رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الروح الفرفوشة»: سيمون.. التى غنت بالجينز فى زمن «السواريه»

سيمون
سيمون

هى التى ابتكرت مصطلح «الروشنة» منذ الثمانينيات.. وغنت بحرية لم تعرفها ممثلات جيلها

الصدفة وضعتها على طريق النجومية حينما لجأوا إليها لتعويض غياب مطرب عن إحدى الحفلات

تُقدر الكرامة فى الحياة والفن.. ولا تفرض نفسها إنسانيًا ولا فنيًا لا تحضر على الساحة الفنية لمجرد الوجود أو الكسب المادى

فى بقعة نائمة على كتف نيل الزمالك، صالحة لأن تكون مكانًا للصيد أو التأمل أو مناجاة العاشقين وقت غروب الشمس، فى مفارقة صارخة ككل متناقضات هذه المدينة العجيبة، يموج من فوقها سيل متدفق من السيارات وصخب مدينة القاهرة الذى لا يتوقف، تتداخل فيه أصوات شتى كمزيج فريد تتشابه فيه جميع العواصم المزدحمة.

أسفل كوبرى ١٥ مايو، وبالتحديد فى ساقية الصاوى الثقافية، فى قاعة اسمها «الحكمة» التى توحى من اسمها أنها ملتقى للمؤتمرات والندوات، تتمثل فى الذهن صورة ملابس رسمية وأربطة عنق، لكن استضاف مسرحها صوتًا آتيًا من نوستالجيا التسعينيات التى شهدت جنونًا وجموحًا بدأته مجموعة من الفنانين الشباب الذين اتحدوا جميعًا على هدف واحد، رغم «فردانية» تجاربهم الخاصة وتمايز مساراتهم ومآلاتهم، هو كسر المألوف والبحث عن صوتهم المميز الخاص من بين كل الأصوات الممتزجة فى سماء القاهرة. 

أحدثوا انقلابًا فنيًا وثقافيًا كحجر ألقى فى بركة ماء آسنة مُحدثًا موجات متتابعة، ارتبطوا أيضًا ببعض من جيل مخرجى سينما الواقعية الجديدة فى السينما التى وثّقت لهذا الجيل من الأصوات الشابة على الشاشة البيضاء، سوف يظل صدى هذه الموجة مدويًا ممهدًا الطريق لأجيال اتخذت منهم مرجعًا لسيل من التجارب الشبابية لن يتوقف منذ ذلك الوقت. 

أعلنت الساقية عن حدث مهم، عودة «سيمون» لحفلات «اللايف» بعد توقف عن الغناء امتد لسنوات.

هذا الخبر المفاجئ المصاحب لإصدارها عددًا من الأغنيات السنجل مؤخرًا على «يوتيوب» مواكبةً منها لتكنولوجيا الجيل الحالى. هى التى لا تلهث أبدًا وراء الوجود والظهور الفنى المكثف بلا قيمة حقيقية تقدمها، فتفضل الاعتكاف منطوية على تاريخ مميز حافل بالإنجازات التى لم تقصدها ولم تدبر لها، هى تعرف فقط ما الذى تريده عندما يُعرض عليها، لكنها لا تخطط ولا تبادر ولا تدير مشاريع فنية. «سيمون» التى تتعامل مع الفن بمنطق الهاوى المتلذذ بما يحب، كطفل يلعب لعبته المفضلة. 

أسعد هذا الخبر كل المنتمين بمراهقتهم لهذا الجيل أو من مواليده الذين يبلغون اليوم منتصف عقدهم الثالث، وأنا منهم، كبروا على تلك الثورة الفنية، واكبوها فأصبحت موازية لأعمارهم وجزءًا لا يتجزأ من مخيلتهم وذاكرتهم الجمعية، عندما كان إعلام القنوات الأرضية المحدودة وشرائط الكاسيت والبوستر المصاحب لها فى الأكشاك يضمنا جميعًا.. 

