رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ردا على د.عمرو هاشم ربيع: لا عودة أو اعتراف أو تعايش لمصر مع الإرهاب دعويا كان أم سياسيا!

1- الحوار الصدمة!

حوارٌ فى منتهى الخطورة أدلى به د.عمرو هاشم ربيع لإحدى قنوات اليوتيوب معروفة الاتجاه السياسى. ومورد الخطورة هنا هو شخصية صاحب الحوار وخلفيته الأكاديمية وما يتبوأه حاليا من موقع يجعل كل مهتم بأمر هذه البلاد أن يتوقف طويلا أمام ما قاله ولا يتعامل معه كحديثٍ عابر. فالرجل هو نائب مدير مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، كما أنه أحد أمناء مجلس الحوار الوطنى. ومركز الأهرام هو مركز قومى تابع لمؤسسة الأهرام القومية العريقة وليس مركزا خاصا مثل مركز ابن خلدون مثلا!

بما يعنى أنه يدرك تماما طبيعة التغيير الحادث فى مصر منذ 2014م وحتى الآن، كما يدرك تماما طبيعة وعقيدة وتاريخ جماعة الإخوان الإرهابية، ويدرك أيضا دور المؤسسات المصرية الدينية والأمنية والسياسية ومهام كل مؤسسة، وأخيرا فهو يدرك كيف تغيرت الدول والشعوب الأخرى وانتقلت من مرحلة العصور الوسطى إلى العصور المدنية الحديثة. 

لكل ذلك أدعى أنه من تمام حقى كمواطن مصرى الرد على ما أتى به الرجل فى حواره هذا، والذى تمحور فى قضية واحدة كانت هى غاية القناة ومذيعها، تلك القضية هى كيفية عودة الجماعة الإرهابية وتصالحها مع (النظام المصرى) باعتبار أن كليهما –الجماعة والنظام – يلعبان السياسة القائمة على المساومة حسب نص تعبيره!

وقبل الرد، أود أن أعبر عن الذهول الشديد الذى أصابنى وأنا أسمع الحوار وفى ذهنى خلفيات الرجل الأكاديمية والمهنية. كان ذهولا يقارب الصدمة فى طريقة رؤيته لكثيرٍ من المفردات مثل تقبله هو شخصيا كما قال فى نصف الحوار لعودة (الجماعة الدعوية)، وانفصاله تماما عن طبيعة وواقع المجتمع المصرى وما يمكن أن يترتب على هذا القبول فى الكتل المصرية المكونة لهذا المجتمع، ومثل ما شعرتُ به من إفراط فى حسن ظنٍ لا يتفق مع ما يسبق اسمه من ألقاب مهنية، والتى لا يمكن أن تكون منهجا لتفكير نخبة أمة تريد حقا الانتقال وتطبيق وإقامة (جمهورية جديدة) تم تلخيص وصفها بأنها (مدنية عصرية حديثة)..

الانطباع الذى خرجت به أن الدكتور ما زال يعتقد أن مصر يمكنها الاستمرار فى التعاطى مع الأيديولوجيات الدينية المتطرفة والجماعات القائمة عليها بمنهج دولة نهاية السبعينات وحتى 2010م والقائم على النوم فى وكر الثعابين وعقد المساومات طريقا ومنهجا  للمضاجعة السياسية الحرام!

2- بداية الحوار رسالة مقلقة للداخل المصرى ومنحة للخارج المتربص!

فى بداية الحوار استجاب د.عمرو لغايات محدثه وأكد على ما اعتبره حقيقة، وهو اتهامٌ صريح موجه لإحدى الجهات الأمنية المصرية بوقوفها حجر عثرة أمام ما أسماه (الإفراج عن المعتقلين)، ويُفهم ضمنا من بعض عباراته وصراحة أحيانا أن المقصود بهؤلاء المعتقلين هم قيادات الجماعة الإرهابية! 

