رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صلاح جاهين.. شاعر الحلم المكسور

طاف أنحاء مصر فى طفولته رفقة والده وكيل النيابة

بداياته الشعرية كانت بالفصحى تأثرًا بـ«على محمود طه» لكن تحول إلى العامية لتقليد «بيرم»

قصيدة «مدد» توثيق فنى وتاريخى لكل أعلام الزجل

فى سن العشرين فكر فى كتابة مشروع شعرى حقيقى بدلًا من الزجل المحدود

افتتن بفؤاد حداد وقرأ ترجماته للشعر الفرنسى

كرّس للوحدة بين مصر وسوريا عبر كتابة أشعار تحمل لهجتى الشعبين

اختار العامية لأسباب وطنية لرغبته فى إيصال إبداعه إلى العامل والفلاح الأميين

هناك مبدعون يولد جمهور جديد لهم كل يوم.. يزيد عدد معجبيهم مع زيادة عدد المواليد.. يعيشون فى ذاكرة الناس طالما عاش الناس.. من هؤلاء صلاح جاهين «١٩٣٠-١٩٨٦» الشاعر والرسام والسيناريست والممثل والمنتج والمصرى حتى النخاع.. صاحب الليلة الكبيرة وخلى بالك من زوزو وأغانى عبدالحليم حافظ «صورة واحلف بسماها وبترابها.. إلخ» شاعر الحلم المكسور الذى أيقظته النكسة فتوقف عن الغناء وبدأ يكتب فى الرباعيات.. «إنسان أيا إنسان ما أجهلك».. أليس هذا الجهل هو الذى أدى إلى ضياع الحلم؟ هو ابن شبرا.. وصوت مصر فى فرحها.. وحزنها.. فى انتصارها وانكسارها.. جوال فى حب الوطن.. صاحب عبدالحليم حافظ وسيد مكاوى ومعلم أحمد زكى وسعاد حسنى وعلى الحجار.. قصة كبيرة جدًا.. ومواهب متعددة جدًا.. وحدوتة كبيرة جدًا.. فى السطور التالية ننشر دراسة هامة للناقد الكبير د. أحمد مجاهد حول صلاح جاهين شاعرًا.. ومراحله الشعرية المختلفة قبل وبعد هزيمة يونيو ١٩٦٧.. على أن نواصل فى حلقات مقبلة تقديم جوانب مختلفة من حياة صلاح جاهين صاحب الألف موهبة. 

بدأ صلاح جاهين كتابة الشعر وهو فى الحادية عشرة من عمره، و«كانت بدايته بالفصحى، وكان متأثرًا بعلى محمود طه، ثم اكتشف بيرم وهو فى السابعة عشرة، فافتتن به وبدأت محاولاته فى العامية مقلدًا لبيرم»، وفقًا لما رصده بهاء جاهين فى مقدمة الأعمال الكاملة.

والقارئ لصلاح جاهين يكتشف أن ثقافته الزجلية لم تتوقف عند حدود بيرم التونسى فقط، بل تجاوزته إلى كل أعلام الزجل ومبدعيه، كما يظهر فى قصيدة «مدد»، التى يمكن أن نعدها توثيقًا تاريخيًا وفنيًا لرواد الزجل المصرى، حيث يقول:

بيرم يا تونسى بديع أيا خيرى

مدد مدد يا شيوخنا يا أقطاب

احضرنا يا حسين يا شفيق مصرى

والنجدة يا عبدالسلام يا شهاب

والنجدة يا ابن النيل وأبوبثينة

يا سعيد يا عبده يا مصطفى يا حمام

محمود يا رمزى نظيم تعال إلينا

ومدد يا عبدالله النديم يا إمام

مدد يا عزت صقر يا خليل نظير

مدد يا شيخ يونس يا قاضى مدد

هاتوا الزجل شماريخ وصواريخ تطير

لسه الحاجات إياها مالية البلد!

والناظر للسطر الأخير من النص الذى يمثل ذروته البنائية والدلالية، يكتشف أن جاهين لا يعرف أسماء أعلام الزجل فقط، بل يدرك حقيقة دوره المتمثل فى النقد الاجتماعى الساخر، ولهذا فهو يستدعيهم جميعًا معًا من بطن التاريخ بعد أن أصبحت «الحاجات إياها مالية البلد». وبهذا يكون صلاح قد صوّر حجم تفشى الفساد فى تلك اللجظة التاريخية، دون أن يشير إليه من قريب أو بعيد.

