رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شعراء أكتوبر غنوا للنشيد والشهيد والعَلم

صلاح عبدالصبور كتب قصيدتين عن الحرب شارك بهما المواطن فرحته بالنصر ثم لم يعد لذلك أبدًا

أحمد عبدالمعطى حجازى قدم ثلاث قصائد قصيرة بعنوان «٣ أغنيات للمقاومة» صدرت عام ١٩٧٨

فاروق جويدة الشاعر الوحيد الذى أشار إلى وقوع خلافات حول قرار السلام

 

 

احتفاء واسع بالعَلم ورافعه: «جزع جميز على ترعة» و«مرسومة ألوانه بالدم»

يظل نصر أكتوبر ملحمة عسكرية خالدة مُكللة بالعزة والفخر. وقديمًا قال أبوفراس الحمدانى: «الشعر ديوان العرب، وعنوان الأدب»، فكيف عبرت القصيدة عن الملحمة؟ وهل كانت الحفاوة الشعرية تليق بالمعجزة العسكرية؟

اللافت للنظر بداية أنه على الرغم من أن الأحداث التاريخية الكبرى تحتاج من الشعراء إلى قدر من الاختمار الداخلى، حتى يتمكنوا من استيعاب أبعادها فكريًا ووجدانيًا، من أجل التعبير عنها بصورة مناسبة- فإن الأمر يختلف تمامًا مع حرب أكتوبر. فما كتب عنها من شعر فصيح لكبار الشعراء يمثل فى مجمله رد فعل لحظيًا على مفاجأة العبور المدهشة، خاصة مشهد رفع العلم المصرى على أرض سيناء الحبيبة.

فصلاح عبدالصبور مثلًا قد كتب قصيدتين عن حرب أكتوبر، جمعهما معًا فى مطلع ديوانه «الإبحار فى الذاكرة» تحت عنوان: «رسالتان إلى الميدان ٨ أكتوبر ١٩٧٣».

والقصيدة الأولى منهما تحمل عنوان: «إلى أول جندى رفع العلم فى سيناء»، وهى تصور شعوره وهو يشاهد صورة رفع العَلم المصرى على شاشة التلفاز. فالصورة غير الكلمة، ومن عايش تزييف الكلمات عن هزيمة «٦٧»، لن يصدق ادعاءات النصر إلا إذا شاهد أماراته بعينيه.

يقول فى بدايتها:

تملّيناك، حين أهلَّ فوق الشاشة البيضاء،

وجهك يلثم العلما

وترفعه يداك،

لكى يحلق فى مدار الشمس،

حر الوجه مقتحمًا

أى صدق مبهر تعبر عنه تلك الكلمة/ الجملة «تمليناك» فى مطلع القصيدة!

فهى تشير إلى الرغبة فى التأكد من الصورة المدهشة، وإلى احتواء المشهد وحده بؤرة حدقة العين، وإلى التركيز التام على التشبع منه بحنين طال انتظاره، خاصة أن البث المباشر من الميدان، لم يكن واضحًا تمامًا... يقول:

ولكن كان هذا الوجه يظهر، ثم يستخفى

ولم ألمح سوى بسمتك الزهراء والعينين

ولم تعلن لنا الشاشة نعتًا لك أو اسمًا

ولكن، كيف كان اسم هنالك يحتويك؟

وأنت فى لحظتك العظمى

تحولت إلى معنى، كمعنى الحب، معنى الخير،

معنى النور، معنى القدرة الأسمى

ثم يخرج الشاعر من تحويل الشخص إلى معنى بالمقطع السابق، لتحويل الجندى الفرد إلى رمز لكل مواطن مصرى قدم الكثير فى شتى الميادين من أجل تحقيق هذا الحلم العصى، وهو لذلك يسأله بكل جدارة واستحقاق:

فهل باسمى وباسمهمو لثمتَ النَسجَ محتشدا

وهل باسمى وباسمهمو مددت إلى الخيوط يدا

وهل باسمى وباسمهمو ارتعشت بهزة الفرح

وأنت تراه يعلو الأفق متئدا؟

فشاعرنا يرسم صورة تفصيلية يراها لمشهد كان يتمناه، بداية من لثم العلم، إلى شد حباله، إلى ارتعاشة الفرح لرؤيته يشق عنان السماء فى كبرياء يليق به.