ولا يمكن أن يستنطق المذيع د. عمرو بما لا يريد قوله. وما قاله يرسل رسائل سلبية داخلية للمصريين بأن أجهزة الدولة المصرية السيادية غير متفقة على ملفات مصرية مصيرية. كما ينقل رسائل سلبية للخارج بتأكيد ما يتم ترديده والضغط به على مصر من آنٍ لآخر وهو الاتهام المعلب الذى يتم إشهاره فى وجه الدول المراد العبث باستقرارها واقتصادها، وهو الاتهام بأنها دولة قمعية يقبع خلف سجونها معتقلون تريد بعض أجهزة الدولة منحهم الحرية بينما تقف أجهزة أخرى حجر عثرة أمام ذلك!

ولا أدرى إن كانت هناك جهة ما يمكنها محاسبة الرجل على إدعاءاته ومطالبته بتقديم ما يثبتها أو أن يخضع للمسائلة القانونية طبقا للقانون المصرى.

3- الكارثة الأم فى الحوار!

فى الجزء الثانى من الحوار وردا على ما يجب أن تفعله الجماعة للعودة وأنها قد أدانت العنف فعلا، قال د.عمرو أن مشكلة الجماعة أن حديثها يسير فى غير فعلها. استبشرتُ بعباراته تلك خيرا، إلا أن هذه العبارات لم تكن سوى مقدمة لطرح ما يمكن اعتباره رؤيته الشخصية التى يقتنع بها. وهذه الرؤية هى الكارثة ذاتها التى دفعتنى –كمواطن مصرى - لكتابة هذا الرد.

تتلخص رؤيته فى نقاط محددة، إعلان الجماعة عودتها كجماعة دعوية لا تخوض السياسة إطلاقا، الاعتراف بالأحداث التى جرت فى مصر 30 يونيو وأنه شخصيا يرفض تسميتها ثورة!، اعتراف الجماعة بدستور 2012والمعدل 2014م. وأنه شخصيا يرى أن الجماعة لو فعلت ذلك فسوف يقبل النظام المصرى المصالحة وأن هذا سيكون خيرا لمصر والمجتمع المصرى من أجل إنهاء حالة التشرذم وتحقيق حالة الاندماج والتكاتف الوطنى!

ولنبدأ بالنقطة الأولى والأهم التى يرى فيها أن الجماعة ينبغى لها أن تعود كجماعة دعوية! إن كانت هذه هى قناعته الحقيقية ولا توجد خلف الحوار أى خلفيات أخرى من مساومات أو مصالح، فلا يسعنى سوى التعبير عن حزنى الشديد أن تكون هذه هى درجة وعى أحد وجوه ونجوم النخبة السياسية المصرية!

لأن أساس وجود جماعة الإخوان أو أى جماعة أخرى مشابهة هو فكرة سياسية تتسجى وتتسربل برداء الدين. وأى ادعاء بالقيام بالتخلى عن هذا الأساس السياسى لو كان حقيقيا فإنه يعنى إلغاء وجود الجماعة من الأساس! 

أو أنه يعنى إرجاء و(ركن) هذا الأساس إلى حين تقف الجماعة مرة أخرى على أقدامها وتتدارك أخطاءها وتتمكن من صياغة أدبيات خطابٍ جديد يمكنها من تغيير جلدها الظاهرى مثل الثعابين! 

فلا أساس لوجود جماعات دينية خارج منظومة المؤسسات الدينية الرسمية إلا السياسة وإلا اقتناع المنتمين لها بأن الدولة المصرية بشكلها الحالى - أو المستقبلى لو تحققت رؤية إقامة الدولة المدنية - خارج الإطار الإسلامى المطلوب! فهل لا يدرك د. عمرو هذه البديهية؟ إن كان لا يدرك فهذه مصيبة، أما إن كان يدرك فلا يمكن وصف حديثه سوى أم أنه محاولة للمشاركة فى مراوغتنا وتضليلنا نحن المصريين؟! 

هذا عن طبيعة تلك الجماعات، أما عن طبيعة وخصوصية المجتمع المصرى وتعارض تلك الخصوصية تماما مع فرضية وجود الجماعة دعويا، فهذه نقطة تدعو للاستغراب وتؤكد فكرة انعزال كثير من أفراد النخبة العقلية المصرية عن واقع وطبيعة وتركيبة هذا المجتمع وما آل إليه!

