رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نور الشريف.. الباحث معنا عن سيد مرزوق

البحث عن سيد مرزوق
البحث عن سيد مرزوق

فيلم "البحث عن سيد مرزوق" 1990، يبدو فيلم فريد للغاية ومختلف للغاية في تاريخ ومشوار كل من مخرجه داوود عبد السيد، وبطله الفنان الكبير نور الشريف، فيلم كان لا بد من وجوده في مشوار فنان مثل نور الشريف، الفنان المثقف الواعي لأهمية الفن المدرك لدوره جيدًا، المتنوع في شكل ومضمون ما يقدمه واختياراته الفنية.. التي يعبر من خلالها عن همومه، وهموم مجتمعه، ليبرز من خلال أعماله مراحل تحول المجتمع، وسنوضح الآن لماذا كان فيلم البحث عن سيد مرزوق لا بد من وجوده في مشوار نور الشريف.

الرمز ودلالاته في فيلم "البحث عن سيد مرزوق" - eye on cinema
البحث عن سيد مرزوق


يمكننا تقسيم الفيلم إلى جزأين، ومجتمع الفيلم إلى مجتمعين، بالرغم من أن الفيلم لم يتجاوز التسعون دقيقة، إلا أنه غني بالتفاصيل الفنية، ففي الجزء الأول والذي يمكن اعتباره بمثابة قصص قصيرة، يتعرف المشاهد على قصة الفئة المهمشة المطحونة داخل المجتمع، قصة الشخص الذي يريد ثلاثون جنيه يوميًا لكي ينقذ بنته المولودة من الموت ويضعها في الحضانة، وقصة الشخص الذي يسير في الشارع مقلدًا شارلي شابلن.

الرمز ودلالاته في فيلم "البحث عن سيد مرزوق" - eye on cinema
البحث عن سيد مرزوق


ثم نتحول في الجزء الثاني إلى المجتمع الآخر والذي يتحكم فيه سيد مرزوق، نرى داخل الفيلم وفي أول لقاء بين يوسف كمال بطل الفيلم الذي لعب دوره نور الشريف، وبين سيد مرزوق، أن أول كلمة قالها سيد كانت كذبة، ولكن أثناء سير سيد مع يوسف سيتضح للأخير أن لا فارق بين الكذب والحقيقة في دنيا سيد مرزوق، وإنه سيصدق الكذب لأن لا وجود لخيار آخر، وحين يدرك الحقيقة سيصبح مطارد. ولكن في المشهد التالي لمشهد تعرف يوسف بسيد حين يركب يوسف السيارة بجوار سيد ينقل داوود الكاميرا ليجعلنا نرى عمارات شاهقة، فاخرة، ينظر إليها يوسف بتعجب. كأنه ينتقل من عالم إلى عالم آخر.

فيلم (البحث عن سيد مرزوق) نور الشريف ـ لوسي ـ إخراج/داوود عبد السيد | اكتب  كي لا تكون وحيدا
البحث عن سيد مرزوق


ليكون المشهد التالي هو لقاء يوسف بسيد في المقابر، سيد يذهب للمقابر لكي يغيب عن الواقع، ربما ليلتقي بنفسه، نراه يقول متذكرًا مشاهد متفرقة من حياته، عن خوف عائلته من التأميم في عهد ناصر، وبالرغم من علاقة عائلته المترابطة مع عبد الناصر، إلا أن هذا لم يمنعهم من أن يتعرضوا للتأميم.


حتى الآن هل رأيت ما يقدمه الفيلم من تحليل للواقع الاجتماعي وتحوله في مصر من عهد ناصر لعهد السادات؟ 
إن سيد مرزوق ببساطه هو واحد من ملايين أصبحوا أسياد المجتمع، بعد الانفتاح الاقتصادي الذي قام به السادات في سبعينيات القرن الماضي، وكأن داوود عبد السيد يريد أن يقول لنا إن من تعرضوا للتأميم لتحقيق العدالة في زمن ناصر، عادوا أكثر توحشًا وأكثر فسادًا ليتحكموا ويتعاونوا مع الشرطة والدولة لتحقيق مكاسبهم، بل يدهسوا في طريقهم البسطاء.. الذين لا يريدون من الدنيا إلا الابتسامة مثل عبد الله شابلن داخل الفيلم.
هل هذه هي كل الإشارات السياسية والاجتماعية داخل الفيلم؟ بكل تأكيد. لا. سيواصل داوود عبد السيد في فيلمه التعبير عن وضع الإنسان في وطنه وفي الدنيا من خلال الممثل الموهوب الكبير نور الشريف.

