا وأمانًا، وبعض تلك المجموعات سبّب كثيرًا من القلاقل لمصر بعد أن استقر وأمن واستقدم كثيرًا من بنى جلدته، ثانيًا: لم تمنع التواصل التجارى الطبيعى مع مَن جاورها. 

لم يحتل الهكسوس مصر عسكريًا وقت ضعفها كما يعتقد البعض! لكن ما حدث هو أنه فى ذروة قوة الدولة الوسطى، أسرة ١١ وأسرة ١٢ من حوالى ٢١٣٤ حتى ١٧٧٨ ق. م، بدأ ذلك التسلل الناعم فى شكل بدو رعاة يدخلون مصر للسقيا وتجار يدخلون مصر للتجارة فلا يعودون إلى بلادهم ويستقرون فى مناطق متباينة من سيناء حتى شرق الدلتا! لم يخشَ ملوك الدولة الوسطى من وجودهم اتكاءً إلى قوة الدولة العسكرية وترابطها ووحدتها، فلم ينتبه هؤلاء الملوك إلى تزايد أعداد هذه القبائل فى تلك المنطقة حتى بدأت قوة الدولة فى الانهيار لصالح حكام الأقاليم المتناحرين. فى تلك اللحظة الفارقة أسقط الوافدون الأقنعة وتجمعوا معًا ومهدوا الطريق للغزو المسلح أو ما يسمى بغزو الهكسوس، وهو الذى يعد الحكم الأجنبى الأول لمصر، الذى تعمد إهانة كبرياء المصريين، ثم عمد إلى التواطؤ مع أصدقاء مصر فى الجنوب، كما سأوضح فى جزء لاحق عن حدود مصر الجنوبية، وعمد إلى حكم دموى تخريبى لشمال مصر وفرض الجزية على باقى حكام أقاليم مصر.

تراجيديا الهكسوس وكيف احتلوا مصر تستحق أن تكون، مع تراجيديا موجات دخول اليهود مصر وموجات دخول تجار ومرتزقة اليونان، مادة علمية حاضرة دائمًا فى قاعات دروس كل من سيتولى أى شأن عام فى مصر المعاصرة.

لليهود تاريخ طويل مع مصر ومحاولات سرقتها عبر حقب تاريخها المختلفة. ولن أخوض هنا فى تيه القصص والأساطير الدينية، لكننى فقط سأعرض لبعض تلك المحاولات كما سجلتها الوثائق الثابتة. دخل اليهود مصر فى شكل موجات لأسباب مختلفة. تأثرت مصر قطعًا بما يحدث شرقها. شكل اليهود أو القبائل العبرانية جزءًا من سكان فلسطين القديمة. وكانوا جزءًا من تحالف الهكسوس. كما كانوا ممن يفدون لمصر فى أعداد قليلة للتجارة. حتى نصل للقرن السادس قبل الميلاد حين احتلت مملكة بابل فلسطين وضمتها لممتلكاتها، ثم ثارت ضدها مرتين مملكة يهوذا، فى عام ٥٩٧ م وفى عام ٥٨٦ ق. م، وفى كل مرة أخمد الملك البابلى نبوخذ نصر ثورتهم بعنف شديد، وفى المرة الثانية دمر أورشليم ودمر هيكلها تدميرًا تامًا وسبى كثيرًا منهم، وهو ما يعرف بالسبى البابلى. ومَن نجوا منهم اتجهوا صوب مصر، فاستقبلهم الملك المصرى «أبريس» وأكرم وفادتهم وأنزلهم فى «تل الدفنة» ١٢ ميلًا غرب القنطرة، التى كانت تتحكم فى مدخل الدلتا من جهة الشرق. فلحقت بالمجموعة الأولى مجموعات أخرى رحبت بها مصر، وتفرقوا فى مجموعات بين تانيس وتل الدفنة ومجموعة منهم وصلت الصعيد حتى جزيرة إلفنتين بأسوان. رحب بهم المصريون حتى إنهم بنوا معبدًا لهم فى الجزيرة بجوار معبد «خنوم».

ثم لحقت بهؤلاء مجموعات أخرى دخلت مصر كمرتزقة فى جيش الأسرة ٢٦ «٦٥٦ ق. م». تكونت من هؤلاء جميعًا جاليات فى الصعيد وفى الدلتا. ثم فى أول مشهد تم فيه احتلال مصر من الفرس قام اليهود بموالاة المحتلين ضد المصريين، كما وثقت ذلك الوثائق الآرامية التى عثر عليها بجزيرة إلفنتين بأسوان! مما جعل المصريين بعد تخلصهم من الاحتلال الفارسى يغيّرون سلوكهم مع اليهود، وقامت مواجهات ضخمة رفضت وجودهم فيما كانوا يقيمون فيه ويتمتعون بالأمن والحياة الطبيعية قبل الغزو الفارسى.

