رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف قاوم المصريون الحملة الفرنسية؟! «2».. أحوال مصر وقت الغزو.. وكيف أصبحت مصر المنتصر الوحيد!


(1)
قراءة مشاهد تاريخ مصر قبل وأثناء وبعد سنوات الحملة تقود إلى نتيجة حتمية فى منتهى السطوع..أنه بين الأطراف الأربعة المتناحرة – مصريون، مماليك وعثمانيون، فرنسيون، إنجليز – خرج طرفٌ واحدٌ فقط بانتصارٍ كبير، ليس فقط انتصارا عسكريا، بل انتصارا حضاريا وعلميا قاد إلى تغيير مصير هذا الطرف.. خرج هذا الطرف منتصرا موليا ظهره لقرونٍ طويلة مثلّت حقبة كُتب لها أن تنتهى بطلقاتٍ فرنسية إنجليزية وإن تأجل إعلان وفاتها لسنوات قليلة بعد الحملة. هذا الطرف هو مصر! فمصر وحدها من كان انتصارها حاسما لا يقبل الشك، حتى وإن قاد إلى هذا النصر أسطول إمبراطورية استعمارية أخرى، هى الإمبراطورية الإنجليزية! باقى الأطراف خرجت مدحورة تماما وأغلقت صفحاتها من التاريخ بعد هذا الدحر بسنوات قليلة مثل المماليك، ومثل شكل السيطرة العثمانية على مصر.. والفرنسيون خرجوا خروجا مهينا بعد فقد جزء كبير من سمعتهم العسكرية والأخلاقية! حتى الإنجليز لم يكن انتصارهم مفاجئا أو غريبا أو مسببا لتغييرات تاريخية درامية فى قصة الصراع الاستعمارى.. ربما فقط أن الحملة قد (غششت) الإنجليز بعض الإجابة، فحاولوا إدراكها بعد سنوات قليلة – حملة فريزر – لكنهم فشلوا هذه المرة بمقاومة مصرية خالصة، ثم أصابوا وأدركوا الإجابة كاملة بعد عدة عقود وتحديدا 1882م!
حتى ندرك قيمة الانتصار المصرى - الذى ساهمت فى إحرازه فوهات مدافع الأسطول الإنجليزى وانشغال بونابرت بما يجرى فى فرنسا – لا بد أن نستكمل استعراض المشاهد التى بدأتها مع مشهد البداية الذى سجله الجبرتى.. حتى ندرك ما سوف تسير فيه مصر بعد خروج الحملة بسنوات قليلة، يجب أن نستعرض كيف كانت أحوالها وقت الغزو مباشرة كما تم توثيقها فى المراجع السابق ذكرها.. كما سنرى فى هذه الحلقة كيف تعايش المصريون مع الفرنسيين، ثم كيف كان الصدام الأول الذى اعتدنا على تسميته بثورة القاهرة الأولى بينما يصفه الجبرتى بأوصاف مختلفة تماما!
(2)
دخل الفرنسيون مصر فى مشهدٍ نادر وصفه الجبرتى وعرضته بإيجاز فى الجزء السابق، ووصلوا القاهرة بعد هزيمة قوات المماليك هزيمة مخزية كشفت عن فارق تاريخى وحضارى مذهل، ثم شرعوا فى التواصل مع قيادات المصريين التى انحصرت فى علماء الأزهر والأعيان والتجار لتنظيم أحوال الحكم الجديد. بل إن الجبرتى يفاجئنا بأن هؤلاء هم من بادروا لفكرة التواصل مع قيادات الحملة، لكنهم خافوا فأرسلوا رسالة مع شخص مغربى وآخر مصرى وأخبرا نابليون بأن الكبار قد خافوا، فطمأنهم وطلب إرسال الأعيان والمشايخ لتكوين ديوان لتنظيم أمور الناس. وللمرة الثانية ذهب إليه بعضهم بينما خاف الآخرون مثل عمر مكرم نقيب الأشراف الذى قال عنه الجبرتى نصا أنه لم يطمئن ولم يحضر! منذ يوليو وحتى أكتوبر 1798م سارت الأمور بهدوء ولم يثر المصريون على الاحتلال الأجنبى، بل سارت الحياة بتفاصيلها الرتيبة وبوساطة الديوان بين الناس وبين الحكام الجدد! كانوا يتوسطون مثلا عند فرض ضرائب على فئات معينة لتخفيفها، أو شرح بعض الإجراءات الصحية التى كان الفرنسيون يفرضونها مثل نشر الملابس والأمتعة فى الشمس لمدة أسبوعين وتنظيف الشوارع وغيرها!
