رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سر الحملة الموجهة ضد وزير الأوقاف!

(1)

♦ خارج باب المسجد مباشرة وقف طالب جامعى ممسكا بصندوق التبرعات مناديا على المصلين الخارجين من صلاة الجمعة (ما نقص مالٌ من صدقة..تبرعوا لإعمار بيوت الله)..كان هذا المشهد عام 91 بمدينة المنيا على ترعة الإبراهيمية أمام مبانى الجامعة والمدينة الجامعية.. ثم بعد عدة أشهر استضاف هذا المسجد وجدى غنيم وعرفنا بعد سنوات طويلة فيم أنفقت تلك الأموال الطائلة!

♦ وفى أسوان وفى نفس العام تقريبا 91 وقف الإمام الشاب يصرخ فوق المنبر منددا بمشروع الدولة لتنظيم الأسرة واستطاع هو ورفاقه فى شتى ربوع مصر إفشال كل جهود الدولة المصرية لإيقاف الإنفجار السكانى!

♦ ومنذ أقل من عشر سنوات أرانى أحد الأصدقاء ورقة مطبوعة وزعها أحد أئمة الأوقاف على الأطفال أثناء تحفيظهم القرآن الكريم فى الكُتّاب ..كانت الورقة بعنوان تحريم الاحتفال بشم النسيم!

♦ لم تكن تلك الأمثلة تفردا تختص به بعض المساجد دون غيرها من مساجد مصر، ففى العقود التى سبقت مشهد 25يناير 2011م، يمكننى القول كشاهد عيان أن مساجد مصر فى معظمها كانت خارج أى سيطرة للدولة، سواء كانت مساجد تابعة لوزارة الأوقاف أو مساجد تسيطر عليها بشكل صريح جماعة من جماعات التطرف والإرهاب.

♦ كان كل إمام يقول ما يشاء فوق المنبر. بل والأخطر أن مكتبات كثير من مساجد مصر كانت تكتظ بكتب وكتيبات التطرف والإرهاب الصريح الوافدة إلى مصر. وكان كل إمام أو حتى مصلى يتردد على المسجد يمكنه أن يضيف للمكتبة ما يشاء من كتب تنالها أيدى القلة من الصغار أثناء جلسات التحفيظ فى الكُتاب.

♦ بل إن كثيرا من الأئمة حولوا مشروع الكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم إلى دروس فى علوم أسموها العلوم الشرعية للسيطرة على عقول الصغار. فقامت تلك الكتاتيب والمكتبات بدورٍ لم يأخذ نصيبه بعد من الفحص والدراسة فى غسل عقول المصريين! 

♦ والحقيقة التى لم يواجه بها المصريون أنفسهم بعد، هى أن مساجد الأوقاف التى كان يصلى بها غالبية المصريين كانت هى المسؤلة بشكل مباشر عن تكوين ظهير شعبى تعداده ملايين المصريين ساند بشكل رسمى الفكر المتطرف فى مصر وساهم فى وصول الجماعة الإرهابية لمقاعد مجلس العشب المصرى ومقعد الرئاسة. فلم يكن غالبية المصريين يصلون فى مساجد الجماعات الإرهابية أو السلفية المتطرفة. فالملايين التى ساندت الجماعة قد صاغ فكرها ومواقفها أئمة الأوقاف فى مساجد الأوقاف!

(2)

♦ فى الفترة من 28 يناير 2011م مساء وحتى عام 2014م، تخلى غالبية هؤلاء الأئمة عن أقنعتهم وحولوا كثيرا من مساجد مصر لمنابر إعلامية تطعن صراحة فى الدولة الوطنية ومؤسساتها وتدعو صراحة لإغراق المصريين فى أيديولوجية الإرهاب الدموى المتلفح زورا وبهتانا بعباءة الإسلام!

♦ بعد 2014م أدركت القيادة السياسية هذه الحقائق كما أدركت أن أزمة مصر لم تكن فقط مواجهة جماعات الإرهاب المسلح، وإنما فى مواجهة أخرى أكثر صعوبة وهى السيطرة على الفوضى الغارقة فيها مساجد مصر، سواء كانت فوضى الخطاب الدينى المارق عن أى تقويم أو سيطرة والبعيد تماما عن الهوية المصرية، أو فوضى استخدام المساجد فى أغراض غير أغراض العبادة السمحة المعتدلة.

♦ نجحت الدولة منذ بدء المواجهة فى إخضاع جميع المساجد لولاية وزراة الأوقاف، وبقى الجزء الأصعب من تلك المواجهة وهو تصويب الخطاب الدينى الذى غلب عليه الانفلات فى العقود الماضية، ثم تصويب استخدام المساجد نفسها وقصرها على أقامة شعائر وطقوس العبادة التى بنيت من أجلها.

♦ وقع اختيار الدولة على د.محمد مختار جمعة وزير الأوقاف الذى تولى منصبه بعد ثورة يونيو ليتصدى لتلك المهمة الشاقة. ويحسب للرجل قيادته للوزارة فى تلك الفترة المفصلية الحاسمة ونجاحه فى اقتحام مختلف ملفات تلك المواجهة بالغة الخطورة والحساسية. فكان عليه القيام بما يشبه أحيانا العمليات الجراحية بالغة التعقيد. 