فهؤلاء اليهود الذين تحولوا بعد ذلك إلى قوة سياسية كبرى فى مصر وشاركوا فى جميع ما مر بمصر من أحداث سياسية لم يدخلوا مصر كغزاة، إنما دخلوها كضيوف يطلبون الأمن والحياة! ولم يكفوا أيديهم عن المصريين إلا حينما اصطدموا بوافدين آخرين هم الإغريق والرومان، وحدث هذا التصادم قبل غزو الإسكندر مصر، أى قبل بدء الاحتلال اليونانى لمصر! اتخذ اليهود دائمًا خطًا واحدًا هو الانضمام لجانب أى محتل ضد المصريين. 

مع جيش الإسكندر كانت هناك أعداد أخرى دخلت معه كمرتزقة، ثم تلتها أعداد أخرى كتجار؛ حتى أصبحوا إحدى القوى الكبرى التى تمتعت، بجوار الإغريق والرومان، بحقوق ومزايا أكثر من المصريين ذاتهم. 

والأسوأ والأخطر من حصولهم على هذه المزايا التى حُرم منها المصريون كان ما قاموا به من أحداث دموية عنيفة فى صراعهم مع الإغريق أو اليونانيين بعد الاحتلال الرومانى لمصر. ودفع المصريون ثمن تلك المواجهات الدموية، بل اضطروا فى لحظة فاصلة إلى الانضمام إلى القوات الرومانية لكبح جماح ما قام به اليهود من مذابح لم يفرقوا فيها بين اليونانيين والمصريين من عام ١١٥ حتى عام ١١٧م وانتهت تلك المواجهات بانتصار المصريين بجوار القوات الرومانية لإعادة الأمن لقرى مصر فى الدلتا والإسكندرية، بل حتى جنوب مصر! وبلغ من خطورة تلك الاضطرابات أن المصريين ظلوا يحتفلون بذلك الانتصار وعودة الأمان لمدة تزيد على خمسة وثمانين عامًا بعد ذلك التاريخ.

كان للقبائل البدوية الأخرى التى استقرت على بوابة مصر الشرقية بمختلف مسمياتها والقبائل الأخرى ببلاد الرافدين وسوريا القديمة، بخلاف العبرانيين، دورها الكبير فى المحاولات الحثيثة التى لا تكل ولا تمل لسرقة أرض مصر عبر التسلل الفردى أو الجماعى المحدود أو عبر مساعدة الجيوش الغازية القادمة برًا من شرق مصر.

فمثلًا حين قرر الملك الآشورى «أسرحدون» غزو مصر فى النصف الأول من القرن السابع «ق. م» تقدم نحو وادى النيل عن طريق سيناء. وقد ساعدته تلك القبائل بمده بآلاف الجمال لنقل المؤن والمياه، كما عملوا مع جيشه كأدلاء فى السير حتى وادى الطميلات ومنها قصد منف.

ثم كرروا نفس المشهد مع جيش الفرس بقيادة قمبيز «٥٢٥ - ٥٢٢ ق. م» الذى لولا مساعدة القبائل الأعرابية والبدوية له لما استطاع غزو مصر، فلقد أمدوه بالجمال ومونوا قواته بالماء الذى ملأوا به قِربًا كثيرة حملوها على جمالهم.

بل إن بعض الفرق العسكرية التى تكون منها جيشه كانت فرقًا عربية، على رأسها قائد فارسى من أبناء الملك الفارسى.

كما استعان يوليوس قيصر بكتيبة من العرب الأنباط لغزو الإسكندرية.

وفى عام ٦١٨ م كان بعض جنود كسرى الذين غزا بهم مصر من عرب الشام.

من أواخر مشاهد التسلل التى حدثت قبل الغزو العربى لمصر حدث من بعض بطون قبائل خزاعة نحو الشام ومصر.