هل يتخيل د.عمرو كيفية تحقيق رؤيته على الأرض فى قرى ونجوع مصر حين يتم السماح لمقرات وتجمعات الجماعة الدعوية بالعودة لممارسة أنشطتها؟! إن هذا معناه بوضوح أننا نقوم بغسل أيدى أعضاء الجماعة من كافة جرائمها التى اقترفتها منذ 28يناير 2011م وحتى الآن، ثم بعد هذا الغسيل المجانى من الدماء والخراب نقوم بمنح الجماعة (كارت بلانش) لإعادة سيرتها من النقطة الأولى مجددا فى أوساط الريفيين والبسطاء!

ثم ماذا عن الدولة المصرية التى رفعت شعار (الجمهورية الجديدة)؟ إذا كانت فكرة عودة الجماعة هى رغبة الجماعة كما نعلم يقينا، فماذا عن رغبة وطموح وتوجهات الدولة المصرية؟

لقد رفعت الدولة المصرية شعار (جمهورية مدنية حديثة)، وفى سبيل تحقيق ذلك خاضت وطرقت أبواب لم تتجرأ على طرقها فى العقود السابقة أى إدارة مثل تجديد الخطاب الدينى الرسمى الذى تقوم به وبشكل قانونى المؤسسات الدينية الرسمية. أى أن الدولة قد قررت أن تغير العقل الجمعى المصرى بما يتفق وشخصية الجمهورية الجديدة وشخصية مصر الحقيقية المتعارضة مع وجود جماعات دينية أيدلوجية. 

فهل دولة هذا توجهها وهذه رؤيتها بحاجة إلى وجود أى جماعة دعوية قطاع خاص تمنحها حق العبث بعقول المصريين، هذا إن افترضنا جدلا وعلى خلاف الحقيقة أن جماعة الإخوان ستتحول بلمسة سحرية إلى جماعة دعوية دينية؟!

هل يريد الدكتور العودة بمصر مرة أخرى إلى واقع مساجد الأوقاف وزوايا الجماعة بطول مصر وعرضها؟!

وهل المصريون أنفسهم فى حاجة إلى تكرار مسلسل الجماعة مرة أخرى؟ أم أنهم فى حاجة حقيقية للتطهر مما علق بعقولهم عبر العقود من أفكار ضالة دفعت مصر ثمنها غاليا جدا دما واقتصادا وخصما من إرثها الحضارى؟! 

إن دكتور عمرو بصفته أستاذ للعلوم السياسية فى حاجة للبحث عن إجابات حقيقية لهذه التساؤلات حتى يدرك ماذا تعنى دعوته!

4- ما معنى دولة مدنية؟ومدى تعارض أهداف الحوار مع شخصيتها؟!

إن من تمام صياغة شخصية أى دولة مدنية ألا تسمح تلك الدولة بوجود (دولة الظل الدينية) التى يمكنها تحريك جموع الجماهير فى مواقف معينة، والتى يمكنها أن تمثل ضغطا جماهيريا يدفع تلك الدولة المدنية لاتخاذ مواقف لا تمثلها أو ترضاها. فلا دولة داخل الدولة فى مصر بعد اليوم!

ومن تمام مدنية أى دولة أن يقتصر وجود شخصيات أو كيانات دينية تقوم على إقامة الشعائر الدينية والوعظ على من يحملون صفات رسمية حكومية ويقومون بالالتزام بشخصية تلك الدولة. لأن السماح بغير ذلك سوف يقود إلى نتيجة حتمية طويلة المدى وهى انتكاسة المشروع التنويرى للدولة لصالح أخطبوط الفكر المتطرف المتجذر بالفعل فى كثير من بقاع مصر الجغرافية. 

