رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى يوم الشهيد «المصرى».. خطبة جمعة مؤسفة!

(1)

فى أحد المساجد المعروفة بأسوان أعلن الإمام عنوان خطبة الجمعة بأنها (يوم الشهيد). 

نعرف جميعا أن يوم التاسع من مارس هو يوم استشهاد الشهيد عبد المنعم رياض ونعرف كيف تم استهدافه من قبل القوات الإسرائيلية بشكل مباشر وهو يتفقد الجبهة المصرية. وأن مصر جعلت من يوم استشهاده مناسبة للاحتفاء بشهدائها وتكريمهم وتكريم ذويهم. كان استشهاد الرجل فى حرب الاستنزاف التى تبعتها حرب أكتوبر التى استردت مصر من خلالها أرضها. وفقدت مصر فى تلك الفترة أكثر من عشرة آلاف شهيد. ومنذ الخامس والعشرين من يناير 2011م وحتى الأمس القريب جادت مصر بآلاف من أبنائها بين شهيدٍ ومصاب. فهذا اليوم هو يوم شهدائنا نحن المصريين. وهؤلاء الشهداء جادوا بأرواحهم دفاعا عن وطن بأرضه وشعبه ومقدراته. أى أن هؤلاء قدموا أرواحهم حفاظا على هذا الوطن ومواطنيه جميعهم!

(2)

خصص إمام المسجد خطبته للحديث عن نقطتين، الأولى تعريف الشهيد، والثانية ما خصّ الله به الشهيدَ فى الدنيا والآخرة.

فيما يخص النقطة الأولى فقد عرّف الشهيدَ – وكرر تعريفه ثلاث مرات أثناء الخطبة– بأنه من يقاتل فى سبيل رفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومن يقاتل فى سبيل الله ورفع كلمة التوحيد ويجاهد فى ذلك بماله ونفسه ويطلق الدنيا بمباهجها وملذاتها ويخصص نفسه للقتال فى سبيل الله! 

واختصنا بقصة استشهاد عبد الله بن رواحة التى نعرفها جميعا وأنشدنا فوق المنبر شعرَه الذى أنشده فى موقعة مؤتة قبل استشهاده وكيف دافع عن الراية المكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله!

ثم استغرق فى فضائل الشهيد– وأكد أنه الذى يدافع عن تلك الراية– فى الدنيا وكيف أن جسده يبقى كما هو. وعن فضائله فى الآخرة أسهب فى ذكر عدد الحوريات التى سوف يحظى بهن، وفرق فى ذلك بين عددهن فى الحالتين إن كان شهيد بر أو شهيد بحر!

(3)

هكذا انتهت خطبة جمعة فى أحد مساجد مصر عنوانها (يوم الشهيد المصرى) الذى لم يذكر الإمام حتى كلمة المصرى!

انتهت الخطبة ولم يذكر الإمام ولا كلمة واحدة عن صاحب الذكرى الشهيد عبد المنعم رياض، ولا عن أكثر من عشرة آلاف شهيد مصرى جادت بهم مصر فى حربى الاستنزاف وحرب أكتوبر حتى يبقى هذا الوطن وحتى ينعم الإمام بالحياة والعمل بوزارة الأوقاف المصرية!

لم يذكر كلمة واحدة عن شهدائنا بالأمس القريب فى حربنا ضد مجرمين وخونة كانوا يرفعون راية سوداء وكتبوا عليها بهتانا وإفكا (لا إله إلا الله محمد رسول الله!)

لم يذكر كلمة واحدة يوضح للمصلين أن المدافعين عن أوطانهم وبلادهم وشعوبهم وممتلكات شعوبهم وأعراضهم أيضا يدافعون لإعلاء كلمة الله الحق والعدل!

إن هذا عبثٌ كامل واستخفافٌ بقضية مصيرية الآن ومستقبلا. فبدلا من استغلال تلك الفرصة لتثقيف المصريين ونقل معلومات صحيحة عن ماضٍ مشرف ربما لا يعرفه كثيرون، فلقد خرج المصلون اليوم من هذا المسجد وهم قد تم تلقينهم تعريف الشهيد بشكلٍ واحد محدد وتم تجاهل كل ما يتعلق بمناسبة اختيار مصر لهذا اليوم تحديدا ليكون يوما للشهيد! 