ذلك قبل أن ينتقل فى ختام قصيدته إلى وصف غياب الصورة من التلفاز، مع بقاء معنى النصر مهيمنًا، ليس على أفراد الشعب فقط، بل على كل مفردات الحياة فى مصر، عبر ماضيها وحاضرها ومستقبلها المشرق المنتظر، حيث يقول:

هنيهات من التحديق،

حالت صورة الأشياء فى العينين

وأضحى ظلك المرسوم منبهما

رأيتك جزع جميز على ترعة

رأيتك قطعة من صخرة الأهرام منتزعة

رأيتك حائطًا من جانب القلعة

رأيتك دفقة من ماء نهر النيل

وقد وقفت على قدمين

لترفع فى المدى عَلما

يحلق فى مدار الشمس،

حر الوجه مبتسما

فعلى الرغم من أن صلاح عبدالصبور لم يكتب قصائد سياسية عن الهزيمة أو حرب الاستنزاف، وانشغل فى قصائده بالهم الإنسانى العالمى، شارك المواطن البسيط فرحته بنصر أكتوبر فى لحظته المدهشة، ثم لم يعد لذلك أبدًا.

أما أحمد عبدالمعطى حجازى، وهو شاعر سياسى بامتياز، فقد كتب قصيدة قصيرة وحيدة لحظة النصر، تشير فى عنوانها أيضًا إلى العَلم: «علم القنطرة شرق»، وقد وضعها بعد ذلك فى وسط ٣ قصائد قصيرة تحت عنوان جامع هو «٣ أغنيات للمقاومة»، فى ديوانه: «كائنات مملكة الليل» الصادر عام ١٩٧٨ من بيروت، أثناء إقامته فى باريس.

تحمل القصيدة الأولى عنوان: «الحديد والجسد»، وهى من قصائده عن حرب الاستنزاف، يقول فيها:

إنه العصر

هذا الحديد، وهذا الشرر

فاحتضنه

ودع جسمه يخترق لحمك الحى

يا وطنى المتخلف

كى تتحضر!

القصيدة الأخيرة تحمل عنوان: «دمشق تقاتل»، وهى بكائية عن حرب أكتوبر ١٩٧٣، لكن على الجبهة السورية، التى عانت كثيرًا إلى حد التهديد باحتلال دمشق، وكأن شاعرنا قد تعمد دس قصيدته عن النصر بين هزيمتين، حين نشر ديوانه بعد ٥ سنوات.

نعود للقصيدة نفسها التى تتكون من ٣ مقاطع، أولها بالغ القصر، وشديد القوة، حيث يقول:

كل رايتنا قطع من قماش

وأنت العَلم

أما المقطع الثانى فهو طويل بعض الشىء، ويوضح فيه الشاعر للمتلقى أسباب حكمه القاطع الذى أطلقه فى المقطع الأول. وهى أسباب أقرب ما تكون إلى الأسباب التى ذكرها صلاح عبدالصبور فى قصيدته السابقة، وإن كانت روح العقل هى التى تهيمن على صورها الشعرية، وليس توهج المشاعر أو فرحة النصر... يقول: 

مصر أنجبت الناس

والحب أنجب أبناءهم

واصطفى المجد أجملهم

واهبًا لك أرواحهم يا علم

كلما نقلوا فى الطريق إليك قدم

نسجوا فيك خيطًا

ومن كل قطرة دم

رسموا فيك لونًا

فهم أنت

ما برحوا ينقصون، وتزداد

ينحدرون، وتعلو

لقد قسموا فيك أنفسهم

جسدًا ضاربًا جذره فى الرمال

وروحًا مرفرفة فى القمم!

وذلك قبل أن ينهى قصيدته بمقطع قصير وحاسم مرة أخرى، لكنه ذو نبرة خطابية مباشرة هذه المرة، يقول فيه:

قل لنا يا عَلم

افتدونى!

نجيبك نعم

ونجيبك نعم!

أما الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة، فقد كان عنوان قصيدته أيضًا يحتوى على كلمة العَلم: «خفقة العَلم»، التى يقول فى مطلعها:

رفرف أيها العَلم

يا قلبنا الملىء بالأشواق والغضب

فى كل خفقة تقول مصر

حكاية نسيجها الضياء والظفر

فى كل خفقة ميلاد طفل غنوة زفاف

ها أنت قلب مصر خافق على الضفاف

أما الشاعر فاروق شوشة، الذى كتب عدة قصائد عن الهزيمة والاستنزاف، فقد كتب قصيدتين لحظيتين عن حرب أكتوبر، ولم يعد لذلك أبدًا أيضًا.