فمصر فى مرحلتها الحالية بحاجة إلى العكس تماما مما يطرحه أستاذ العلوم السياسية ونائب مدير مركز الأهرام! مصر بحاجة إلى مديَنة نفسها، وتصويب خطابها الدينى الرسمى، وتحرير عقول جماهيرها من أى أفكار غرُست بها، ومن أى سيطرة محتملة لأى مجموعة أو جماعة ترفع شعارات دينية وتفوح رائحة الدماء الحرام من كل كلمة من كلمات أعضاء تلك الجماعة سواء كانت كلمات دينية أو سياسية!

مصر إلى الآن مازالت تحاول حثيثا السيطرة على ما يقال ويصب فى عقول المصريين فى الخطب الدينية الرسمية أو دروس المساجد الرسمية أو حلقات الكتاتيب. ومن يتابع عن كثب تفاصيل وتطورات هذه المحاولات يدرك جيدا أن الطريق مازال طويلا أمام المصريين لبلوغ غايتهم. فدولة تخوض مثل تلك المواجهات الذاتية هى قطعا ليست فى حاجة إلى الارتداد للخلف وفتح أبوابها مجددا لقطعان الثعابين!

5- مصر لا تبيد أحدا يا دكتور وهذا هو البديل!

من أغرب ما ورد على لسان د.عمرو هو اعتقاده أن عودة الجماعة بهذا الشكل حتمية مبررا ذلك بتساؤلٍ غريب ..قائلا نصا ..أعضاء الجماعة هنعمل فيهم إيه يعنى نبيدهم؟!

لا يا سيدى فمصر (الدولة والشعب) لها من الإرث الأخلاقى والقيمى ما حال دون قيامها بإبادة من اعتصموا يوما حاملين السلاح فى وجهها! لكن لا يعنى هذا أن يكون البديل هو إرغام تلك الدولة على تجرع كأس الإرهاب رغما عنها، بل وتُرغم تلك الدولة على منح إرهابيين فرصة لم شملهم مرة أخرى! 

البديل المنطقى هو أن يتحول من أراد من أعضاء ذلك الجسد الفاسد إلى مجرد مواطنين عاديين، يخضعون لقانون الدولة، ويُمنعون بحكم هذا القانون من تكوين أى كيانات دينية موازية للمؤسسات الدينية الرسمية!

هم مجرد مواطنين عليهم أن يفيقوا من أوهام تميزهم الدينى عمن سواهم من المصريين، وأن يفيقوا من أوهام أنهم حملة مشاعل التقوى والهداية لباقى المصريين، فلا أحد يهدى أحدا، وإنما مؤسسات دينية رسمية تقوم بأدوار محددة لإقامة شعائر الدين، كما أن ما يقرب من تسعة عقود تكفى تماما لأن يحكم المصريون على هذا الجسد الفاسد حكما نهائيا بالبتر! 

على أعضاء هذا الجسد أن يتوافقوا مع هوية الدولة وشخصيتها وأن يخضعوا لدستورها وقانونها وليس العكس! ليس على دولة دفعت تلك الأثمان الباهظة أن تُجبر هى على قبول خزعبلات الجماعة الضالة!

على أعضاء الجماعة أن يعيشوا فقط كمواطنين، وإن أرادوا ممارسة أنشطة سياسية فليمارسوها كمواطنين مصريين لا كأعضاء فى جماعة أيديولجية. وحسب القوانين المصرية وحسب سجل كل عضوا وإن كان قد ارتكب عملا ما يوما يمنعه من ممارسة تلك الحقوق أو لم يرتكب!

6- إصرار الدكتور على فكرة الانقسام بين أجهزة الدولة !

فى الجزء الأخير من الحوار يخوض د. عمرو فى مسألة بالغة الحساسية والخطورة. فتماما كما بدأ حواره بالموافقة على ما أتى به محدثه عن انقسام بين الأجهزة المصرية السيادية فى قصة من أسماهم بالمعتقلين من قيادات الجماعة الإرهابية، فهو قد أنهى حديثه بالجزم أن هناك من يرغب من رجال الدولة – عكس رغبة أجهزة أخرى داخل تلك الدولة- فى إتمام تلك المصالحة على هذه الأسس التى يأتى على رأسها عودة الجماعة للوجود الشرعى كجماعة دعوية!