وعلى الرغم من أن جاهين لم يتوقف عن كتابة الزجل أحيانًا طوال حياته؛ فإنه فى مطلع الخمسينيات عندما بلغ العشرين من عمره، بدأ يختمر فى ذهنه مشروع كتابة شعر حقيقى بكل معانى الكلمة بدلًا من الزجل المحدود. وكان قد «قرأ بالصدفة فى إحدى الجرائد أبياتًا لفؤاد حداد، فوجده يفعل نفس الشىء، يكتب شعرًا وجدانيًا مثقفًا بالعامية، فبحث عنه بهمة صادقة، وقرأ معه الشعر الفرنسى بلغته، حيث كان فؤاد حداد خريجًا لمدرسة الليسيه»، كما روى بهاء جاهين.

وربما كان من المناسب أن نعرف رأى جاهين نفسه فى سبب اختياره العامية، كما جاء فى قصيدته «على الربابة» التى كتبها عام ١٩٦٠، حيث قال:

ودورت على ألفاظ كما سير المكن

تدوّر تروس وتقول دروس ببيان

لقيت عمنا ابن عروس وشعره ودارجته

وفى لهجته ألحان لكل زمان

جعلته دليلى ولهجة الشعب سكتى

أغنى كما الفلاح فى الغيطان

ويتضح من المقطع السابق أن صلاح قد اختار العامية لأسباب وطنية تتعلق برغبته فى وصول إبداعه وأفكاره إلى العامل والفلاح الأميين، خاصة أن هذه الأفكار كانت تتعلق بالفكر الاشتراكى الذى يعتمد على مشاركتهما الفاعلة فى بناء المجتمع. على أن هذه الأسباب الوطنية فى اختياره العامية لم تكن لتتعارض أبدًا مع الأسباب القومية لاختيارها أيضًا، فقد كانت فكرة القومية العربية من أبرز الأفكار التى يقدمها جاهين فى قصائده للعامل والفلاح، كما أنه كان يقدمها للوطن العربى كله أيضًا فى الوقت نفسه.

فالقصيدة السابقة ألقاها صلاح فى مهرجان أبى تمام بدمشق، وكثيرًا ما كان يحاول فى قصائده ترجمة اللهجات المحلية بعضها ببعض، حيث يقول مثلًا فى قصيدة «الوحدة»:

إحنا الوحدة وأمتها

إحنا زُراع كَرْمتها

إحنا كُتاب كلمتها

إحنا الأمة العربية

كلنا روح واحدة ما بتفرق شمالية من جنوبية

وحدة أُمال إيه يا حبيبى

وحدة شولكان يا بيَّا

فموهبة جاهين جعلته يحول أحلام الوحدة السياسية بين السلطتين إلى وحدة لغوية حقيقية بين الشعبين، فمن خلال تكرار التركيب لوحدات الجملة العامية المصرية «وحدة أُمال إيه يا حبيبى»، بالصورة نفسها فى الجملة السورية «وحدة شولكان يا بيا»، جعل القارئ سواء كان مصريًا أو سوريًا يدرك دون شعور بغرابة اللفظ، عبر الارتكاز على العامل المشترك المعروف فى الجملتين «كلمة وحدة، وأداة النداء يا»، وعبر ثبات الموضع البنائى للكلمات فى الجملتين، أن «أمال= شولكان» وأن «يا حبيبى= يا بيا».

على أن ولع جاهين بالفصحى وتراثها الشعرى كان كثيرًا ما يظهر فى قصائده العامية، حتى إنه كان يقوم أحيانًا بتضمين جزء من النص الفصيح داخل النص العامى، حيث يقول مثلًا:

أحسنت فى القول صحيح يا واد يا متنبى

جبت إللى جوه الفؤاد عن مصر متعبى

وحكمت بالعدل لكن بعضنا انظلموا

«يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ»

فقد بدأ صلاح بالإشادة بالقول الشعرى المجرد عبر كلمتى «أحسنت صحيح»، ثم قام بالنداء على المتنبى بأداة النداء «يا» التى جذبته من العصر العباسى إلى الزمن المعاصر، وأتبعها بكلمة «واد» التى أخرجته من دائرة شاعر البلاط المهيب إلى الفضاء الشعبى الرحب.