وضم «شوشة» القصيدتين تحت عنوان واحد هو: «أغنيتان لمصر»، فى نهاية ديوانه: «فى انتظار ما لا يجىء»، الصادر عام ١٩٧٩، وتحدث فيهما عن العَلم، يقول فى الأولى التى تحمل عنوان: «أحبك»، مستخدمًا لفظ «الراية»:

ورايتنا ركزتها السواعد فى جبهة الشرق،

يكبر من حولها أمل العائدين

يمرون،

ينبطحون عليها،

يضمون وجه ثراها المندى

تكبر أفواههم بالصلاة،

يضمونها فى خشوع الحجيج،

وفى لهفة العاشق المستهام

أما قصيدته الثانية، فتحمل عنوان «اليوم السابع»، فى مقابل حديث إسرائيل عن «حرب الأيام الستة» فى عام ١٩٦٧، وهو يتحدث فيها عن «الراية» أيضًا، ويقول فى مطلعها:

اليوم السابع جاء

والراية فى أيدى الأبطال الشجعان

تتلألأ فى وجه الدنيا

وترفرف أبدًا فى خيلاء

من فوق التبة فى سيناء

فيما انشغل الشاعر فتحى سعيد بشحن الروح المعنوية فى «حرب الاستنزاف»، وله ديوان صادر عام ١٩٧٣ بعنوان: «مصر لم تنم»، وهى قصيدته الشهيرة التى غناها محرم فؤاد من ألحان رياض السنباطى.

ويضم الديوان أيضًا قصيدة: «عيون البنادق»، التى غنتها فايزة أحمد من ألحان محمد سلطان، قبيل حرب أكتوبر.

لكنه يضم كذلك قصائد كتبت بعد النصر، ومنها قصيدة: «يا مصرنا يا حرة»، التى غناها محرم فؤاد أيضًا من ألحان محمد الموجى، وتم إخراجها للتليفزيون بمشاهد حية من المعركة، وهو يقول فى ختامها مشيرًا للعَلم أيضًا:

سواعد الأبطال/ لانت لها الجبال

وفجرت الصخور

إرادة الإنسان/ تحدت الزمان

فانشقت البحور

أسطورة تقال/ على فم الأجيال

منسوجة من نور

حروفها نشيد/ للابن والحفيد

تروى مدى الدهور

فالأرض دارت دورة/ بالخير والمسرة

وعادت الأيام/ خفاقة الأعلام

يا مصرنا يا حرة.

رمز «الشهداء»: «بدمائهم بفدائهم بمضائهم... قطفوا الحياة بموتهم»

الرمز الآخر الذى جرى حديث الشعراء من خلاله عن حرب أكتوبر هو رمز الشهيد، الذى برز على سبيل المثال فى قصيدة الشاعرة روحية القلينى، التى تقول تحت عنوان: «أم البطل»:

أنا رغم الدمع أزهو أننى الأم التى

بعثت قلبًا شجاعًا مستميتًا فى الحروب

قدم الروح لمصر عن رضاء وفدى

بالشباب الغض، بالآمال، بالعمر الرطيب

بالذى قد خط الإيمان فى تاريخنا

قصة النصر شموخًا وجلالًا للشعوب

بالذى قد رد فى سيناء ماضى عزتى

أشرقت دنياى بالآمال من بعد المغيب.

على أن هذا الرمز لم يقتصر توظيفه على النساء فقط، فها هو الشاعر محمود حسن إسماعيل، الذى كتب العديد من القصائد عن الحرب عامة، فضل أن تكون قصيدته الوحيدة التى كتبها فى دواوينه كلها عن حرب أكتوبر عام ١٩٧٤ تحمل عنوان: «موسيقى من الشهيد»، والتى يقول فيها:

بدمائهم، بفدائهم، بمضائهم، قطفوا الحياة بموتهم

ذبحوا أساطير الطغاة، ولقنوها آية من درسهم

ماذا أغنى؟

والسماء بقدسها وبنورها غنت لهم!!

.. أنا إن شدوت فلن أكون سوى صدى

لقصيدة من شعرهم

أما الشاعر أمل دنقل، الذى كتب معظم قصائده عن هزيمة ١٩٦٧ و«حرب الاستنزاف»، فالشائع عنه أنه لم يكتب أى قصيدة عن حرب أكتوبر فى دواوينه المنشورة.