لو افترضنا أن لدى الدكتور عمرو من المعلومات ما دفعه لقول ذلك، فهو لم ينتبه لحقيقة مهمة. أن وجود بعض من يتبوأون مناصب مهمة فى الدولة ولديهم قبول لتلك الفكرة، فهذا لا يلزم الدولة بشىء! 

ففى أى دولة قد يوجد من المسؤلين من لديه رؤية شخصية مختلفة فى قضية ما سواء بدافع المصلحة الخاصة، أو القناعة الذاتية أو الانخداع مثل عوام الناس، أو حتى تنفيذا لأجندات خارجية. لكن لكل دولة رؤيتها المؤسسية الشاملة التى تُبنى حسب طموح تلك الدولة لمستقبلها ومستقبل مواطنيها. وهؤلاء الأفراد من ذوى الرؤى المختلفة- إن وجدوا حقا فى الحالة المصرية- لا يلزمون الدولة المصرية بشىء!

ويبقى فى تلك النقطة التزام أخلاقى ومجتمعى على د.عمرو، وهو إلزامه بتقديم ما يثبت ما قاله واتهم به الدولة المصرية. لأن ما قاله جد خطير، ويثير لدى العامة ممن هم مثلى مخاوف حقيقية من النظرة العقلية الجمعية لكبار رجالات للدولة المصرية لفكرة تقبل وجود جماعة دينية سياسية يعلمون جيدا أنها قررت وضع مسحوق تجميل دينى مؤقت، ومدى الجدية التى تعتزمها الدولة فى السير قدما فى طريق إقامة دولة مدنية عصرية!

فى تلك النقطة يلفت النظر أن الدكتور وطوال الحوار أيضا يتجاهل تماما رؤية ورأى جموع الجماهير من عوام المصريين، ويصر أن هناك فريقان فقط، النظام والجماعة! وكأنه نسى أكثر من ثلاثين مليونا من تلك الجماهير التى خرجت إلى الشوارع حتى أطاحت بالجماعة الإرهابية! وكأنه نسى أن لتلك الملايين كلمتها ورؤيتها ومشاعرها التى تعرفها الدولة جيدا ولن تضرب بها ولا بهم عرض الحائط عند بحث أى شأن يتعلق بتلك الجماعة المارقة!

7-هذه هى التكلفة التى تتجاهلها يا دكتور!

ينهى د.عمرو حديثه بفكرة طرحها وكأنها مسلمة لا يأتيها الباطل، حيث يقول أن فكرة المصالحة المجتمعية بهذا الشكل الذى طرحه – والذى يمنح مكاسب عظمى للجماعة بشرعنة عودتها وغسل أيدى أعضائها من الدماء بالإفراج عنهم- لن يكلف الدولة شيئا مما تتكلفه فى ميادين أخرى اقتصادية أو سياسية! ثم يقول مازحا دى حاجة ببلاش كدا!

ومرة أخرى لا أستطيع إخفاء اندهاشى من تناول قامة أكاديمية رسمية مهمة لقضية كبرى بهذا الاستخفاف كمن يزين الخطيئة السياسية للمصريين!

عفوا يا دكتور..هذا ليس صحيحا على الإطلاق، بل هذا الطرح هو من قبيل المغالطة والتضليل الصريح. فهذا الطرح إن تم الأخذ به يوما سوف يكلف مصر أكثر مما تكلفته ويمكن أن تتكلفه فى شتى المجالات.

سيكلف الدولة المصرية فقد ثقة كثيرٍ من المصريين ممن عاصروا العقد الأخير بكل جرائم الجماعة وخيانتها الصريحة لمصر..

سيكلف مصر النكوص على أعقابها فى ملفات مجتمعية كبرى أولها ما تم إنجازه فى ملف الخطاب الدينى وملف المرأة..

سيكلف مصر تسليم مناطق بأكملها لأعضاء الجماعة للسيطرة على العقول خاصة الصغار ممن لم يعاصروا المشاهد الأخيرة حتى تفاجأ مصر بعد سنوات بأخطبوط دموى أكثر شراهة مما تم السيطرة عليه..

