رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى وفاته.. نظرة خاصة لكتابات العقاد.. عملاق الأدب العربى

(1)
مصادفة قدرية خالصة وعنوان كتاب استفز عينىّ فى مرحلة مبكرة جدًا من حياتى.. هذه كانت البداية... فى نهاية المرحلة الإعدادية وبينما نرتب بعض الكتب على أرفف مكتبة المدرسة بناءً على طلب أمينة المكتبة لمجموعة أصدقاء المكتبة وجدتُ كتابًا بهذا العنوان (أنا)! طبقًا لقواعد الاستعارة وقتها كان هذا الكتاب من الكتب غير المسموح بخروجها من المكتبة! أجبرنى العقاد ولمدة شهر على قضاء فترة (الفسحة) بين جدران المكتبة فى أول لقاء بينه وبينى لكى أعرف من هو هذا الأنا! منذ ذلك العام ولمدة سنوات، لم تنقطع هذه العلاقة بين مؤلفاته وبينى، حتى ألقت مصادفة أخرى به فى وجهى فى نهاية المرحلة الثانوية. لكن تلك المصادفة الثانية كانت إجبارية حين قُرر علينا أحد أعماله (عبقرية عمر) فى مادة اللغة العربية! شعرتُ بالامتنان للمصادفة الأولى المبكرة التى جعلتنى أشعر ببعض الزهو حين انتهيتُ من قراءة (العبقرية) - كما كان يطلق عليها الطلاب - قبل الزملاء بأسابيع طويلة، وحين لم أشعر بأن (العبقرية) تشكل لى ما شكلته لكثيرٍ من الطلاب من مصاعب وصلت إلى حد الكراهية لها من جانب كثيرين!
(2)
فى السنوات التى اشتدت خلالها رغبتى فى قراءة ما يتيسر لى من مؤلفاته، أذهلنى تمكنه من اللغة ووصوله فى صناعته لما يقارب الكمال فى صياغة العبارات كما يشاء وولوعه بإظهار بلاغته وقدراته اللغوية! وما شعرتُ به أنه لم يكن يفعل ذلك تصنعًا أو تيهًا واستعراضًا لما تكمن منه من أدوات بضاعته، إنما كان يفعل ذلك بتلقائية مَن بلغ ذروة التمكن فى صنعته دون تكلف أو عناء! فهو حقًا كما يطلق عليه (عملاق) الأدب العربى واللغة العربية! إنه رجلٌ عشق اللغة العربية فمنحته كثيرًا من أسرارها وكنوزها الخفية! 
عوام القراء لن يكونوا فى أسعد حالاتهم إن قرروا خوض مغامرة الولوج لدهاليز العقاد اللغوية! والحل الوحيد هو أن يكون بجوارهم أحد معاجم اللغة العربية لفك شفرات بعض ألفاظه والوصول إلى ما يريد من فِكَر! 
مَن صبر على مؤلفات العقاد وبذل الجهد اللغوى والذهنى وحاول الشرود بخياله معه، سيكتشف أحد أسراره بالغة الدهشة. إن عبارات العقاد يمكنها أن تحمل أكثر من معنى، وكل مرة تعيد قراءة فقرةٍ أو فصلٍ ما فسوف تخرج منه بأفكار ومعانٍ جديدة تمامًا! وهذا السر تحديدًا هو ما شكل صعوبة بالغة لطلاب الثانوية العامة آنذاك، خاصة أن غالبيتهم لم تمتد يده سابقًا حتى لتصفح أحد مؤلفات هذا الأسطون اللغوى، فكان إقرار كتاب (عبقرية عمر) صدمة كبيرة لكلٍ من التلاميذ ومدرسيهم الذين لم يكونوا أسعد حظًا من تلاميذهم فى سابق خبراتهم مع أعماله!