استقبلت الساقية «الست» سيمون- بالنسبة لجيلى هى أم كلثوم الجيل، الديفا- صوت غنائى خطّ موضة وصيحة خاصة تطلعنا إليها جميعًا فى صبانا كنجمة نسعى لتقليدها شكلًا وموضوعًا.. الصوت الذى قوبل وقت سماعه فى فضاء المدينة وأثيرها باندهاش مشوب ببعض الاستهجان من بعض جيل الكبار الذين اعتبروا هذا اللون الغنائى بمثابة الكفر البواح بالنغم الطربى الشرقى، المصحوب بصورة مختلفة عن الفنانة الأنثى التى كانت فى عهود سابقة تقف كتمثال جميل منمق من خلف المايك، وإن تمايلت بمجرد رأسها أو أعادت مقطعًا من الأغنية بغنج ودلال على استحياء، يضج المسرح بالصيحات.

بينما تلك الفتاة الشابة المتفوقة اللبقة درست بلغات أجنبية فى جامعة مصرية والجامعة الأمريكية فى عامها الجامعى الأول، تتحرك فى خفة وشقاوة راقصة بمرح على مسرح مُدرَّج علوى بجامعة عين شمس، عندما دفعها زملاؤها لتنقذ موقفًا عندما تأخر مطرب الحفل، كصدف السينما التى حدثت فى أفلام عبدالحليم حافظ، مرتدية الجينز الذى كان موضة عالمية و«تيشيرت» بسيطًا، شعر مُطلَق على سجيته ووجه خالٍ من الأصباغ ومساحيق التجميل، وحاجبان كثيفان متصلان لم ينفصلا على مدار رحلتها الفنية. هذا الشكل الذى أراد المنتج الموسيقى طارق الكاشف ألاّ يتغير عندما قدّم له الشاعر جمال عبدالعزيز هذه الفتاة المعجزة المنتمية للثقافة الغربية بمصرية أصيلة. سرح قليلًا كأنه تخيلها فى لحظة، وقال لها: أنت نجمة الجيل القادمة، هذا المعنى الحقيقى لصناعة النجم بهوية فنية وبصرية، وربط المستمعين به شعوريًا وعاطفيًا، أراد «الكاشف» أن تكون «سيمون» أيقونة الجيل التى تتطلع فتيات جيلها لتقليد «استايلها»، نعم كانت سيمون «ستايلش»، وعندما سادت كلمة «الروشنة» فى جيلنا فقد كانت تنطبق على «سيمون» كأن الكلمة صيغت على شخصيتها، «الفككان» كما يطلق الجيل الحالى، فى مرحلة متقدمة من مشوارها «ماشية وساعتى مش مظبوطة ولفين رايحة مكنتش عارفة لكن ماشية وأنا مبسوطة ماشية بخطوة مهيّاش خايفة.. فجأة لاقتنى قصاد كافتيريا..» هذا النوع من التداعى الحر للأفكار كأنها تخاطب نفسها، فتاة جريئة تمشى واثقة الخطى بمفردها تتسكع أمام فاترينات المحلات، وعندما «تطق» فى دماغها تدخل الكافتيريا لتراقب الجالسين والمارة، تشاركك مشاهداتها وتصحبك معها فى تجوالها، «تعيشّك فى دماغها». كل ذلك كان ثورة حقيقية، ومظهرًا جديدًا تمامًا للفتاة الحرة.

كان ألبومها الغنائى الأول «تانى تانى» عام ١٩٨٨ مقتبسًا من ألحان أغنيات عالمية لفرقة moderntalk وغيرها بكلمات مصرية مختلفة وجديدة على موضوعات الأغنية العربية. كما أنتج لها أول فيديو كليب فى العصر الحديث «تاكسى»، وكان للتليفزيون المصرى دور كبير فى انتشار وشهرة «سيمون» فى مهد مشوارها الفنى، فقد دعمتها الإعلامية أحلام شلبى بأخذ الأغنية «تتر» لبرنامجها الشهير «تاكسى السهرة».. فعندما تسمع تلك الكلمة المنغومة فى الذاكرة بندائها «تاااكسييى» لا تملك إلا أن تستدعى «سيمون» وتبتسم سعيدًا. فى هذا الوقت كان الجميع يتساءل متعجبًا مَنْ تلك الفتاة التى تغنى للتاكسى.