سيكلف مصر خيبة أمل ذوى الشهداء من أمهات وأبناء وزوجات حين يرون أن مصر قد مدت أطواق النجاة لمن قتلوا ذويهم ولو بكلمة أو ممن احتفلوا بقتلهم..

سيكلف مصر محنا أخرى تعصف باقتصادها ويستنزف جهد السنوات الماضية..

سيكلف مصر اقتطاع جزء من ثروتها ومنحه لكبار رجال أعمال الجماعة الإرهابية حين يعاودون أنشطتهم التجارية..

قد لا يتسع المقام هنا لذكر قائمة التكلفة كاملة، لكن الدكتور ومن يعتقدون معتقده يمكنهم أن يراجعوا قائمة تكلفة مصر فى السنوات العشر الأخيرة من دماء واقتصاد وحضارة، ثم يُعملون خيالهم لما يمكن أن تكون عليه التكلفة الجديدة بعد أن تكون الجماعة قد استوعبت أخطاءها التكتيكية وغباء قياداتها واستبدلتهم بمن هم أكثر ذكاءً من قيادات الداخل أو أكثر سخاءً من رعاة الخارج!

8- دول الخليج وضغوط الخارج والمساومات!

فى الجزء الأخير أيضا من الحوار يصرح د.عمرو بوضوح أن هناك ضغوطا قد يمكنها أن تقنع الدولة المصرية بالموافقة على طرحه هذا. وأن هذه الضغوط تأتى من بعض دول الخليج ومن تركيا!

وهل مصر لم تتعرض لضغوط عاتية بعد ثورة 30 يونيو مباشرة؟! ورغم تعرضها آنذاك لتلك الضغوط مع وجود مئات الآلاف من قطع الأسلحة فى أيدى ميليشات مصرية أجنبية على حدودها الشرقية والغربية، ورغم تعرضها لتهديدات وجودية، وفرض حصار اقتصادى ودبلوماسى، ورغم ورغم.....فهل رضخت مصر ساعتها لتلك الضغوط حتى ترضخ الآن بعد أن خاضت معركتها وحققت انتصارها؟!!

وأى دول الخليج تقصد؟ لقد عضدت أهم دولة خليجية – السعودية- موقف مصر وثورتها ومعركتها الشريفة ضد الإرهاب. وهكذا كان موقف الإمارات وهما أهم حليفين لمصر فى السنوات الماضية. فمن تقصد من دول الخليج؟ وما نوع تلك الضغوط؟ وماذا يريدون من مصر إن صدقت تلك الرواية؟!

هل يريدون أن يلبسوا مصر الرداء الذى أعلنوا جميعا خلعه فى الشهور الماضية؟! لقد تبرأوا جميعا مما اقترفوه فى العقود السابقة وأعلنوا نبذهم وكفرهم بكل تلك الأفكار التى كانت الأساس الذى قامت عليه جميع الجماعات الضالة المضلة..فهل يريدون أن تتجرع مصر الكأس مرات أخرى؟ وإن حدث هذا فعلا، فهل ترضى أنت لمصر ذلك يا د.عمرو؟!

وهل رضخت مصر فى ذروة محنتها لأطماع وضغوط الأتراك حتى ترضخ اليوم؟!

يتحدث الدكتور عن (المساومات) بين النظام المصرى والجماعة بكل أريحية بشرعية أن الطرفين يلعبان سياسة، وأن السياسة هى لعبة المساومات!

لن أتحدث هنا عن ارتكاب الجماعة ممثلة فى قياداتها العليا لجريمة الخيانة العظمى (مؤتمر مرسى للتآمر على إثيوبيا على الهواء مباشرة- ضبط أوراق سيادية فى طريقها لخارج مصر- التآمر لاقتحام الحدود- الشروع فى إقامة مخيمات لاجئين فى سيناء- التورط فى اغتيال عناصر من القوات المسلحة ..)

