رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحداث عادية ولجان إلكترونية!

بقصد- أو بدون قصد- يمارس بعضنا التضليل عبر وسائل التواصل الاجتماعى.. أما طريقة التضليل فهى انتقاء حادث ذى طبيعة فردية ومحاولة إكسابه طبيعة عامة، أو تحميله بدلالات معينة اجتماعية أو سياسية إرضاءً لنزعة غضب فى نفس مستخدم التواصل الاجتماعى، أو تحقيقًا لغرض سياسى مشروع أو غير مشروع.. والحقيقة أن هذه المحاولات تنطوى على قدر كبير من التضليل أحيانًا، ومن الابتذال والمغالطة أحيانًا، وقد قفز هذا المعنى إلى ذهنى وأنا أقرأ تعليقات بعض رواد فيسبوك على الحادثة المأساوية التى تخلصت فيها أم مريضة نفسيًا من أبنائها الثلاثة، ثم حاولت التخلص من حياتها، وكان مبعث التأثير ليس فقط مأساوية الحادث، ولكن وجود صورة ضوئية لرسالة تركتها الأم لزوجها المغترب تخبره فيها بجريمتها، وتتمنى فيها أن تلتقيه فى الجنة.. وكل هذا مؤثر جدًا وموجع وإنسانى ولافت للانتباه مثل كل حوادث القتل التى هى بطبيعتها مجافية للفطرة البشرية لمعظم الناس.. لكن المبتذل حقًا هو محاولة ربط هذه المأساة بالظرف العام أو الوضع الاقتصادى.. فالحقيقة أن أكثر ما لفت نظرى أن الحادثة تكاد تكون نسخة بـ«الكربون» كما كنا نقول قديمًا من واقعة حقيقية استوحاها صناع مسلسل «سجن النسا» ٢٠١٤، وجسدت شخصية الأم المريضة ببراعة كبيرة الممثلة «دنيا ماهر»، حيث أقدمت الأم على قتل أطفالها وزوجها بالسم خوفًا عليهم من التلوث الذى تخيلت أنه أخطر عليهم من السم! فأقدمت على قتل أفراد أسرتها جميعًا حبًا لهم، وكان مصيرها الانتقال للمستشفى النفسى للعلاج، لأنه لا دافع لديها للجريمة سوى هواجس جنونية سيطرت على عقلها ودفعتها لمثل هذه الجريمة التى تتكرر بين حين وآخر.. حيث يقدم أب أو أم على قتل أفراد أسرته اعتقادًا منه بأنه يحميهم من غوائل الحياة، أو قنوطًا ويأسًا من رحمة الله بعباده، وكفرًا بالقضاء والقدر الذى لا نعرف جميعًا ما يخبئ لنا.. وما زلنا جميعًا نذكر مأساة شبيهة حدثت عام ٢٠٠٩ أقدم فيها أب من الطبقة الوسطى العليا على ذبح جميع أفراد أسرته بعد أن خسر كل مدخراته فى البورصة فتخيل أن الموت هو مصير أفضل لأبنائه الذين كانوا فى عمر الزهور.. وكانت المأساة أن محاولته الانتحار قد فشلت فتم نقله للسجن، حيث توفى بعد فترة حزنًا على أفراد أسرته أو على ما فعله فى أفراد أسرته فى لحظة يأس تمكن فيها الشيطان منه، حيث تخيل أنه هو الذى يرزق أبناءه وليس الله الرزاق العليم.. حيث كان يمكن لواحد من هؤلاء الأبناء أن يتخطى اختبار الحياة الصعب وينجح وينتشل أسرته من وهدة الفقر المفاجئ ويعيدها لسابق عهدها.. ولكن إرادة الله قضت أن يتصرف هذا الأب اليائس بمثل ما تصرفت به الأم التى اختل عقلها.. ولعل الجزء العام الوحيد فى هذه المأساة هو أننا يجوز أن ننصح الآباء أن يبقوا إلى جوار أسرهم، وأن يصطحب كل مغترب أسرته معه إذا أمكن أو أن يبقى إلى جوارها إذا أمكن فـ«رب هنا رب هناك» والمال ليس كل شىء، وإذا كان لنا أن نقول شيئًا حول هذه المأساة فهو أن علينا أن ننشر الوعى بضرورة العلاج النفسى، وأن يتوقف كل من الزوجين طويلًا أمام أحوال شريكه وأبنائه النفسية، وأن يطلب له العلاج فى العشرات من مراكز الصحة النفسية المجانية دون خوف من «الوصم» بالمرض النفسى.. لأن النتيجة فى حالة تفاقم المرض تكون مأساوية كما نرى جميعًا.. أما محاولة ربط الحادثة بظرف اقتصادى أو اجتماعى فهو ابتذال صريح تقوم به لجان مأجورة، ويقع فيه بعض المدعين من راغبى انتحال المواقف أو الظهور بمظهر الفاهمين والمدركين لكل شىء. 