إن محاولة الكتابة عن كتابات العقاد هى ولا شك مغامرة كبرى، خاصة إذا ما قرر من يقوم بهذه المحاولة تقديم (نقد) لهذه الكتابات! وربما يكون الخوف من خوض هذه المغامرة هو ما يغل أيدى كثيرين عن مجرد الاقتراب من هذا الاسم! لكن ربما يتلاشى هذا الخوف تمامًا إذا ما اتفقنا على أنه لا مجال لنقد كتابات العقاد من زاوية قدراته اللغوية والبلاغية، أو تمكنه من عرض أفكاره. فهو فى هذا فارس اللغة الذى ربما يكون الأوحد فى كثيرٍ من مضامير السباق! ومن حيث عمق أفكاره ورسوخها فى تربة عفية قام بتغذيتها عبر سنوات عمره بالقراءة والتفكر ومزجها بمزاجه الشخصى الصارم الجاد، فهو فى ذلك أيضًا لا يُشق له غبارٌ!
(3)
لكننى أُخرجُ فى هذا الموضع ما استقر فى نفسى - بعد سنواتٍ من قراءة كثيرٍ مما كتبه - عن (هوية) كتابات العقاد!
حين تغوص معه بين دفات أحد مؤلفاته تشعر وكأن صدرك يعبّ عبًا من هواء الصحارى المترامية عبر امتداد الجزيرة العربية! تشعر وكأن كتاباته قد عبرتْ البحر الأحمر إلينا من زمن معلقات العرب! غرق العقاد بعشقه فى أزمة العرب الحضارية بعد الإسلام وكانت كتاباته أقوى بكثيرٍ مما كتبه مَن هناك عن أسماء عربية كانت فى سيرتها السياسية موضع اتهاماتٍ كبرى. أجهد العقادُ قلمَه وكثيرًا من جهده للدفاع عن مسائل دينية أو عربية تمت صباغتها بصبغة دينية. حين تطالع قائمة مؤلفات العقاد ترى أن غالبيتها تنقسم لقسمين رئيسين، الأول يضم كتابات أكاديمية أدبية يظل مداها وتأثيرها منحصرًا بين قاعات المحاضرات وحذلقة المشتغلين بالأدب العربى، بينما ينصب القسم الثانى صراحة فى خانة الكتب الدينية! بخلاف هذين القسمين، هناك مقالات وكتيبات سياسية وفلسفية، بعضها ارتبط بأحداث سياسية أو كُتبت عن شخصيات سياسية، حتى إنه كتب عن الملك عبدالعزيز وغاندى، وغيرهما، لكن ظلت الأعمال الكبرى تنضوى تحت أحد هذين القسمين!
لقد غابت الهوية المصرية بشكلٍ كبير - بخلاف الحضور الأهم بنشيد العلم الذى كتبه 1934م- عن كتابات العقاد! انفصل العقاد - فى كتاباته - عن مصر بمفرداتها فى سنوات عمره. انعزل فكريًا وإنتاجيًا داخل قميصٍ أسمنتى صارم من اللغة العربية العتيقة شكل حاجزًا كبيرًا بين كتبه وملايين المصريين، سواء الذين عاصروه أو المعاصرين الآن!
اللغة هى وعاء تقديم الأفكار! أخبرونا فى دراسة اللغة الإنجليزية أن استخدام أبسط العبارات أفضل لتقديم فكرتك! اللغة العربية بطبيعتها أكثر تنوعًا وأثرى من حيث المفردات والمعانى والأصوات، لذلك فمن يحمل فى رأسه فكرًا عليه ألا يقصد اختيار أصعب المفردات، لأن هذا يعوق بين المتلقين ووصول أفكاره! 
وأزمة لغة العقاد لم تكن مقصودة منه، لكنها شكلت إحدى أزماته التى أعاقت دون وصول كثيرٍ من أفكاره إلى ملايين من الجوعى إلى الأفكار، أية أفكار!
لكن لم يكن طغيان قدراته اللغوية هو العائق الوحيد الذى حال بين كتبه وأعداد منطقية من القراء المصريين. فكثيرٌ ممن استطاعوا بعد جهدٍ من الركض اللغوى معه - مثلما فعلتُ - وصلوا إلى قناعة هامة، أن مصر - بشخصيتها ولهجتها وحضارتها وألمها وآمالها وقت كتاباته - لم تجد ما يناسبها من حضور ومكانة فى هذه الكتابات! 
كتابات وكتب المعاصرين له من مفكرين وكُتاب حظيت بمكانة وحضور بين المصريين أكثر من كتب العقاد بمراحل كثيرة، حتى وإن لم يكن هؤلاء الكُتاب والمفكرون على نفس القدر من التمكن اللغوى الذى تميز به العقاد! والسر فى ذلك هو أن القراء المصريين وجدوا أنفسهم وبلادهم وقضاياهم وهويتهم فى كتابات هؤلاء، بينما لم يجدوها فى كثيرٍ مما تركه العقاد!