ولن أتحدث عن مئات الجرائم فى شهور قليلة ضد أماكن عبادة مسيحية مصرية، أو مشهد استاد القاهرة يوم السادس من أكتوبر، أو اغتيالات ضباط وجنود الشرطة المصرية، أو اغتيال النائب العام......

لكننى سأتحدث عن الفارق بين المساومات السياسية المشروعة وبين المساومات الحرام على الأوطان والشعوب!

المساومة السياسية المشروعة تكون بين قوى سياسية جميعها يعمل بطرق شرعية مشتركة لا تختلف إحداها على المبادىء العامة القائمة عليها الدولة. فلا مساومة مع جماعة لا تؤمن بالأساس بفكرة وشرعية الدولة القائمة!

يمكن أن تحدث مساومة أو تفاوض بين دولة ودولة بعد نهاية حرب ما، لكن لا يمكن أن تأتى دولة بجماعة إرهابية قتلت وحرقت وخانت فتساومها رأسا برأس! ساعتها لن تكون مساومة بل إعلان هزيمة ورضوخ من الدولة!

الذين هتفوا يوما فرحا لاعتقادهم بتحرك أسطول أجنبى لمهاجمة الدولة لا يمكن اعتبارهم بين عشية وضحاها جماعة دعوية أو قوة سياسية تساومها نفس الدولة!

لا مساومات يا سيدى بين الدول وبين الجماعات التعبوية القائمة على أسس دينية إلا فى حالة واحدة لا أعتقد أنها متجسدة فى الحالة المصرية الراهنة. هذه الحالة أن تكون الدولة فى ذروة ضعفها ولا حول ولا قوة لها، وأن تكون بلا رؤية أو أهداف أو منزوعة الشرعية الشعبية!

أما إن كانت الدولة قوية تستند إلى شرعية شعبية ولها رؤية مستقبلية واضحة وطموحات لنفسها ولشعبها، ففى تلك الحالة تعتز الدولة بكرامتها وشخصيتها وتنأى بنفسها عن ذلك السقوط، وتنأى بشعبها عن تقديمه لقمة سائغة لأى جماعة من تلك الجماعات! وتفرض قانونها وشخصيتها على جميع مواطنيها لا يفرق بينهم سوى القانون المدنى الشرعى !

9- كلمة النهاية!

بقيت كلمة أخيرة أوجهها –كمواطن مصرى- للنخبة العقلية المصرية وليس للدكتور عمرو فقط....

بالله عليكم اتركوا أبراجكم الأكاديمية الزجاجية وانزلوا إلى أزقة مصر وحواريها ونجوعها ومساجدها المنزوية فى حقلٍ هنا أو شارعٍ هناك..

استمعوا فقط وأنصتوا لما يُقال بين الناس، وتفهموا طبيعة وتكوين العقل المصرى الجمعى، وكيف استوغلت به واستبدت بمناطق كبرى منه أفكارٌ وعقائدٌ بالية فى منتهى التعصب والتطرف كان للجماعة الأم وأبنائها الشرعيين وغير الشرعيين الباع الأكبر فى هذا الإنجاز الأسود..

حاولوا أن تستوعبوا ما تحتاجه مصر حقيقة للخروج الكبير من حقبة تاريخية لحقبة أخرى بدلا من أن تحاولوا قيادتها قسرا إلى الوراء! 

اعرفوا قدر مصر الحقيقى وشخصيتها الحقيقية وقوتها التى أدركها الجميع حتى تدركوا أين تضعون أقدامكم وتزنون كلماتكم بميزان الذهب الذى لا يليق بمصر سواه..

استوعبوا ما تقوم به مصر الآن من تغييرات، أخطرها وأهمها محاولة الدولة المصرية النهوض بالعقل المصرى الجمعى عبر تصويب الخطاب الدينى وتطوير منظومة التعليم، وإنشاء جامعات جديدة تخاطب العقل..استوعبوا آمال الدولة المصرية المعاصرة..لأنكم إن فعلتم ذلك فلن تهوَ كلماتكم أو تتقزم أفكاركم أو تصغر مصر فى عيونكم فتضعونها رأسا برأس مع جماعة إرهابية!