رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

٧٦ سنة نكبة

محاولات لتغيير الزمان والمكان تتكرر منذ عام ١٩٤٨ حتى الآن.. ٧٦ سنة من المحاولات بكل الطرق غير الشرعية لفرض واقع جديد لتغييب أهل الأرض الأصليين عنها.. واحتلالها وصبغتها بصبغة صهيونية بعدة وسائل، منها السرقة والنهب.. القتل والدمار.. التشريد والتهجير.. ولكن هذا هو الواقع الحقيقى الذى يواجهه الشعب الفلسطينى كل يوم منذ هذا التاريخ المشئوم.

ولكنها مفارقة عجيبة، ففى بداية أربعينيات القرن الماضى حتى منتصفها تقريبًا، كان اليهود مضطهدين مقهورين فى أوروبا، يطاردهم أدولف هتلر الزعيم النازى الألمانى، تلاحقهم قواته فى كل دولة أوروبية استطاع أن يستولى عليها خلال الحرب العالمية الثانية، قتلًا وحرقًا، ولم يرحم أحدًا، طفلًا كان أو مسنًا، رجلًا أو امرأة، فقد كان يعتبرهم وباء يجب التخلص منه، وكان اليهود وعائلاتهم بالكامل ليس لديهم خيار سوى الهروب والهجرة من مكان إلى مكان، أو الموت بأبشع الطرق على يد القوات الألمانية، فقد كان الألمان يعذبونهم بأبشع الطرق والوسائل، حيث كانت المحرقة للجميع، ويسرد التاريخ قصصًا كثيرة ومآسى معسكرات الاعتقال فى أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، وأشهرها «أوشفتيز» وما يعرف بالهولوكوست، حتى لو أن هذه القصص بها مبالغة مقصودة، كما يقول بعض المؤرخين، إلا أن ذلك لا ينفى ما تعرض له اليهود بشكل حقيقى من ظلم واضطهاد فى هذا الوقت ومن قبله أيضًا، فقد كانوا منبوذين دائمًا فى أى مكان فى الغرب يعيشون فيه لأسباب دينية واجتماعية وتاريخية.

والمفارقة هنا.. كانت فى نهاية الأربعينيات عندما قرر بعض اليهود الذهاب إلى فلسطين ليستوطنوا فيها ويطبقوا النظرية الاجتماعية، التى تقول إن المقهور يفعل مثلما فعل القاهر به حينما تأتى له الفرصة، فكوّنوا عصابات صهيونية تسرق وتنهب أراضى وبيوت أهل فلسطين، وفى سبيل ذلك قتلوهم وشردوهم وطردوهم من بيوتهم، ودفعوهم للهجرة والنزوح مثلما فعل بهم هتلر بالضبط، وكأنهم ينتقمون مما تعرضوا له قبل سنوات قليلة فى أوروبا، ولكنهم انتقموا ممن لم يفعلوا بهم شيئًا، لا أتحدث هنا عن اليهودية، ولكن أتحدث عن الصهيونية، اليهود كانوا يعيشون قبل هذا التاريخ فى مصر على سبيل المثال، مواطنين مصريين مثلهم مثل المسلمين والمسيحيين بما لهم من حقوق وواجبات، وعندما تشاهد الأعمال السينمائية المصرية القديمة التى عرضت فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، تجد أن الفيلم يمثل فيه فنانون يهود بجانب الفنانين المسلمين والمسيحيين بشكل عادى جدًا، وبناء عليه تستطيع أن ترى وتتخيل أن هذه كانت صورة الشعب المصرى ومصر فى ذلك الحين بشكل عام.. كانوا جيرانًا ومعارف وأصدقاء وزملاء عمل.

ولكن الصهيونية والصهاينة شىء آخر، فهم آلة قتل ودمار واحتلال.. وعندما تعود إلى زمن النكبة تجد أن الغرب دعم وشجع اليهود على قيام إسرائيل على أرض فلسطين، والدعم متمثل بالطبع فى «وعد بلفور» عام ١٩١٧، المشهور بعبارة «وعد من لا يملك لمن لا يستحق»، وكذلك الأمريكان فمن مصلحتهم أن يعيش اليهود فى مكان واحد يجمعهم بعيدًا عن أراضيهم لأسباب كما ذكرت دينية واجتماعية وسياسية أيضًا، وفى الوقت نفسه المكان استراتيجى ليكونوا شوكة فى حلق العرب، ولذلك سعى الصهاينة لإبادة الشعب الفلسطينى منذ هذا التاريخ حتى الآن، ليمحوا اسم وذكر فلسطين ويبدلوا اسمها إلى إسرائيل، وعمل الاحتلال على هدم معظم معالم المجتمع الفلسطينى السياسية والحضارية والاجتماعية.