هذا «الابتذال» و«الترخص» فى إسقاط العام على الخاص والاستغلال السياسى لأحداث عادية تكرر مرة أخرى مع تصريحات للكاتبة سلوى بكر فى برنامج تليفزيونى قالت فيها إن لديها تجربة شخصية مع مدرسة كانت مملوكة لأحد الإخوان المسلمين.. حيث كان مسئولو المدرسة يطلبون من الأطفال أن يأتوا ساعةً مبكرًا قبل موعد الدراسة ليشتركوا فى «مقرأة» لحفظ القرآن.. وقالت إنها تفضل أن يحفظ الطلاب القرآن من خلال «الكتاب» الذى يدرسون فيه علومًا أخرى إلى جانب القرآن.. ورغم أن الكاتبة ليست مسئولة حكومية «هى كاتبة مستقلة على خلفية يسارية عامة ومعارضة»، ورغم أن التصريحات كانت فى قناة «تن» وهى قناة غير رسمية ولا حكومية، ورغم أن الكاتبة تتحدث عن تجربتها الشخصية فى فترة طفولة أبنائها وتتحدث عن مدرسة معينة مملوكة للإخوان إلا أنه رغم هذا- أو بسبب هذا- وجدنا لجانًا تعمل على الخبر ليل نهار وتنشره وتدعى على الكاتبة ما لم تقله، وتحاول أن تصور الأمر وكأنه هجوم على القرآن الكريم.. والحقيقة أن هذا ابتذال ما بعده ابتذال.. وكذب ما بعده كذب.. وتضليل ما بعده تضليل لأن هناك فرقًا بين «الدين» وبين «الاستخدام السياسى للدين».. إذا كان الأمر يتعلق بالـ«دين» فالدولة المصرية تنشره وتخدمه وتدعمه كما لم يحدث من قبل سواء من حيث عدد المساجد والأعمال الخيرية والتكافل مع الفقراء والغارمين.. إلخ.. أما إذا كان الأمر يتعلق بالاستخدام السياسى للدين فالدولة تجرمه وتطارد أصحابه لأن هذا هو طريق الإرهاب والضلال والتضليل.. وهناك فارق بين أن نعلم أبناءنا القرآن ككتاب بيان ووحى من الله لرسوله ومددًا لطاقة روحية عظيمة، وبين أن يأتى إرهابى فيعلم الطفل آيات القتال فى الإسلام دون شرح أو تفسير أو إيضاح للظرف التاريخى.. الزعيم القبطى مكرم عبيد كان يقول إن سبب فصاحته هو أنه حفظ القرآن وهو طفل فى بداية القرن الماضى.. ولكن الأكيد أنه حفظ القرآن كمعجزة لغوية وأن محفظه لم يحاول أن يغير أفكاره أو عقيدته أو دينه.. فبقى ذلك الامتنان والحب والمودة تجاه اللغة العربية والقرآن.. نفس الأمر بالنسبة للطفل الصغير.. من الإجرام استغلال إقباله على حفظ القرآن لتجنيده سياسيًا أو ضمه لجماعة دينية أو إقناعه بمفاهيم الإرهاب.. هذا هو الاستخدام السياسى للقرآن، وهو ما أظن أن الكاتبة ترفضه.. لكن اللجان المأجورة تزعجها هذه الرسالة فتريد أن تصور معارضة الاستغلال السياسى للدين على أنها معارضة للدين، وبين الاثنين فارق كبير جدًا.. 

أما النموذج الثالث للابتذال واستغلال الحوادث فى اتجاه مضاد هذه المرة فهو ما قرأته لبعض مدعى التنوير من أن إطلاق موقع إلكترونى لمجلة فنية عريقة وإيقاف طبعتها الورقية إنما يكشف عن توجه سلفى للدولة.. وهذا أيضًا كذب ما بعده كذب وابتذال ما بعده ابتذال، فالدولة التى أطلقت الحريات الدينية وبناء دور العبادة وضربت التطرف بيد من حديد، وأنصفت المرأة ودعمت قصور الثقافة والمناسبات الفنية لا يمكن اتهامها بالتطرف ولا السلفية، ولكنه التطرف والابتذال فى هذا الاتجاه أو ذاك واستغلال الأخبار اليومية فى نشر الدعايات وتصفية الحسابات وإشعال غضب الناس حتى يحرقوا أنفسهم وبلدهم.. ألا ساء ما يمكرون.