رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من التأمين إلى التمكين

لقاء الرئيس بوفد من المستثمرين، أمس الأول، افتتاح مصنع الرمال السوداء بالأمس، المؤتمر الاقتصادى بعد أيام، مؤتمر المناخ بعد أسابيع، إطلاق قناة القاهرة الإخبارية، الحوار الوطنى، قرارات لجنة العفو الرئاسى وجهودها المتوالية، كلها بـ«لغة الصحافة» عناوين فرعية لموضوع واحد.. وهو انتقال ثورة يونيو ومعها مصر من مرحلة «التأمين» لمرحلة «التمكين» ومن مرحلة «المواجهة والانتصار» لمرحلة «ما بعد الانتصار» ومن ارتداء «الشدة العسكرية» لزوم مواجهة العدو إلى مرحلة الحياة الطبيعية، والعمل الطبيعى، والاقتصاد الطبيعى، أنا من الذين يؤمنون بأن كل جيش فى العالم يجب أن تكون له أنشطة اقتصادية يمول بها أنشطته المختلفة من التدريب إلى التسليح إلى البناء والتنمية، وهكذا فهمنا جميعًا دخول الجيش فى الاقتصاد بنسب ليست كبيرة لمواجهة أعباء الحرب على الإرهاب التى قال الرئيس إنها كانت ثمانين مليار جنيه كل عام، ربما يختلف الوضع بعد الانتصار على الإرهاب وإعلان بعض من يحركونه أنهم خرجوا منهزمين من لعبة السلطة.. فى كل الأحوال كان المجال مفتوحًا أمام القطاع الخاص، وربما يكون مفتوحًا أكثر فى الفترة المقبلة، وبضمانات من الرئيس شخصيًا، الفكرة أننى على المستوى الشخصى أحلم بأن يكون المجال مفتوحًا لأى مصرى موهوب ليكون رجل أعمال، ولعل هذا ما يحلم به الرئيس شخصيًا، منذ الثمانينيات والناس تشعر بأن مجال الأعمال مغلق على عائلات بعينها وشخصيات بعينها، كانت الشائعات وقتها تسميهم «رجال أعمال مبارك» وكانت تتحدث أيضًا عن شراكات عائلية تسهل لهؤلاء الدخول فى كل المجالات، واحتكار كل الأنشطة، وجنى الأرباح بكل الطرق، وكان ذلك يتم بطرق محددة مثل منح بعضهم القروض بالأمر المباشر، أو آلاف الأفدنة بالمجان.. إلخ، وعندما كسرت الدولة هذا الاحتكار سمعنا شكاوى وصراخًا وبكاءً وتهديدًا بالانسحاب من أصوات قليلة.. والفكرة أن نضمن لكل رائد أعمال موهوب أن يبدأ مشروعه، ولكل صاحب فكرة أن يحولها لمشروع، ولكل صاحب جهد جاد أن يبدأ بالعمل، وأن نكسر حالة الوراثة وتركز الثروة واحتكار مئة عائلة فى مصر لمعظم الثروة القومية، إذا حققنا هذا فسينتعش القطاع الخاص لدينا أكثر مما هو منتعش عشرات المرات، وستضاف لمن يعملون فيه آلاف الطاقات الاستثمارية الشابة فى كل المجالات، ولا أظن أنه من الحكمة أن نكتشف أن صاحب مصنع الحديد هو نفسه صاحب مصنع السيارات، وأنه هو نفسه صاحب الفنادق، وأنه هو عينه صاحب شركة البلاستيك! والمطلوب الآن ونحن ننعش القطاع الخاص أن نعيد طرح الرأسمال الوطنى المشارك فى التنمية، وهى سمة تتسم بها الغالبية من المستثمرين المصريين بالفعل، وهى سمة على الإعلام أن يحييها ويعظم من قيمتها ويؤكد عليها كما فعل الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة بتقديمه شخصية «سليم البدرى» رجل