فى أحد لقاءات «سيمون» التليفزيونية تؤكد أن ألبوماتها الأولى لم تكن أغنيات بها قضية ومضمون، هى أغانى رحلات طلبة الجامعة، تغنيها طالبة منتمية لهم جيليًا وفكريًا، فتقول: لم تكن لدينا هموم، كنت سعيدة ومتفائلة ومقبلة على الحياة بابتهاج وطموح فى المستقبل، وكانت تلك ألحان الأغنيات الغربية التى يستمع لها كل أبناء جيلى. وفى لقاء آخر نادر رغم صغر سنها البادى على ملامحها الطفولية التى لا تشيخ، لكنها تملك ذكاء ومنطقًا وحسن بيان يفوق عمرها، لا تشعر معه إلا بإعجاب شديد لهذه العقلية الواعية. 

فلم تكن «خفافة» سيمون تعنى خفتها! عندما ترد على المذيع بألمعية تقفز من عينيها، أنا لست مندوبة عن جيلى لأتحدث بلسانه ولكن ما نغنيه هو تطور طبيعى للميلودى الذى طوره أساتذة كبار كعبدالوهاب وفريد الأطرش الذين استعانوا بالفالسات والرومبا والسامبا، وهى قوالب غربية بحتة، ولكن ما نملكه نحن هو سحر الشرق، فإذا جمعنا تكنيك الغرب المتطور فى الموسيقى على السحر الشرقى فسوف نصنع مزيجًا يميزنا.

وهذا ما يميز «سيمون» عن كل أبناء جيلها، ثقافتها الواسعة وإدراكها موقعها من جيلها ومن العالم، ومن أصالتها التى تتكئ على كونها مصرية صميمة تصنف دائمًا أنها غربية الشكل والأداء، خصوصًا بعد غنائها باللغة اليونانية «فى الجنة» فتنفى بفخر مؤكدة أن أصولها صعيدية ووالدها من المنصورة والأم من الشرقية وعاشت أغلب حياتها فى شبرا، فهى مصرية حتى النخاع تنتمى لهذه الأرض وهذا الشعب، لها باع طويل مع العمل الخدمى والمجتمعى، مهمومة ببنات جيلها ولا تخضع أبدًا لنظرة المجتمع التقليدية عن المرأة، هى التى غنّت على مدار مشوارها كلمات مفعمة بالنسوية من قبل أن يعى المجتمع هذه الكلمة، على خلاف بنات جيلها من المطربات اللاتى اتسمت كلمات أغانيهن بالانسحاق فى الحب ووضعن الفتاة فى موقف خاضع للرجل تتلهف على لقائه وتنتظره، فهو منتهى أملها وإن غاب أو افترقا ضاعت وضاع كيانها.. 

بينما «سيمون» لديها موقف واضح من الرومانسية التى لا تعنى بالضرورة موقفًا متدنيًا للمرأة فى العلاقة العاطفية بل تبحث عن تكافؤ وندية، فتقول: «أحب أقولك إنى قبلك كنت عايشة وإنى بعدك هبقى عايشة وإن فيه ميت ألف زيك وأحب أقولك إنك مش مالك نهايتى وإنك مش مالك سعادتى..»، وعلى فكرة هى «مش نظرة وابتسامة مش كلمة والسلاّمة».. لأن «دى حاجات كتيرررة ياااما لو ناوى تحبنى».. أولها الاحترام «خاف منى». 

نجحت «سيمون» فى تقديم صورة عن فتاة مستقلة تعرف قيمة نفسها وتنتظر الاحترام وتتوقعه، فإن لم تجده تسير بكرامة لا تلوى على شىء ولا تلتفت للوراء، والحب ليس محور حياتها، لن تجلس بجوار الذكريات بائسة تذرف دموع الندم والحسرة «عشان «الدنيا تروق وإن حب راح ما نحب تانى». 