لكننا فى نهاية طبعة أعماله الكاملة، نجد ٧ قصائد تحت عنوان: «قصائد متفرقة»، منها قصيدة تحمل تاريخ ١٩٧٣ وعنوانها: «لا أبكيه»، وهى مرثية عمودية لشهداء الوطن، ليس فى شتى المجالات فقط، بل عبر الأجيال أيضًا.. يقول فى مطلعها:

مصر لا تبدأ من مصر القريبة

إنها تبدأ من أحجار طيبة

إنها تبدأ منذ انطبعت

قدم الماء على الأرض الجديبة

كل أبنائك يا مصر مضوا

شهداء الغد فى نبل وطيبة

الذى لم يقض فى الحرب قضى

وهو يعطى الفأس والغرس وجيبه

والذى لم يقض فى الفأس قضى

حاملًا أحجار أسوان الرهيبة

وذلك قبل أن يعود ثانية، ليعدد فئات شهداء الوطن المناضلين فى مجالات أخرى، مثل: التنوير، والقومية العربية، والتعليم، وتحرير المرأة، وإقامة العدل، وصولًا إلى شهداء ملحمة العبور المجيدة:

أترى تبكين من مات.. لكى

تستعيدى راية الفكر السليبة

والذى مات لكى ينقش فى

كل قلب ناشئ حرف العروبة

ولكى يحتضن الطفل حقيبة

ولكى تقتات بالعلم الشبيبة

ولكى يهوى حجاب الخوف عن

روح ربات الحجال المستريبة

ولكى يرفع سيف العدل فى

وجه أبناء المماليك الغريبة

والذى لولاه ما مرت لنا

فى عبور النار للحرب كتيبة

وأغلب الظن مما يظهر فى المقطع التالى والأخير من القصيدة، أن أمل دنقل يرثى شهيدًا محددًا قريبًا إلى نفسه، ولهذا فقد كتبها على المستوى العروضى فى إطار الشعر العمودى، وإن كان قد فضل على المستوى الفنى أن يصعد فيها بالخاص إلى العام. فشهداء مصر كثيرون، والشاعر يدعو مصر إلى عدم البكاء عليهم، لأنهم صناع المستقبل:

أترى تبكين يا مصر؟

لست أبكيه وإن كنت ربيبه

شرف الأبناء أن يمضى أب

بعد أن قدم للمجد نصيبه

شرف للأب أن يمضى فلا

تعترى أبناءه الروح الزغيبة

إنما يبكى ضعاف الناس إن

عجزوا أن يدركوا حجم المصيبة

ترى لماذا أجمع شعراء الفصحى الكبار على استخدام رمزى «العلم» و«الشهيد» فقط فى قصائدهم عن حرب أكتوبر؟ ولماذا اكتفى كل منهم بقصيدة واحدة أو قصيدتين على الأكثر فى لحظة الحدث، ثم صمتوا عنها للأبد؟

لا شك فى أن «العَلم» هو الشىء الوحيد الذى يجمع خيوط أبناء الشعب جميعًا فى نسيجه، مهما تنوعت مشاربهم واختلفت توجهاتهم الأيديولوجية. ولا فى أن «الشهيد» هو النموذج الأعلى لعشق الوطن، على مر التاريخ. ولهذا كان اختيار هذين الرمزين عميقًا وواعيًا وقادرًا على تجاوز الخلافات.

أما سبب الحماس اللحظى، ثم الصمت للأبد، فيرجع للملابسات السياسية التى أعقبت نصر أكتوبر مباشرة، بداية من الاختلافات الأيديولوجية حول قرار وقف إطلاق النار، وصولًا إلى مبادرة السلام.

وقد كان الشاعر فاروق جويدة هو الوحيد الذى أشار صراحة إلى تلك الخلافات، التى شوشرت على النصر العسكرى حينها، بأن قال صراحة فى قصيدته «وخرجت مصر عن صمتها»:

اليوم لم يبق الخيار

بين اليمين أو اليسار

فلقد رأيتم عودة البحر

ورأيتم الشعب الذى

حمل الأمانة باقتدار

الأرض والشعب العظيم

أحق من كل المذاهب بالفخار

وقد استفاض الشاعر فى هذه التحذيرات، بصوته مرة، وبصوت مصر نفسها فى نهاية القصيدة مرة أخرى:

أنا مصر يا أبناء من خير الأمم

حتى تظل اليوم رأسى فى السماء

حتى يعيد الشعب ملحمة البناء

لا تتركوا الكلمات.. تلتهم الدماء

وأغلب الظن أنه لم يستمع أحد من الشعراء لنداء مصر، والتهمت الخلافات السياسية جثث الشهداء، وأطفأت شموس النصر فى أوج الفرح.