رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«إخضاع الكلب».. إنسان وحيوان وبينهما حياة

إخضاع الكلب
إخضاع الكلب

مصور محترف يقضى عطلة استجمام فى مدينة دهب فيتورط فى مهمة العناية بالكلب «ونيس»

الكاتب صنع محاكاة بين معاناة الإنسان ووحدته وضعفه

مع ميلاد أى كائن، وتحديدًا الإنسان، يبدأ هذا الكائن فى تأمل ومن ثم إدراك الموجودات من حوله، يكمن هنا الفارق بين الإنسان والحيوان، فالإنسان يستطيع التقدم وبناء الحضارات لأنه يملك العقل.. ولكن ماذا عن الإنسان أو فلنقل الفنان الذى كفر بمجتمع يدهس أحلامه وحين يقرر العزلة تبدأ المأساة، حتى يبدأ فى الشك فى الفرق بينه كإنسان وغيره من الكائنات؟ حينها فقط سيُتهم أو سيكون بالفعل على حافة الجنون أو بداخله.

هكذا فى روايته «إخضاع الكلب»، الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع، يبدأ الروائى أحمد الفخرانى، ومن خلال نص فى غاية الحكمة وفى غاية السلاسة والعمق، فى تأمل كل شىء على الأرض.

«إن معنى كل ثقافة هو أن تستنبت من الحيوان (البشرى) المتوحش حيوانًا أليفًا متمدنًا، حيوانًا داجنًا».

إن فكرة تقييد أو نزع بعض الغرائز من الإنسان، وما يسمى تدجين أو حيونة الإنسان، تحدث عنها بعض، بل كثير، من الفنانين والفلاسفة عبر التاريخ بكل أشكال الفن.. فى الصفحات الأولى من الرواية نجد تلك الكلمات التى قالها الفيلسوف الألمانى نيتشه، والتى تعبر عن مأزق بطل الرواية.

وعن طريق الكلب «ونيس»، الذى أصبح بطل الرواية مضطرًا لتربيته، نستطيع الربط بين مأزق الإنسان والحيوان على هذه الأرض.. فى أحد المقاطع يتساءل البطل ليعرف ما الرابط بينه وبين «ونيس» الكلب، وهل تعرض ونيس لنفس الأشياء التى تعرض لها البطل: 

«وسوس شيطان ضميرى بأسئلة عما قد يكون ونيس تعرض له عندما تُرك وحيدًا بدون حماية، هل اختبر الحياة الحقيقية بما فيها من شر وعنف وقسوة وخذلان على يد بنى جنسه الذين لا يطيقون الحياة إلا فرادى أو فى قطعان صغيرة تتماثل فى الأهداف والمصالح».

هنا يكمن الربط بين الإنسان والحيوان، ماذا لو حذفنا فكرة أن بطل الرواية يتحدث عن كلب؟ بالتأكيد سترى أن الخطاب يمكن أن يكون للإنسان الذى يختبر كل ما فى الحياة من معانٍ، ويعانى من الأشياء نفسها التى تعانى منها باقى الكائنات، ولذلك يكمل الكاتب فى موضع آخر من الرواية متحدثًا عن الكلب: «هو مثلى محض كائن وحيد وخائف بعد أن عانى الشر والخذلان، وما يحتاجه هو التفهم والصبر».

وبعد هذا الربط نذهب إلى شىء مشترك آخر وهو الخوف، وهنا يأتى مفهوم آخر للخوف، حيث يرى بطل الرواية أن هناك «ما يجابهه البشر من مخاوف تبتلعهم، حتى تصير هى كل حقيقتهم، فتتحكم فى توجيه أفعالهم ومصائرهم». 

كل هذه الأشياء تمثل وتعبر عن كل كائن حى، وطوال الرواية نحن نتعرف على هذه الحقائق، حتى نصل إلى الصفحات الأخيرة من الرواية، فنجد الكاتب ينهى ما ظل يبحث عنه طوال الرواية عن الرابط بين الإنسان والحيوان عن هذا المأزق الوجودى:

«إنها ليست حيلة ناجعة، نحن الاثنان هنا محاصران بالوجود معًا فى مصير واحد». بطل الرواية هو هارون عبدالرحيم، مصور «فنان» يرى أنه «لا أحد يرفض أن تلتقط له صورة، لا أحد يقاوم الخلود الوهمى الذى توفره، المهم والتافه، الموهوب والدعى، الذكى والغبى، الجميل والقبيح، الملىء بالحياة ومن جوهره الرماد، كلهم ضعاف أمام الصورة». هذا الفنان الذى يحاول تخليد الناس عن طريق الصورة يذهب إلى مدينة دهب النائية أملًا فى الابتعاد عن الهموم والمشاكل التى تحاصره فى المجتمع، ولكنه لا يعلم أن فى وحدته تلك ستحاصره الأشباح، وستبدأ معركته مع أسئلته وحربه مع علامات الاستفهام التى لا حصر لها كإنسان ليس «مخطئًا ولا مجنونًا، بل معذب بالبصيرة، لكنها بصيرة بلا حكمة، فلم أتمكن أبدًا من هزيمة شخص مكشوف من اللحظة الأولى». يستخدم أحمد الفخرانى جملًا قصيرة، ولكنها معبرة، دالة، يجعل من الجملة الواحدة مثل طلقة الرصاص يجب أن تصيب هدفها، ولذلك استطاع أن يعبر على لسان بطله عن كل شىء له علاقة بجوهر الرواية، التى ممكن أن تكون رواية فنان مأزوم أو إنسان حائر، ونقاش وجودى، بأقل عدد من الكلمات والصفحات، وبسرد محكم متأمل، يحتوى على التنميط بقدر ما يحتوى على التجريب، وحيث الخلط بين ما هو واقعى وبين ما هو متخيل، بين الفانتازيا التى يتم توظيفها داخل النص لخدمة السؤال الكبير، الذى يبحث القارئ مع الكاتب عنه، ولذلك لا يشعر القارئ بأن تحدث الكلبة المرقطة فى أمور فلسفية هو شىء مقحم، بل سيتعامل معه على أنه الواقع داخل النص، لأنه يطرح أسئلة واقعية شغلت واحتلت ذهن القارئ من الوهلة الأولى. وإذا عدنا إلى رواية الكاتب السابقة «بياصة الشوام» لوجدنا أن الأسئلة التى كان يطرحها ممتدة فى رواية «إخضاع الكلب»، وثمة رابط يجمع بين البطلين لكلا الروايتين، فهما فنانان، سواء كان نحاتًا فى «بياصة الشوام» أو مصورًا فى «إخضاع الكلب»، فكلاهما فنهما عبارة عن صنع ما هو متخيل، والصراع للإجابة حول ما هو الأصلى وما هو المتخيل فى هذا الوجود؟ وأين الصورة وأين الأصل؟! هذه قاعدة إذا تمت مناقشتها بشكل عام يمكن أن تشمل الإنسانية، لأنها أسئلة نابعة من قلب الإنسان منذ أن بدأ فى إدراك الموجودات. فأنت هنا أمام نص فعال شديد الحيوية، لاهث، يرويه إنسان خامل سلبى لا يعرف أين موقعه ودوره فى الحياة، ولكن فى كل الأحوال علينا بتقبل الحياة بالرغم من كل شىء: «لا بد أن ما مررت به بالغ القسوة والأذى، لكن كثيرًا ما نغفل أن الوجود مأساة، علينا أن نتقبلها بشجاعة».