اهتم الفرنسيون بالانغماس فى تفاصيل احتفالات المصريين الدينية، ففى أغسطس سألوا الشيخ البكرى عن عدم إقامة الاحتفال بالمولد النبوى، ولما تعذر بقلة المال صرف له بونابرت 300ريال فرنسى لإقامة الاحتفال! جعل الغزاة الجدد المماليك هدفا لمطارداتهم للاستيلاء على أموالهم والاتنقام مما كان يقوم به المماليك مع التجار الفرنسيين القادمين إلى مصر كما زعموا!
فى تلك الشهور قام علماء الحملة بأول تعداد لسكان مصر منذ العصور القديمة، كما قاموا بحصر كامل أراضى مصر الزراعية وبيوتها وحوانيتها ومقاهيها وسجلوا أحوال أهلها من مختلف فئات المجتمع، وأعداد المتعملين أى الذين يقرأون ويكتبون! لقد كان ما سجلوه بمثابة فتح الستار على مصراعيه أمام العالم ليرى مصر، وأمام المصريين ليروا أنفسهم بعد ذلك بسنوات! فى ثنايا وصف الجبرتى لما يحدث يوما بيوم وبسبب طريقته التفصيلية فى الرواية، فقد تأكد أن ما كتبه علماء الحملة لم يكن خاطئا، لكنه كان صريحا ربما أكثر مما نحتمل أن نواجهه نحن!
(3)
قام الفرنسيون بعمل تعداد دقيق لأول مرة فى العصور الحديثة لسكان مصر، وبلغ حوالى اثنين ونصف مليون نسمة. من كان يعرف القراءة والكتابة منهم فى عموم مصر لم يزد على خمسين ألف من الذكور! ولا تعليم فى كل مصر غير التعليم الدينى الذى تعلم من خلاله هذا العدد من الذكور القراءة والكتابة، بينما كانت نساء مصر تغط فى جهلٍ تام لم ينجو منه سوى عدد قليل جدا من بنات بعض الأسر الغنية عن طريق بعض الشيوخ العميان الذين يأتون للمنزل لتعليم بعضهن بعض سور القرآن الكريم! فلم تكن منهن من تعرف أى شىء عن تاريخ مصر مثلا أو تعرف عن كفاح المصريين ضد كل من احتلها!
لم يكن هناك أى وجود لأية علوم أخرى فى كل مصر!
الخطابات التى كتبها جنود وقواد الحملة لذويهم تم ترجمتها ونشرها حديثا، وفيها وصف دقيق لما رآه هؤلاء واختصره أحدهم قائلا (هذا البلد لا يستحق سمعته التليدة!)
كانت منازل المصريين عبارة عن أكواخٍ من الطين ليس بها نوافذ سوى فتحات ضيقة مغطاة بخشب جاف، وأبواب ضيقة لا تكاد تكفى لدخول أحدهم! يقضى معظم المصريين جلّ وقتهم أمام أكواخهم يدخنون أصناف ردئية من مستحضر مخدر من القنب يسمونه الحشيش يصيبهم بنوع من الخدر، بينما يدخن الأغنياء أنواعا أخرى من تبغ اللاذقية! فى القاهرة وحدها 1200 مقهى غير مقاهى بولاق 100 مقهى، وفى مصر القديمة 50 مقهى، ويتم فيها جميعا بيع الأفيون الذى يتناوله حوالى ثلثا الحرفيين، ويسكر معظمهم داخل بيوتهم!
فقر مدقع وشح شديد نتيجة الحاجة، واستجداء شديد ومحاولة دائمة لإظهار البؤس والعوز!
يخضع الفلاحون لموجات متتالية من القهر والابتزاز سواء من العربان الذين يفرضون إتاوات على جميع الفلاحين، وبعد جبايتها يواجه الفلاحون موجات أخرى من البكوات والضباط المماليك!
يقضى المصريون ساعات بلا حركة أمام أكواخهم تحت تأثير المخدر، بينما تملأ القاذورات شوارعهم وتفوح منها الروائح النتنة! يسير الفلاح ورأسه محنية للأمام، وحين يقابل شخصا ذا أى قدرٍ من الجاه أو الثروة يقترب منه مستجديا وباسطا يده!
ماذا كان يرتدى الفلاحون المصريون؟ يرتدى الفلاح قميصا بسيطا مشقوقا حتى أسفل البطن وليست له أكمام وينزل حتى الركبتين ويثبت بالجسم بواسطة حزام من الجلد. القميص من القطن أزرق اللون، بينما يغطى الرأس غطاء من اللباد الأحمر، وكثير من الفلاحين لا يملكون القميص ويكتفون بأن يثبتوا بحزامهم قطعة من القماش تلف حول وسطهم!