من أهم وأنجح محاولات سرقة مصر، أرضًا وخيرات وموارد، كان ما حدث بعد الغزو العربى لمصر على يد عمرو بن العاص. فبعد تمام الغزو العسكرى مباشرة ولمدة ما يقرب من قرنين، رأى الحكام الجدد أن الأرض هى أرض المسلمين جميعًا ومن حقهم الاستيلاء على تلك الأراضى وخيرات وموارد مصر وتوزيعها قبليًا بعد استقدام عشرات الآلاف من بنى عشيرتهم وتوطينهم فى أخصب مناطق مصر! لا أناقش هنا قضية دينية أو حتى قصة الغزو العسكرى، إنما أتحدث عما حدث بعد الغزو مباشرة. فقد تم تنفيذ سياسة «ترانسفير» منظمة وثقتها الوثائق المصرية والعربية هربًا من جدب وفقر الأراضى العربية بعاصمة الخلافة وما جاورها. وترتب على تنفيذ تلك السياسة الحاجة لمنح القادمين ما يمكنهم من العيش، ولم يكن هناك غير الاستيلاء على أراضٍ مصرية من ذويها بحجج مختلفة ومنحها للقبائل، وقد استعرضت ذلك تفصيلًا فى أحد فصول كتابى «الكتاب الأسود».

ما يهم هنا هو تأثير ذلك على المصريين اقتصاديًا واجتماعيًا وحضاريًا. حيث فشل كثير من القبائل فى الحفاظ على الموارد المصرية لعجزهم عن ذلك؛ لأنهم لم يكونوا زراعًا أو أصحاب مهن وحرف، فخصم كل ذلك من قوة مصر الاقتصادية والحضارية. كما بدأ فى غرس مشاعر سلبية فى نفوس المصريين الذين سُلبت منهم ممتلكاتهم أو أراضيهم أو حُرموا من ممارسة حرفهم التى توارثوا مهاراتها.

أختم هذا الجزء بقصة تصلح لأن تكون من دعابات التاريخ المؤلمة، وهى قصة ذهب مصر فى بعض سلاسل جبالها الشرقية أو بعض مناطق جبال البحر الأحمر، مثل وادى العلاقى وطريق مرسى علم، فلقد ظل هذا الذهب محط أطماع المتسللين من الشرق والجنوب عبر عشرات القرون، حمت مصر ذهبها وأولاه حكامها عناية كبرى وخصصوا لدروبه وطرقه الصحراوية جزءًا غير قليل من قوة الدولة العسكرية ومن توفير عوامل لوجستية مهمة للعمال، حتى إن لدينا وثائق قديمة توثق ذلك، منها وثيقة من عصر رمسيس الثانى يحكى فيها عن جهده لتوفير عوامل الحياة لهؤلاء العمال من توفير الغذاء وحفر بئر مياه لهم.

بعيدًا عما فعله الغزاة بذهب مصر، ربما يكون من تمام استكمال فكرة هذا الجزء من المقال أن نعرف دور المتسللين الأفراد الطامعين فى ذهب مصر. وتتوافر لنا وثائق تصف ما حدث بعد الغزو العربى مباشرة. 

فبعض التجار العرب الذين كانوا يأتون مصر قبل الغزو العربى عرفوا عنه وكانوا يطلقون على تلك البقاع الموجود بها عروق الذهب «أرض المعدن»، لذلك وبمجرد استيلاء العرب عسكريًا على مصر قرر بعض القبائل التى كان تجارها يعرفون تلك القصة أن تهاجر إلى أرض المعدن جنوب شرق أسوان، وقررت أن تفعل ذلك ذاتيًا وبعيدًا حتى عن سلطة الخلافة، من أولى القبائل التى تسللت إلى هناك مبكرًا قبيلة حضرموت التى عبر أفرادها البحر الأحمر من الحجاز إلى هناك مباشرة. 

ثم بعد استيلاء العباسيين على الخلافة بعد أكثر من قرن من غزو مصر قاموا بفرض ضرائب على بعض القبائل العربية التى تم منحها أراضى زراعية مصرية. ثارت تلك القبائل وقرر بعضها الاستيلاء على «أرض المعدن»، مثل قبائل بنى فزارة وبنى هلال وبنى سليم ومضر وهوازن.

تكاثرت القبائل هناك وحدثت مواجهة مسلحة بينها وبين قبائل بجة المصرية التى كانت تقطن المكان، انضم العباسيون رسميًا بالقوة العسكرية إلى القبائل الوافدة، وتم أخيرًا «التراضى» على تقاسم الذهب بين الجميع.

فبين «أرض المعدن» قديمًا و«الدّهابة» حديثًا ظلت محاولات الاستيلاء على ذهب مصر، أحد أهم مظاهر محاولات سرقة مصر.