ثم انتقل فى السطرين التاليين على المستوى الموضوعى إلى تأكيد أن ما قاله المتنبى قديمًا، يطابق موقف الشاعر المعاصر نفسه من القضية المطروحة مع استثناء طفيف. كما قام على المستوى الصوتى بتوحيد قافية السطر المضمن «الأممُ»، مع قافية السطر الذى يسبقه «انظلموا»، وهى قافية الميم المضمومة.

وبهذا صار الشاعر الفصيح القديم شاعرًا عاميًا معاصرًا، وصار النص الفصيح جزءًا مندمجًا فى النص العامى، يصعب فصله عنه، لولا علامات التنصيص.

وإذا كانت ألفاظ نصف بيت المتنبى الفصيح سهلة ومتداولة؛ فإن براعة جاهين فى السبك تتجاوز هذا بمراحل. فهل تخيلت مثلًا أن يصادفك يومًا فى قصيدة ما مصطلح مثل: «التراكيب الجيولوجية»؟ فما بالك لو كانت القصيدة عامية؟ حيث يقول جاهين فى مفتتح قصيدة «أرض مصرية»:

ملس بخدك ع التراكيب الجلوجية

والمس بيدك كرمشات الزمان

أحجار بهيئة ميه مغلية

معمولة هى ولا عفوية؟

من عهد آدم ولا عام الطوفان؟

ترابيزة بعد السكر قلبوها الخمورجية

مالت سبع طبقات على طبقات

والسن بارز فى السما طبقات

فقد جمع الشاعر بين التراكيب الجيولوجية وكرمشات الزمان والمياه المغلية والمائدة المقلوبة بعد سُكْر بيّن، ليصنع من أشياء عادية غير متداولة صورة شعرية مدهشة لتضاريس سيناء الحبيبة، ولهذا فلا مانع لديه من أن يتحسس هذه التجاعيد الحادة بيده بل بوجهه أيضًا، بعد أن طال شوقه لعودتها.

فلا يوجد لفظ شعرى وآخر غير شعرى، لكن خلقْ الصورة الشعرية يعتمد على القوة الخيالية لاستجابة الشاعر أولًا، وعلى المدى الذى استوعب به الشاعر المشهد ثانيًا. ولا يوجد عالم شعرى، وإنما هناك طريقة شعرية للتعبير عن العالم فى القصيدة الجيدة، سواء كانت فصحى أم عامية.

وبغض النظر عن اللغة؛ فإن علاقة جاهين بالواقع الشعبى وتراثه فى ربوع مصر كلها كانت أيضًا علاقة قوية ومتينة. فبالإضافة إلى أنه من مواليد شبرا عام ١٩٣٠، فقد «كان والده وكيلًا للنيابة ينتقل بحكم عمله كل عامين من محافظة إلى أخرى، فطاف صلاح الطفل مصر من أقصاها إلى أدناها، وشربها بريفها وحضرها، بصعيدها ودلتاها»، كما يقول بهاء. ويمكنك أن ترى هذا بوضوح مثلًا فى مسرحيته للعرائس «الليلة الكبيرة»، وفى كثير من قصائده وأغانيه.

فقصيدته الطويلة «على الربابة» التى سبق الإشارة إليها مثلًا، تبدأ بقوله:

ما غنتش يا خللى بقالى زمان

وجايب ربابتى، إنما خجلان

ولا بد قبل ما أقول أصلى على النبى

بذكر النبى يتطمن اللهفان

وكأنه شاعر شعبى حقيقى يحمل ربابته ويغنى فى القرى والنجوع.

أما فى مجال الأغنية؛ فإن أغنية «حدوتة» المثبتة فى الديوان مثلًا، تبدأ بقوله:

لو كنتى ست الحسن والجمال

يكون أبوزيد الهلالى، أنا

فى مزج شعرى معاصر بين السيرة والحكاية الشعبية، لكن نظرًا للبساطة التى يتطلبها الغناء، فقد تحولت بداية الأغنية الشهيرة إلى: «لو كنتى ست الحسن والجمال/ يبقى أمير أحلام غرامك أنا».