والنكبة هى نكبة فعلًا، لأنها ذكرى هزيمة العرب الغامضة أمام العصابات الصهيونية، وقيام دولة إسرائيل على جثث وأشلاء العرب، وتأتى هذه الذكرى هذا العام وإسرائيل تحاول تكرار النكبة مرة أخرى بشن حرب أكثر شراسة من عام ١٩٤٨ إذا نظرنا إلى التطور الكبير فى الأسلحة والتكنولوجيا والقوة العددية، وكذلك المساندة والدعم من الغرب وأمريكا، ووسائل وطرق المواجهة الحديثة، ولكن الهدف واحد وثابت لم يتغير، وهو إبادة أهل فلسطين وتهجيرهم منها واحتلالها بشكل كامل لضمان استمرار دولة إسرائيل الكيان المحتل، حرب مستمرة منذ سبعة أشهر تجاوز شهداؤها ٣٥ ألف شهيد، معظمهم من النساء والأطفال.. لم يقتلهم الرصاص والنيران الإسرائيلية فقط، ولكن أيضًا قتلهم الجوع والبرد والمرض؛ رغم محاولات مصر المستمرة لإنقاذهم وإرسال المساعدات لهم، وهى محاولات لم ولن تنتهى رغم بشاعة الحرب على حدودها.

ومنذ اللحظة الأولى، كانت القضية هى قضية فلسطينية ومصرية فى الوقت نفسه، لم يتأخر المصريون عام ١٩٤٨ عن أشقائهم وهبوا لنجدتهم.. وتحرك الجيش المصرى والمتطوعون من الشباب والرجال المصريين، وذهبوا لفلسطين للدفاع عنها، واختلط تراب الأراضى الفلسطينية بدماء المصريين، فقد اعتبرت مصر القضية الفلسطينية قضيتها ذات الأولوية، ولم تتوان أو تختفِ من المشهد إطلاقًا منذ النكبة حتى الآن، كانت مصر تحارب لاسترداد أرضها فى سيناء من الاحتلال الإسرائيلى بعد عام ١٩٦٧، وفى الوقت ذاته لم تتجاهل فلسطين، كانت تطالب بعودة أرضها وأيضًا عودة الأراضى المحتلة جميعها، سواء فى الجولان أو فلسطين، وهو ما يعرف بحدود عام ١٩٦٧، بل إنه لا توجد مرة تحدث فيها الرئيس جمال عبدالناصر ومن بعده الرئيس محمد أنور السادات عن عودة سيناء إلا واقترنت بعودة الأراضى المحتلة فى فلسطين، وبعد انتصار ١٩٧٣ كان يعمل الرئيس السادات على عودة الأراضى الفلسطينية جنبًا الى جنب مع عودة باقى الأراضى المصرية، كما تحدث عن ذلك للعالم أجمع فى خطابه التاريخى فى الكنيست عندما ذهب إلى تل أبيب منتصرًا.

مصر هى المدافع الأول عن القضية، ودورها التاريخى لا يمكن إنكاره أو تجاهله، ولا تؤثر فيه الشائعات أيًا كان مروجها، والتى تأتى معظمها من الجانب الإسرائيلى، وعلى مدار ٧٦ عامًا ساندت مصر أشقاءها سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، وشاركت فى إعادة إعمار غزة دائمًا، خاصة منذ عام ٢٠١٤ بشركات وعمالة مصرية خالصة، ولأنها تضع فلسطين من أولوياتها فقد عملت على جمع الفرقاء من داخل الصف الفلسطينى كلما اختلفوا، وكان للمفاوض المصرى دور تاريخى فى إجراء عمليات المصالحة بينهم وتقريب وجهات النظر وسد الفجوات الخلافية، ونجحت جهوده كثيرًا فى عقد المصالحة.

وبالنسبة للشعب المصرى لم يتعاطف مع قضية مثلما تعاطف مع قضية احتلال فلسطين، والمساندة والدعم الشعبى لم ينقطع أيضًا طوال هذه السنوات، ويحكى التاريخ كذلك قصصًا كثيرة عن شهامة المصريين مع أشقائهم من أهل فلسطين.