(4)
كره العقاد اللغة المصرية العامية كراهية شديدة واستهجن تمامًا أن يكون هناك (أدب) باللغة العامية المصرية! هذا ما قاله وتم تسجيله فى حوار تليفزيونى نادر شاهدتُه من سنوات على قناة ماسبيرو زمان. تحدث عن اللغة المصرية العامية بكثيرٍ من التعالى، ورفض بحدة أن يكون هناك أدبٌ عامى مصرى! لم أتعجب إطلاقًا حين سمعته يقول ذلك، لأن الرجل كان متسقًا تمامًا مع شخصيته الفكرية والأدبية كأسطون من أساطين الأدب (العربى) والفكر (الدينى)! 
لكن هذا الحوار المقتضب المتلفز يلقى الضوء بشدة على فكرة غياب الهوية والشخصية المصرية فى فكر العقاد. لأن اللغة العامية سنوات حياة العقاد لم تكن قد بلغت أى درجة من درجات التدنى المعاصر، وكانت فى أقل مستوياتها الشعبية تحمل كثيرًا من تراث المصريين عبر (الأمثال والقصص الشعبية والشعر العامى التلقائى الذى تضج به القرى والنجوع فى عموم مصر)! ولم يكن هذا الجزء من التراث المصرى يقل فى قيمته عن كتابات الكتاب باللغة العربية الفصحى! وربما لا يدرك قيمة هذا التراث الشخص العادى، لكن أن ينكره مفكرٌ بقيمة العقاد فقد كان هذا صادمًا للكثيرين! لأن فيه إنكارًا لجزء من هوية مصر، ففى تلك السنوات التى تم فيها تسجيل الحوار، لم يكن مَن يتقنون اللغة العربية الفصحى - مقارنة بعدد سكان مصر - يمثلون نسبة ذات قيمة. وأنه فى تلك السنوات كانت اللهجة العامية المصرية تغزو البلدان العربية عبر السينما المصرية. وأن تلك اللهجة كانت أحد أهم عوامل التقارب بين الشعوب العربية فى فترة توهج فكرة (الوحدة العربية)! كما أن تلك اللهجة كانت إحدى مفردات القوة المصرية الثقافية فى محيطها الإقليمى، وكان غريبًا جدًا أن يتخذ أحد رموز الثقافة فى مصر منها هذا الموقف!
(5)
مصر تقدر جميع أبنائها الذين ينبغون فى كل المجالات، وتعتز بقوتها الناعمة عبر القرون والعقود وتكرمهم بما يليق بها وبهم. وهذا ما فعلته مع اسم عملاق الأدب العربى الكاتب والمفكر المصرى عباس محمود العقاد المولود 28 يونيو عام 1889م والذى وافته المنية 13 مارس عام 1964م. فلقد كرم الرئيس عبدالناصر العقاد بمنحه جائزة الدولة التقديرية التى تسلمها شخصيًا. وأنتج مسلسلًا بعنوان العملاق عن قصة حياته بطولة محمود مرسى. وأطلق اسمه على أكثر من حى ومنطقة القاهرة وأسوان. ويعتز به أهل محافظة أسوان وتحمل أهم مدرسة ثانوية بالمدينة اسمه، كما تم نصب تمثال كبير له فى موقع هام بجوار مقبرته يراه كل من يزور أسوان!
هذا هو التقدير الذى منحته مصر للعقاد كعلامة بارزة فى الأدب والفكر العربى، تقديرٌ ربما فاق ما حصل عليه كُتاب آخرون حفظوا للأجيال المصرية المعاصرة هوية بلادهم فى كتاباتهم!
لكن ما حصل عليه هؤلاء الكُتاب الآخرون - من إعادة طبع كتبهم والتهامها حتى عن طريق الأجيال الشابة - كان بمثابة رسالة هامة كتبها بشكل فعلى القراء عبر العقود الماضية، وهى أن غياب الهوية المصرية عن كثيرٍ من كتابات العقاد سيظل هو المحك الذى يفصل بين كتاباته ووصولها لملايين القراء فى مصر!