الصناعة صاحب المبادئ الذى يهتم بالقيمة أكثر من اهتمامه بالربح، لقد قال الرئيس أمس الأول إن ٧٥٪ من الاقتصاد المصرى فى يد القطاع الخاص، والفكرة أن يدخل القطاع الخاص فى مجالات جديدة بدلًا من التنافس على كعكعة السوق الموجودة بالفعل، وأقرب مثل لذلك هو دعوة الرئيس للقطاع الخاص للمشاركة فى استخراج المعادن من الرمال السوداء، وهو مجال جديد، أظن أنه كان هناك إحجام من الدخول فيه لأنه استثمار ينطوى على بعض المغامرة، ورأس المال غالبًا يفضل المكسب المضمون، نفس الأمر بالنسبة لصناعة السيارات، فالتجارب تقول إن مستثمرينا الذين دخلوا مجال تجميع السيارات الكورية حققوا أرباحًا بالمليارات ومع ذلك فالإقدام قليل لأن البعض يفكر فى تلبية احتياج السوق المصرية فقط، فإذا أحس أنه تشبع من السيارات التى ينتجها غيره أعرض ونأى بجانبه، وبحث عن مجال ربح مضمون يراهن فيه على استهلاك مئة مليون مصرى لما ينتجه أو يستورده.. لكن قليلون هم الذين فكروا فى التصنيع من أجل التصدير.. لقد قرأت مذكرات رجل الأعمال رءوف غبور، ولى ملاحظات على بعض ما ورد فيها، لكن هذا ليس هو الموضوع، لقد حكى الرجل تجربته فى تجميع السيارات، وهى تجربة ناجحة ومربحة بكل المقاييس، فكم رجل أعمال قلده؟.. ولماذا لا يتوسع هو وشركته فى استثماراته بنية التصدير ما دام الله قد أفاء عليه بالربح من هذا النشاط التصنيعى الهام، نفس الأمر بالنسبة لاستصلاح الأراضى فى مشاريع مثل «مستقبل مصر» و«الدلتا الجديدة» وغيرهما.. إننا لا نسمع عن مشاركة رجال أعمالنا الكبار فى هذه الأنشطة الوطنية مع ضمان كل الحرية الاقتصادية لهم ومع ضمان كل التسهيلات، رغم أن هذا حق بلدهم عليهم، وواجبهم نحو شعبهم الذى هو السبب الأول فى تطورهم ونموهم كرجال أعمال لهم كل احترام وتقدير، كنت أقرأ مؤخرًا كتاب «طلعت حرب.. بحث فى العظمة» للكاتب والسياسى الراحل فتحى رضوان.. فإذا به يقول إن هناك فرقًا بين الاقتصادى «المستنير» مثل طلعت حرب، والاقتصادى العشوائى الهادف للربح مثل آخرين، فطلعت حرب كان يفكر ما هو النشاط الاقتصادى الذى يحتاجه بلده، قبل أن يفكر ما هو النشاط الذى يحقق له أقصى قدر من الربح، ولهذا أسس شركة «ستوديو مصر» لأنه أدرك أن الفن المصرى يحتاج هذا، وأسس شركة الورق لأنه أدرك أن مصر تحتاج هذا، وأسس شركة مصر للطيران لأن البلد يحتاج إلى شركة طيران وطنية، وأسس مصر للغزل والنسيج لأن القطن المصرى تتضاعف قيمته عندما يتم تصنيعه بدلًا من تصديره لإنجلترا كمادة خام، ونحن لدينا رجال أعمال وطنيون بلا شك لذلك نريدهم أن يسيروا على خطى طلعت حرب، ونريد من الحكومة أن تنفذ توجيهات الرئيس وتمنحهم كل التسهيلات وتزيل من أمامهم المعوقات وهى موجودة بالفعل.. نريد أن نبدأ عهدًا جديدًا من الانصهار الوطنى والتكامل بين الطاقات والربح للجميع، نريد أن نؤسس لجبهة وطنية تضم كل المخلصين ولا تستثنى سوى الخونة فقط وهؤلاء مكانهم معروف.