(4)

أنا أدرك حجم المأساة جيدا وأدرك أن كثيرا ممن يعتلون المنابر فى العقود الأخيرة يعتنقون فكرة نجحوا فى تمريرها بين الناس وهى أن شهداء الحروب الوطنية إنما شهداء دنيا ولا يعترفون بأنهم شهداء حقيقيون! كانوا يقولون ذلك صراحة لسنوات طويلة فوق المنابر وقت اختطاف مصر ومساجدها!

الآن- وبعد أن استعادت مصر توازنها وشرعت فى تصحيح أوضاعٍ ضالة أضلت المصريين وكبدت مصر أثمانا باهظة– فهؤلاء لا يتجرأون على قول ذلك صراحة ويمارسون لعبتهم التقليدية العبث واللعب بالألفاظ والعقول والأوطان!

إن من يعتنق تلك الأفكار من أئمة المساجد هم فى الحقيقة ضدنا وليسوا معنا. هم يتجاهلون قضايا مصر وحروبها وتاريخها ويعبثون بعقول أبنائها!

هم أنفسهم الذين ظلوا عقودا طويلة يتجاهلون حرب أكتوبر وشهداءها حتى لو بمجرد ذكر عابر وكأنها كانت حدثا خياليا أو أنها حدثت فى بلادٍ أخرى. إنهم يتجاهلونها عمدا لأنهم يدينون بنفس العقيدة التى أكدتها خطبة اليوم. فاليوم وفى مناسبة محددة اسمها يوم الشهيد المصرى تجاهل الإمام الشهداء المصريين تماما! 

وفى أى اختبارٍ قادم حقيقي– أتمنى أن نكون قد استوعبنا الدرس ولا نتعرض له مرة أخرى– فإن هؤلاء سوف يقومون بما قام به أسلافهم بعد 2011 وحتى ثورة يونيو حين انضموا صراحة لخنادق أعدائنا!

(5)

إننى أدرك حجم الجهد الكبير الذى بذلته وتبذله وزارة الأوقاف من أجل تصويب تراكمات عقود طويلة، وأن هذا سيستغرق وقته المنطقى، وأنها قد حققت نجاحا مبهرا بالنظر إلى حجم مصر كدولة بعدد مواطنيها ومساجدها. أعلم هذا وأقدره تماما، لكننى أعتقد أنه ربما يكون مناسبا ودافعا فى الطريق الصحيح - وبعد هذا الالتفاف الذى نراه من وقتٍ لآخر من قبل بعض الأئمة حول فكرة (الخطبة الموحدة)– أن يضاف لتلك الخطبة عن طريق علماء وزارة الأوقاف عناصر الخطبة. يصبح هذا منطقيا إذا ما كان موضوع الخطبة متعلقا بقضية نعلم جميعا خطورتها، خطورة محاولة البعض الالتفاف عليها!

نحن– كمصريين– لا نريد أن تتكرر المأساة مرة أخرى حتى لو كانت بشكلٍ ناعم! نريد حماية وتحصين بلادنا وأبنائنا من هذا العبث. لماذا لا يتحلى بعضهم بالشجاعة الأخلاقية ويتقدمون باستقالاتهم وترك المنابر إن كانوا لا يؤمنون بأن ما تقوم به مصر هو عادلٌ تماما وأن حروبها الوطنية حروب عادلة؟!

مأساة بعض الأئمة أن عقولهم توقفت عن حقبة زمنية محددة. فلا يرون قبلها أو بعدها. يخلطون بين العقائد وبين الأحداث التاريخية. يخلطون بين حروب النبى (ص) الدفاعية وبين أحداث تاريخية لاحقة اختلط فيها الحابل بالنابل وأصبحت – فى عقولهم الجمعية– كل حربٍ فى فترات الخلاقة هى جهاد!

إننى أعتقد– وذكرتُ ذلك فى مقالات أخرى- أن هناك حاجة ماسة لدمج مادة (التاريخ) بشكل جدى حقيقى تفصيلى فيما تعده الوزارة من برامج تثقيف لأئمتها. كما أعتقد أنه أصبح لازما ألا تقتصر تلك البرامج التثقيفية على أعداد محددة من الأئمة، بل الأوجب أن تصبح دورات إجبارية لجميع الحاصلين على تصريح الصعود لأى منبر فى أى مسجد بمصر! فمصر ليس لديها رفاهية تكرار أى مشهد من المشاهد القاتمة التى مرت بها فى العقود السابقة لثورة يونيو!