صورة 33 من فيلم البحث عن سيد مرزوق - الدهليز - قاعدة بيانات السينما المصرية  والفنانين
البحث عن سيد مرزوق


لترى معي هذا المشهد الذي ذهب فيه يوسف مع الشرطة أثناء مداهمة أحد المجرمين، في الخلفية تبدو ثمة اتفاق بين الشرطة وبين هؤلاء المجرمين الذي يعتبر سيد مرزوق واحد منهم، ولكن في هذا المشهد حيث تفتح الشرطة النار على المجرمين والعكس، نرى يوسف أو نور الشريف في واحد من أمتع المشاهد يقف ويلوح في ذعر بقماشة بيضاء دليل على استسلامه، فهو لا يريد سوى العيش بسلام لا يعنيه شيء من هذا كله،  عن طريق أداء نور الشريف في هذا المشهد نرى وكأن يوسف تم إقحامه داخل هذه الحرب التي لا ناقة له فيها ولا جمل، ومع ذلك يصاب يوسف وتصل إليه رصاصة كادت أن تنهي حياته، في حين أن لم يكن هناك أحد من رجال الشرطة أصيب أو حتى المجرمين.


يبدو مشهد يوسف وهو يلوح بالراية البيضاء عبثي للغاية وهزلي للغاية، يصل إلى حد الكوميديا ولكنه عميق، عميق جدًا، وكاشف للغاية.


يوسف ذهب مع الشرطة في تلك المداهمة لأنه مقبوض عليه عن طريق الخطأ، والكلبشات في يده، ولا يستطيع فكها، ولكن في هذا المشهد حيث يوسف وهو مقيد في الكلبشات لا يستطيع نيل حريته، نرى الضابط وهو يأتي إليه ليقول له فقط، ضم أصابعك فيضم يوسف أصابعه فتخرج الكلبشات مع يده بسهولة ويسر، ربما شعور يوسف بالقهر هو ما جعله لا يظن أن نيل الحرية يكون بهذه البساطة.


ولكن حين نسير ونتعمق في تفاصيل الفيلم نعرف أن يوسف شخص معزول بطبيعته، مغيب عن الواقع ولا يدري شيء عنه، فقد جلس عشرون عام في المنزل لا يغادره خوفًا من فوضى المظاهرات التي قام بها الطلاب، ربما هي المظاهرات التي قام بها الطلاب عقب النكسة بعام. 
هل داوود يريد أن يقول من خلال هذه الإشارة التي ستتكرر بعد ذلك في فيلم "أرض الخوف" أن يوسف كمال وملايين غيره دخلوا في غيبوبة بعد النكسة؟


يوسف الشخص البسيط، الذي انعزل عن الواقع بشكل تام، وبإرادته، وحين يستيقظ يرى مجتمع آخر غير الذي تركه قبل أن ينام، ولذلك كان أول ما نراه ونسمعه في الفيلم هو صوت المنبه الذي جعل يوسف يستيقظ.


 في مشهد نرى سيد مرزوق وهو يقوم بالتحدث عن أنواع البشر قائلا إن هناك ثلاث أنواع، ولكن أكثرهم خطر النوع الرابع المشاغبين الذين يجب أن يعيشوا في حالهم ولكنهم لا يريدوا ذلك. ويرفضوا طاعة أولي الأمر وأسياد المدينة ومنهم سيد مرزوق. ويجب على يوسف وغيره أن يناموا، وينعزلوا، ولا يستيقظوا أبدًا.


في مشهد آخر وبينما سيد مرزوق يقود السيارة وهو يضحك بصوت عالي، عالي للغاية، يدهس في طريقه عبد الله شابلن، الشخص الذي قال في بداية الفيلم إنه لا يريد سوى إسعاد الآخرين، يسير في الشارع مقلدًا شارلي شابلن لكي يرسم البسمة على وجوه الناس فقط، ويعتبر أن في هذا أجره.


ولكن في اللحظة التي يدرك فيها يوسف أن سيد مرزوق ما هو إلا شيطان يجب التخلص منه، وهذه أيضًا نقطة هامة، وهو الإشارات الإنسانية والوجودية داخل الفيلم الذي لا يكتفي فقط بشرح الحالة والواقع الاجتماعي والسياسي لمجتمع بعينه بل ينطلق ويتحرر ليشمل الإنسان بشكل عام، كعادة أفلام داوود عبد السيد، فإننا يمكن أن نعتبر ومن خلال الحديث الذي يقال عن سيد مرزوق طوال الفيلم أن نرى أو نظن أن سيد مرزوق ما هو إلا الشيطان، ولكن في النهاية حين يقرر يوسف كمال قتل سيد مرزوق لأنه عرف الحقيقة، يصبح طريد، لينتهي الفيلم وتنتهي قصة البطل، بأنه أصبح مطارد من الشرطة.. فقط لأنه أراد قتل الشيطان والتخلص من أسياد الشر ومنهم سيد مرزوق. يصبح يوسف مطارد فقط لأنه أستيقظ، في الوقت الذي يجب أن ينام فيه الجميع.