أما الحرفيون، فبلغ عددهم فى القاهرة حوالى 15ألفا، غالبيتهم هم الطبقة الأكثر بؤسا. لا يحصلون إلا على أجر بالغ التواضع، ولا يأكلون اللحم على الإطلاق. يشترون الخبز والحبوب المطبوخة وينفق أحدهم بعض نقوده فى المقهى. يرتدون قميصا أزرق اللون من الصوف يحزم بحبل عند الوسط وتغطى رءوسهم لبدة بيضاء. يسكنون أكواخا وأثاثهم عبارة عن مزقة من حصير ينامون عليها مع زوجاتهم وأولادهم!
لا ينام الرجال بجوار زوجاتهم فى كل الطبقات! 
يصف الجبرتى أحوال المصريين فى الاحتفالات بالموالد فى المساجد قائلا (يقومون بهذه الحركات والإيقاعات على نمط الضرب بالدف وينضم جموع من العوام للحديث والهذيان والتلفت إلى حسان الغلمان والسعى خلفهم والافتتان بهم، ورمى قشور اللب والمسكرات والمأكولات فى المسجد، فيصير المسجد بما اجتمع فيه من هذه القاذورات والعفوش بالأسواق الممتهنة!)
أما نساء مصر، فقد كن بين طبقتين، الأولى نساء ترفل فى الثراء يقضين وقتهن يومهن راقدات فوق الفراش أو مقعيات على وسائد رخوة تحيط بهن جمهرة من الإماء شديدات الانتباه حتى ليوفرن على النساء حركة الإشارة من الإصبع! وفى وقتٍ قصير تكتسب نساء هذه الطبقة سمنة غير مستحبة! أما نساء الطبقة الفقيرة فتطغى الخشونة عليهن ويدخن النارجيلة! ونساء الطبقة الثرية لا يخرجن من بيوتهن إلا نادرا، بينما ترتدى الفقيرات البرقع ويرتدين ملابس تكون أحيانا ممزقة. وفى الأكواخ ينام الرجل وزوجته على الأرض فى الركنين المتقابلين وتتعرض النساء للقسوة!
هذه بعض أحوال مصر التى أفاضت وثائق (وصف مصر) وكتابى الجبرتى وخطابات جنود الحملة فى وصف تفاصيلها. جهلٌ تام وغيبوبة مخدرات وقاذورات وانعدام الروح..هذه الأحوال تمت بفعل فاعلين تراكمت عبر القرون السابقة منذ غزو عمرو بن العاص لمصر. ما حدث سابقا كان جريمة تامة هى اغتيال روح الأمة المصرية! كانت حملة نابليون مشروعا استعماريا. هذه حقيقة لا تقبل الشك. لكنها فقط جزء من الحقيقة. أما باقى الأجزاء فقد ظهرت جلية بعد خروج الحملة، حين بدت الروح تدب تدريجيا فى جسد هذه الأمة. كان مشهد ثورة المصريين ضد خورشيد أول والى عثمانى أتى لمصر بعد الحملة هو أول إرهاصة حقيقية لتلك الاستفاقة التى سيقوم محمد على باشا بتنشيطها ويمنحها ميلادا جديدا حقيقيا، ميلادٌ لم يكن ليرى النور دون هذه السنوات الثلاثة للحملة الفرنسية!
(4)
سارت الأحوال بهدوء والفرنسيون يشرعون فى تنظيم إدارة الدولة الجديدة حتى يوم 20 أكتوبر حين اجتمع الديوان وتم حصر جميع ممتلكات المصريين العقارية وتم اتخاذ قرار بفرض (ضريبة عقارية) على جميع الممتلكات حسب مساحتها وأهميتها. كان هذا القرار هو سبب تفجر ما يُسمى بثورة القاهرة الأولى التى وصف بدايتها الجبرتى قائلا (لما أشيع ذلك فى الناس كثر لغطهم، واستسلم البعض للقضاء.. وانتبذ جماعة من العامة وتناجوا فى ذلك و وافقهم بعض المتعممين الذين لم ينظروا فى عواقب الأمور..فتجمع كثيرٌ من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم!)