وحتى بعد انفتاح جاهين على الثقافات العالمية، كان يقارن فى ذهنه دائمًا بين إبداعهم وتراثنا، حيث يقول مثلًا فى قصيدة «أهل الهوى»:

عنتر من الغرب أسمر، يندهوله عطيل

ضلل على ديدمونة وشالها فى عينيه شيل

بياض عيونه لمع من ضى حلاوتها

أولاد حرام غيروه، بالغيرة موتها

والغيرة غَشوتها ما تفرق نهار من ليل

ولهذا لم يكن غريبًا أن تحمل أول أغنية له عنوان «سوق بلدنا»، ويقول بهاء عنها: «لقد كتبها فى السابعة عشرة كإعلان سينمائى عن أحد أنواع السماد، ولكن لروعة كلماتها ولحنها (تلحين أحمد صدقى) دأبت الإذاعة على إذاعتها كصورة غنائية إذاعية حتى هذه اللحظة»، وهو يقول فى بدايتها:

حلاوة زمان

عروسة حصان

وآن الأوان

تدوق يا وله

ولم يكن غريبًا أيضًا أننى عندما اتفقت مع بهاء على نشر الأعمال الكاملة لصلاح جاهين فى هيئة الكتاب، قد اخترت الفنان الكبير حلمى التونى، وهو من هو فى علاقته بالتراث الشعبى، لتصميم الأغلفة. والذى اقترح بدوره أن تحمل الأجزاء كلها عنوانًا ثابتًا مع العنوان الخاص بكل جزء، وهو «حلاوة زمان»، وكان له ما أراد.

لكن الغريب بالنسبة لى كان حجم هذه الأعمال الكاملة، التى صدرت لأول مرة فى سبعة أجزاء، يحتوى الجزء الأول منها على دواوينه الشعرية كلها ويقع فى ٥٥٢ صفحة. أما الجزء الثانى فيقع فى ٧٦٨ صفحة، ويحمل عنوان «الفوازير»، والثالث يقع فى ٧٦٣ صفحة ويحمل عنوان حكايات «هو وهى»، والرابع يقع فى ٧٠٤ صفحات ويحمل عنوان «منوعات غنائية»، ومعظمها لم ينشر من قبل. أما الجزء الخامس فيقع فى ٤٨٠ صفحة ويحمل عنوان «الأعمال المسرحية». ويحمل السادس عنوان «مسرح العرائس» ويقع فى ٢٩٠ صفحة. والسابع عنوان «مقالات ساخرة» ويقع فى ٢٠٠ صفحة.

ولا يمكننى أن أمر مرورًا عابرًا على الأعمال المسرحية دون الإشارة إلى حلم صلاح جاهين بتأليف مسرحية غنائية استعراضية، أوبرا مغناة من الألف للياء. وقد تحقق له هذا الحلم، ووصل إلى الصيغة النهائية للمسرحية مع الفنان الملحن محمد نوح قبيل وفاته عام ١٩٨٦، فى مسرحية «ليلى يا ليلى» التى قدم فيها معالجة عصرية لتيمة مجنون ليلى التراثية.

لكن لم يكتب لجاهين مشاهدة هذه المسرحية، لأنها لم تقدم فوق خشبة المسرح إلا عام ١٩٨٨ من إخراج جلال الشرقاوى، فى عرض يحمل اسم «انقلاب» بطولة نيللى وإيمان البحر درويش. وقد اختلف بطل العرض مع مخرجه، وانسحب منه فجأة قبل تصويره، لتذهب الأوبرا التى حلمنا بها جميعًا أدراج الرياح!

أما رؤية جاهين للشعر، فيمكننا أن نعرفها من أحاديثه ومن أشعاره نفسها. حيث يقول بهاء إنه كان يرى أن الفن فى جوهره نوع من اللعب، مهما عكس من مواقف سياسية وفكرية وإنسانية. ويروى أنه عندما كان والده فى السابعة عشرة، كان يجالس زكريا الحجاوى فى المقهى، فسأله: لماذا تكتب الشعر؟ فقال له صلاح: لكى أقول تارارارا.. تارارا. فابتسم الحجاوى قائلًا: فاكتب إذن. حسبتك ستقول لى لكى أعبر عن كذا وكذا.

ولكن هذا لم يمنع جاهين نفسه من السخرية من أصحاب نظرية الفن للفن، حيث يقول مثلًا فى قصيدة «السيد عبدالعاطى البيروقراطى»:

ييجى المكتب بدرى بمواعيد ظباطى

والساعة اتنين ولا ورقة تكون فى إيديه

فنان فى الشغل وفنه أرستقراطى

الفن فقط للفن، بتضحكوا ليه؟

لا تقوللى مصالح شعب ولا كلام واطى

الهدف السامى علاوة تلاتة جنيه

فعلى الرغم من رد صلاح النثرى على زكريا الحجاوى؛ فإن كل إبداعات جاهين الشعرية تنطق بالتزامه بقضايا الوطن والشعب، وإن كان يرفض الالتزام الحزبى الضيق، كما أنه لم يضح قط بجماليات القصيدة فى مقابل مضمونها. وقد كان عشقه للحرية بلا ضفاف؛ حتى إنه كان يثور على إلزام نفسه بالإبداع ذاته، حيث يقول فى رائعته «قصيدة»:

فى يوم من الأيام راح أكتب قصيدة

عن السما، عن وردة على راس نهد

عن قطتى، عن الكمنجة الشريدة

عن نخلتين فوق فى العلالى السعيدة

عن عيش بيتفتت فى أوضة بعيدة

عن مروحة من ورق

عن بنت فايرة من بنات الزنج

عن السفنج

عن العنب على الهدوم الجديدة

عن حدايات شبرا، عن الشطرنج

عن كوبرى للمشنقة

عن برطمان أقراص منومة

عن مهر واثب من على سور حديد

وف بطنه داخلة الحديدة

عن طفل بقميص نوم

عن قوس قزح بعد الصلا فى العيد

عن طرطشات البحر حاكتب يوم حاكتب قصيدة

حاكتبها وإن ما كتبتهاش أنا حر

الطير ما هوَّاش ملزوم بالزقزقة

فجاهين يكرس فى هذا النص لحرية المبدع، وحق الفنان فى أن يحلم بأن يكتب فى يوم ما عن أشياء صغيرة رقيقة وموجعة تخصه هو، بغض النظر عن علاقتها بالقضايا المجتمعية الكبرى، وله أيضًا أن يغلق قلبه عليها ولا يخبر بها أحدًا قط.

وتكمن المفارقة فى أن هذه القصيدة المغرقة فى الذاتية، أقدر فى الوصول للجمهور من أخرى تناقش قضايا موضوعية تتعلق بالمتلقى ذاته، فهى أكثر رهافة وأنصع صدقًا. كما أن العنعنات الكثيرة المتوالية فى صور القصيدة، هى بالتأكيد لم تجرح قلب الشاعر فقط وتجعله يحلم بالكتابة عنها، لكن كل قارئ سيجد بينها ما يجرح فؤاده أيضًا. وبهذا يصبح استبطان الذات طريقًا سحريًا للوصول للآخر، وربما كان أكثر فاعلية وشاعرية بالقطع من المعالجات شبه المباشرة للقضايا العامة.

قال صلاح جاهين لولده بهاء ذات يوم: «إذا ذكرنى التاريخ فسيذكرنى شاعرًا، وبالذات فى الرباعيات».

وعندما نقف على أعتاب الرباعيات، لا نملك إلا الانبهار بهذا النموذج الفذ، الذى يلزم فيه الشاعر نفسه بقيود فنية ضيقة، ليعبر من خلالها عن رؤية فلسفية عميقة، فى إطار شعرى مرهف، مفعم بالتساؤل الوجودى المدهش:

جالك أوان ووقفت موقف وجود

يا تجود بده يا قلبى يا بده تجود

ما حد يقدر يبقى على كل شىء

مع إن عجبى كل شىء موجود

وفى بعض الأحيان تتحول الرباعية كلها إلى مشهد درامى شعرى، يرصد الحركة والصوت وتعبيرات الوجه، ولا تصل فيه المفارقة الدرامية إلى ذروتها إلا مع السطر الأخير:

أنا قلبى كان شخشيخة أصبح جرس

جلجلت به صحيوا الخدم والحرس

أنا المهرج .. قمتو ليه؟ خفتو ليه؟

لا ف إيدى سيف ولا تحت منى فرس

وقد قال يحيى حقى عن رباعيات صلاح جاهين: «لم يهدد أحد اللغة الفصحى كما هددها جاهين، لأنه رفع العامية بعد أن طعمها بالفصحى وثقافة المثقفين، إلى مقام لغة ثالثة تستطيع أن تعبر عن الفلسفة شعرًا، وهذا خطر عظيم».

وأضاف قائلًا: «مع حبى هذه الرباعيات، أتمنى من صميم قلبى أن تكون عاقرًا. فنحن فى غنى عن هذه البلبلة التى لا بد أن تصيب حياتنا الأدبية».

وعلى الرغم من أننى لا أشاركه الرأى فى الشعور بهذا التهديد اللغوى؛ فإن الله قد استجاب لدعائه بالفعل، وظلت هذه الرباعيات عاقرًا حتى الآن.