رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«بئر أم السعد».. خفايا الصعيد تحت أضواء الكتابة

حمدى البطران
حمدى البطران

- سنجد بعد قراءة أى قصة من قصص المجموعة أننا نفكر فى معانٍ خافية وعميقة مسكوت عنها ولم يصرح بها الكاتب

فى كل مرة يكتب حمدى البطران يقدم لنا شيئًا جديدًا، يقدم المسكوت عنه فى المجتمع الذى يحيط به، سواء كان هذا المجتمع ريفيًا أو حضريًا، يلتقط زوايا مختلفة، فهو يكتب عما يشاهده بعين ثاقبة وقدرة راقية على الوصف والتعبير، وفى تلك المجموعة الجديدة يقدم لنا من خلال ٢٠ قصة قصيرة نماذج مما يحدث فى هذا المجتمع الغامض، الذى لا نعرف عنه شيئًا. 

كما تضم المجموعة القصصية، التى تقع فى ١٦٠ صفحة، للكاتب حمدى البطران، الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، الكثير من المواقف، نجح المؤلف فى صياغتها بقدرته على التعبير والصياغة، قدم لنا صورًا لمواقف مؤلمة أو مضحكة، حسب طبيعة الموقف، والمجموعة عبارة عن وجبة أدبية شاملة ومتنوعة، يخرج منها المؤلف من موقف إلى موقف دون الشعور بالملل، ومن خلال عنصر التشويق الذى نجح البطران فى التمسك به من أول قصة حتى آخر قصة، كما قدم مجموعة مشاهد لراوٍ حيادى يروى ما يشاهده فى مراحل معينة ومواقف متعددة.

ومن خلال العرض نتناول أربع قصص تعد من القصص التى تحمل الكثير من المعانى الجميلة فى الريف المصرى والحياة الحضرية.

وتعد أول قصة فى المجموعة هى قصة «بئر أم السعد»، التى سميت المجموعة بها، فهى تكشف لنا عن تقاليد وممارسات كانت تلجأ إليها النسوة الباحثات عن الحمل، تبركًا بمكان ضريح يقع بالقرب من بئر، الراوى فى تلك القصة هو طفل صغير يحكى ما شاهده عن عمته التى ذهبت إلى الضريح خلسة دون أن تخبر زوجها وإخوتها، فالطفل كان حياديًا، ولم يعرف أن عمته ذهبت خلسة إلى هذا الضريح وتدحرجت مع غيرها من النسوة على الأرض وانكشف جسمها وشاهده الطفل، تجلت قدرة الكاتب فى تطويع لسان الطفل ليحكى بلغته، ويتسبب فى تعريض عمته للوم والعقاب من شقيقها الأكبر والد الطفل. 

بينما جاءت القصة الثانية بعنوان «نازك وزين الدار»، يحكى المؤلف على لسان مستشار يجلس فى انتظار أن يتصل به رئيس الوزراء لترشيحه محافظًا لأحد الأقاليم، وتزوره «زين الدار»، بلدياته من الصعيد، لتطلب منه أن يبحث لها عن ابنها الذى اختفى، ولا تعرف عنه شيئًا، وتستقبلها زوجته «نازك» القاهرية بنت الأصول فى القصر الذى تعيش فيه مع زوجها، بطريقة جافة ومهينة، فتطلب منها أن تخلع حذاءها وتجلسها على السجاد، وعندما يشاهدها المستشار يتذكر أنها كانت يومًا ما حبيبته، وأنه أحبها وكان يريد الزواج منها، ولكن أهله رفضوها بعد أن أصبح وكيلًا للنيابة. 

وعندما يصل تليفون رئيس الوزراء بتعيينه محافظًا، تتغير معاملة «نازك» لها، وتخبرها بأن وجهها مبروك، تتجلى قدرة الكاتب على استعادة قصة حب قديمة فى منتهى الرقة والرومانسية ويقارنها بحبه لـ«نازك» الأرستقراطية المتسلطة منذ أن تعرف عليها عندما تم تعيينه وكيلًا للنيابة فى القاهرة فى أول حياته العملية، ويرصد الكاتب مراحل حبه لـ«نازك» وحياته معها دون إنجاب.

أما القصة الأخيرة فهى التى تحمل عنوان «الموكب»، ولها دلالة ذكية رصدها الكاتب لتعبر عن انقياد الجماهير فى التجمعات خلف أى شخص دون دراية أو فهم أو تفكير، من خلال دسوقى الذى يخرج من صلاة العصر، ويسير متجهًا إلى قرية أخرى، ويشاهده بعض أقاربه، فيسيرون خلفة دون أن يسألوه، وعندما يشاهدهم أهل القرية يسيرون خلفهم فى صمت، فقد اعتقدوا أن هناك أمرًا جللًا فساروا خلف دسوقى وأهله، الغريب أن هذا الموكب الذى كان يسير فى الطريق كان يزداد عددًا، فينضمون إليهم دون كلام، ويشاهدهم رجال نقطة الشرطة فيعتقدون أنهم يسيرون فى جنازة، ويأمرهم قائدهم بالاصطفاف لتحية الجنازة، ولكنه يستغرب لعدم وجود نعش، وعندما يقترب الموكب من قرية مجاورة يعتقد أهل القرية أنه موكب زفاف لعروس قادمة من قرية أخرى، فيعلنون عن ابتهاجهم، وينضمون للموكب الذى يسير صامتًا خلف دسوقى، ويخترق الموكب القرية إلى قرية أخرى، والموكب يزداد عدده، وأصبح يشكل خطرًا على الأمن العام، مما يستدعى أن تقوم الشرطة باستدعاء الأمن المركزى، فتحضر العربات المحملة بالجنود، ويصطفون، لأن الموكب صامت ولم يحدث ما يعكر الأمن، فقد ظل رجال الشرطة على قيد الاستعداد.

كل هذا والموكب يسير خلف دسوقى الذى انحرف إلى بيت صغير، وغاب فيه والناس يقفون خارج البيت، وبعد فترة خرج دسوقى من البيت وكانت معه زوجته التى كانت غاضبة وأعادها.

وهناك قصة بعنوان «صفقة جائرة» شرح فيها المؤلف بقدرة رائعة عن صفقة زواج طفلة مصرية بكهل عربى من الخليج، من خلال سمسار، وتتجلى قدرة المؤلف على إبراز حدود الصفقة، والمساومة على قيمة المبلغ المدفوع، هل هو بالجنيه أم بالدولار؟، كل هذا بعيد عن البنت التى لا تعرف مصيرها، ويبرع المؤلف فى تصوير الخليجى وكهولته الظاهرة، ومحاولته الزواج من صبية مصرية رغم أنه غير قادر على التنفس.

فعند قراءة قصص المجموعة سنجد بعد قراءة أى قصة من قصص المجموعة أننا نفكر فى معانٍ خافية وعميقة مسكوت عنها ولم يصرح بها الكاتب، ولكنها ظاهرة وتعلن عن نفسها، من خلال كل قصة يقدمها، فهو لا يريد أن يقرأ لنا القصة بوقائعها فقط، ولكنه يجبرنا على التفكير فيما بين السطور، وأفكاره التى قدمها من خلال ما كان يكتبه.