♦لقد قام الرجل بجهد لا ينزله حق قدره إلا من كان على إدراكٍ ووعى تامين بما كان يحدث فى مساجد مصر فى العقود والسنوات السابقة لوجوده فى المشهد.

♦ لقد حقق نجاحا كبيرا فى السيطرة على انفلات الخطاب الدينى فى مساجد مصر، وفى تتبع وتقنين ما كان يتم جمعه من أموال المصريين فى المساجد ثبت فى السنوات السابقة استخدام بعضها فى غير ما جمعت له.

(3)

♦ وبقدر ما حقق الرجل من نجاح فى جهاده الوطنى والدينى بقدر ما يتعرض له الآن من حملة هجوم ممنهجة تثبت بلا شك أن جهده قد أصاب لالتشنج والصراخ كثيرا ممن كانوا يرتعون فى الفوضى الدينية السابقة!

♦ ففى تلك الحملة تعرض الرجل لجملة من الأكاذيب السمجة لدرجة تصويره أنه ضد الدين ويمنع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه! وتم وصف جميع ما قام به بصفات كاذبة تماما وتتناقض مع الهدف المرجو منها.

♦ فما يقوم به مثلا من تدريب وإعادة تأهيل للوعاظ والأئمة والتدخل لتقويم المتجاوزين منهم يتم وصفه فى تلك الحملة المشبوهة بأنه (تضييق على الأئمة والدعاة)!

♦ إن أخطر ما يتعرض له العقل الجمعى المصرى هو خطبة الجمعة. وقيامه بمحاولة ضبط هذا المنبر الإعلامى الأخطر عن طريق توحيد الخطبة ومراجعة ما يقال تحت عنوانها يتم وصفه فى نفس الحملة بأنه تضييق وتحجيم وإفراغ لخطبة الجمعة من مضمونها! وينسى هؤلاء أنه فى فترات تاريخية معينة كان كل المسلمين يستمعون لخبطة واحدة فى المسجد الجامع بكل مدينة. كما ينسون أن جل خطب الرسول(ص) كانت عبارة عن تلاوة لآيات من القرآن الكريم!

♦ لقد اتضح المشهد جليا، حيث أصبح لدينا مجموعتان من العلماء ورجال الدين ممن يتولون المناصب الرسمية أو يتصدون للخطاب الدينى العام. المجموعة الأولى هى التى تحاول تصويب بوصلة الخطاب الدينى المصرى وتحاول إنقاذ العقل المصرى لتفادى تكرار المأساة. وتتعرض تلك المجموعة لحملات هجوم وتشويه ومحاولات ضغط لإبعادهم عن المشهد.

♦ أما المجموعة الثانية، فهى التى ترعى الجمود وتدافع عنه وتتشبث بأشواكه وصباره الذى أدمى مصر كثيرا. وهذه المجموعة لا تتوانى عن ممارسة نفس السلوك التاريخى القديم بمداعبة المشاعر الدينية الغوغائية لدرجة الإيحاء للعامة مثلا بأن المجموعة الأولى –وعلى رأسها وزير الأوقاف- تقف ضد الدين ذاته!

♦ إننى - كمواطن مصرى، وكشاهد عيان على ما حدث بمساجد مصر فى العقود الأربعة الماضية فى عدد من محافظات مصر المختلفة جغرافيا وسكانيا- أعتقد أن ما قام ويقوم به وزير الأوقاف الحالى هو المحاولة الأجرأ والأقوى لتصويب أخطاء وخطايا تسببت فى إغراق مصر فى تيهٍ من التخلف الاقتصادى والعلمى والتطرف والكراهية، بل وتسبب فى سفك دماء المصريين.

♦ وينطبق على ما تقوم به الدولة المصرية حاليا – ممثلة فى هذا الوزير الجرىء وقيادات وزارته – المثل الشائع أن تأتى متأخرا خيرٌ من أن لا تأتى إطلاقا! فعلينا – كمصريين – أن نساند تلك الجهود ونقف بقوة أمام تلك الحملة الموجهة لإسقاط الرجل الذى يريدون من وراء إسقاطه العودة بمساجد مصر إلى ما كانت عليه من فوضى الخطاب الدينى ومحاولة التحكم فى عقول الأجيال الصغيرة القادمة. 

♦. فأنا هنا لا أدافع عن رجلٍ يتولى منصبا، وإنما أدافع عما حققته مصر فى هذا الملف بالغ الخطورة حتى يصبح ممكنا لهذا الوطن المضى قدما نحو خطوات أكثر لتحرير العقل المصرى مما علق به من ضلال فى العقود السابقة. فغايتهم من هذا الهجوم هو إجهاض ما تم على الأرض، والعودة بنا وبمصر إلى المربع صفر مرة أخرى!

♦ وأخيرا فإننى أتمنى أن يتنبه المصريون – إدارة وأفرادا- إلى تلك الغاية الخبيثة وراء ذلك الهجوم فلا ينجرفون خلف كل ناعقٍ ضالٍ!