(أصبحوا يوم الأحد متحزبين على الجهاد عازمين. أبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح وحضر فتوات الحارات البرانية ولهم صياحٌ عظيم (نصر الله دين الإسلام!) واجتمع بالجامع الأزهر العالم الأكبر. وحضر دبوى اللعين إلى بيت الشرقاوى فلم يجده فذهب إلى بيت القاضى فبادروا إليه وضربوه وقتلوا الكثير من عساكره..فعندئذ أخذ المسلمون حذرهم ومسكوا الأطراف بمعظم القاهرة وهدموا المصاطب وجعلوا أحجارها متاريس ..وخرجت العامة عن الحد وبالغوا فى القضية بالعكس والطرد وامتدت أيديهم إلى النهب والخطف والسلب ونهبوا دور النصارى القبط والشوام والأروام وسبوا النساء والبنات وأكثروا من المعايب ولم يفكروا فى العواقب.. بحث بونابرت عن شيوخ الأزهر وبعث إليهم فلم يجيبوه وملّ من المطاولة!)
هذه مقتطفات من وصف الجبرتى لأحداث ما يسمى بثورة القاهرة الأولى! لا المصريين ولا الجبرتى ذاته استخدم لفظ (المصريين)، بل كان الأمر لهم وله حرب مسلمين ضد النصارى! وتمت مهاجمة والاعتداء على بيوت الأقباط! واختفى شيوخ الأزهر ولم يظهروا إلا بعد أن استخدم الفرنسيون مدافعهم.. ساعتها تحصن العامة بالأزهر فضربه الفرنسيون بالمدافع! فى تلك اللحظة فقط ركب الشيوخ إلى بونابرت ليرفع عنهم هذا النازل حسب وصف الجبرتى!
لما قابلهم بونابرت عاتبهم فى التأخير واتهمهم بالتقصير، فاعتذروا إليه فقبل عذرهم وأمر برفع الضرب عنهم، فقاموا ينادون فى الناس بالأمان!
فى ثورة القاهرة الثانية، كان المشهد أكثر انفلاتا وأبعد ما يكون عن وصفه بثورة!
بعد أن هزم الإنجليز الفرنسيين وشرع الفرنسيون فى الاستعداد للرحيل وبيع أمتعتهم وتسليم القلاع والثغور عدا قلعة مصر، بدأت الأحداث بوقوع مشاجرة بين جنود فرنسيين وعسكر عثمانيين وقتل فرنسى فنقض الفرنسيون اتفاقهم مع العثمانيين وهاجموا العثمانيين. وخرج العامة بالنبابيت والعصى وحرض العثمانيون العامة على مهاجمة الأقباط (قاتلوا النصارى وجاهدوا فيهم) فهاجم العامة حارات النصارى وقتلوا أعداد كبيرة وحدثت مواجهة بين مصريين مسلمين وآخرين أقباط! وحضر مغربى التف حوله العامة وهيج العامة على الاعتداء على النصارى!
حاول الشيوخ هذه المرة تدارك الأمر فركبوا للفرنسيين وعقدوا معهم صلحا، لكن العامة رفضوه واتهموا شيوخهم اتهامات بالخيانة وأسمعوهم قبيح الكلام واتهموهم بالارتداد!
لخص الجبرتى ما حدث – ما يسمى بثورات القاهرة – (وصادفتنا فتنة لم نكن بها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء!)
هذا مختصر وصف الجبرتى لأحداثٍ جسام تمت تقديمها لأجيالنا المعاصرة على غير حقيقتها، وتسبب ذلك فى إلقاء مزيدٍ من الضباب على أحوال مصر فى تلك الحقبة التى أصبحت بوابة مصر للولوج فى العصور الحديثة!
لم تكن هناك ثورات مصرية وطنية ضد الاحتلال الفرنسى، لأن الأمة المصرية كان تغط فى موات حضارى وروحى وعلمى، جهلٌ تام..انعدام الروح والحيوية..نساء خارج التاريخ تماما..علماء دين أصغر مما تعرضوا له ووجدوا أنفسهم فى صدارة مشاهد تاريخية حاسمة..ثم فوضى ولغط ونهب وسلب واتهام لمصريين بموالاة الفرنسيين لمجرد أنهم مسيحيون!
اتهم الجبرتى نساء مصر الذين استجابوا لما ابتدعه الفرنسيون بالتنزه فى النيل برفقة أزواجهن بالخلاعة والمجون، ثم غلّظ أوصافه ضد بعضهن فى صفحة كاملة! هذا البعض هن من تزوجن فرنسيين بعد إعلان إسلامهم. حيث بدأ هؤلاء فى السماح لزوجاتهن بالخروج معهم والقيام ببعض الأدوار الاجتماعية. اتهمهن الجبرتى بالفجور!
هذه كانت مصر وهذا كان حالها وقت دخول الفرنسيين إليها، لذلك وبعد فترة وجيزة فقط من خروج الحملة بدأت هذه الأحوال فى التغيير الجارف..لذلك كانت مصر – ورغم آلاف التفاصيل والهرج والمرج والارتباك – هى الرابح والمنتصر الأكبر فى هذا الحدث الجلل!