كانت حفلتها الأخيرة فى الساقية كاملة العدد وبسبب نجاحها الكبير تلتها حفلة أخرى، فقد لمس القائمون على الساقية تهافت جمهور «سيمون» المشتاق لها فى سنوات ابتعادها الاختيارى عن الساحة. 

إن «سيمون» تقدر الكرامة فى الحياة والفن، فهى لا تفرض نفسها إنسانيًا ولا فنيًا، لا تتواجد على الساحة الفنية لمجرد الوجود أو الكسب المادى الذى لا يقع فى مرتبة أولوياتها، وتفضل أن تمكث فى تأهب واستعداد دائم كلاعب الأوليمبياد- حسب وصفها- الذى تفصل بينه وبين كل بطولة سنوات، لا يمكث فيها فى المنزل دون عمل، فهى فى تفكير دائم فى فنها، وتنتظر، تتحين قنص الفرصة.. وصفت سيمون نفسها من قبل بعد اختفاء يعقبه ظهور بمناسبة عمل جديد، يعاتبها الجميع عن الاختفاء، كأنها سيرة حياتها المكررة فى كل لقاء تليفزيونى: «سيمون».. أنتِ فين؟.. فترد: أنا كالقنّاص لست كالصيّاد. الفارق كبير بين فنان صيّاد يهتم بكل ما يلقى فى جعبته، بينما القنّاص يتحين فرصة العمل الجيد الصادق الذى لا يخدش تاريخه الفنى الملىء بالمحطات المشرفة. تلك النظرية التى اقتنعت بها صاحبة برج الجوزاء التى منذ أن قابلت الفنانة فاتن حمامة عندما رشحّها المخرج الكبير خيرى بشارة لدور «لمياء» فى فيلمه المهم «يوم مر ويوم حلو» وسألتها عن برجها وقالت لها «أنتِ جوزاء.. مثلى»، فشغفت «سيمون» منذ ذلك الحين بمسألة الأبراج فأصبحت كتقرير الصفة التشريحية أو الأشعة السينية لشخصية أى إنسان تلتقى به عندما تعرف منه برجه.

وفى ابتعادها الذى كلفنّا غيابها كجمهور متعطش دائمًا لوجود سيمون المحبوبة، وكلّفها هى على الأقل خسارة مضاعفة عدد ألبوماتها الستة فقط فى كل هذا التاريخ الطويل وثلاثة أفلام فقط للسينما، وثلاث مسرحيات، وعدد كبير من المسلسلات التليفزيونية، لكن جميعها أعمال نوعية مستقرة فى القلب والوجدان.

سيمون إنسانة من طراز رفيع، لا تجلس فى برج عاجى ولا تؤمن بنظرية النجوم البعيدة فى السماء لا تطالها أيدٍ ولا تنظرها عين إلا بدفع مبالغ مالية خيالية، «سيمون» تؤمن بأنها سلكت الفن كمسار فى الحياة ليقربّها أكثر من الناس، فهى تتفاعل شخصيًا على حساباتها على «السوشيال ميديا» وتهتم بكل تعليق وكلمة ورسالة، تتابع فى دأب مستمر، وعندما رآها الجمهور فى حفلة الساقية وصافحت بعضهم لم تكن المسافة سنوات ضوئية بين الجمهور و«النجم» المزعوم بل كان لقاءً بصديقة قديمة غاب وجهها سنوات وذهبنا جميعًا لاستقبالها لنقول فى محبة: «حمد الله على السلامة وحشتينا».. أيتها «الروح الفرفوشة»- اسم إحدى أغنياتها الجديدة- احضرى بإرادتك، فما غيابك إلا احترام لنا بالأساس، نقدّر تقديرك لنا، لكن حاولى ألاّ تطيلى الغيبة، لأننا نحبك ونحترمك.