رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أميرة ملش تكتب: لا.. لا أندم على شىء


لا.. لا أندم على شىء، كما قالت إديث بياف، المغنية الفرنسية الأشهر، التى تعد أسطورة فى عالم الغناء، غنتها بعد مشوار طويل، رغم عمرها القصير، حافل بالأفراح والأحزان، بالخيبات والانتصارات، وقررت أن تغنيها بعد أن اعتزلت الغناء، وكانت لا تزال فى الخامسة والأربعين من عمرها، ولكن المرض كان قد أنهكها واستولى على جسدها، ولكنه قط لم يستطع أن يستولى على روحها وقلبها.
كان ذلك عام ١٩٦٠، وبعد قرار بياف بالاعتزال نجح شابان صغيران هما شارل ديمون وميشال فوكير أن يقنعاها بالعودة من خلال أغنيتهما non je no regrette rien أو «لا، لا أندم على شىء»، فى البداية رفضت مقابلتهما، وكانا يعلمان تمامًا ولعها بالغناء وضعفها أمام الشىء الجيد وحسها الفنى العالى، فأرسلا لها تسجيلًا مبدئيًا بالأغنية، وفعلًا وقعت فى سحرها، ولكن ليس لجمالها فقط، ولكن لأنها بالمصادفة تحكى قصة إديث بياف وتقول ما تشعر به فى هذا الوقت بالتحديد، وكانت رحلتها فى الحياة قد أوشكت على الانتهاء، فقد ماتت بعد تأديتها هذه الأغنية بعامين فقط، وكانت هذه آخر حفلة لها، حيث قدمتها على مسرح «الأولمبيا»، وحققت نجاحًا ساحقًا، ويقال فى باريس إنها أنقذت المسرح وصاحبه، برونو كوكاتريكس، من الإفلاس، وهو الذى ذهب إلى إديث وطلب منها أن تقيم حفلًا فى القاعة الباريسية الأسطورية التى تعانى من ظروف صعبة لتنقذها من الإفلاس، وقد كان.
تقول الأغنية (لا، لا شىء على الإطلاق.. لا، لا أندم على شىء أبدًا.. لا ما أحسنوه لى ولا ما أساءوا، كله عندى سيان.. لا شىء على الإطلاق.. كله مضى وانقضى.. وأنسى ولا أبالى بالماضى.. يجب أن أبدأ من جديد).
تحمل الأغنية معانى رائعة، إيجابية رغم صبغتها الحزينة، إلا أنها تعبر عن حالة السلام النفسى الذى يجب أن نكون عليه، نعم لا تندم على شىء، لأنه كله كان من اختيارك، فإن الحياة اختيارات، وأنت من تصنع فى أحيان كثيرة مشهد النهاية أو على الأقل تشارك فى صنعه، فى الحقيقة طوال عمرى أكره لحظة الندم، حتى لو أخطأت، وأنا أخطئ كثيرًا فى حق نفسى وأرتكب الحماقات، أتجنب دائمًا أن أؤذى أحدًا، ولكنى بمنتهى السهولة قد أتسبب فى أذية نفسى، ولكنى دربت نفسى على عدم الشعور بالندم، أتجنبه قدر استطاعتى وأقاومه وإذا حدث وتورطت فيه، وضبطتنى وأنا نادمة على شىء ما أو تصرف أو قرار أو اختيار، أحدث نفسى بصوت عالٍ، أنا لا أندم على شىء، اخترت وخلاص وغلطت ودفعت ثمن غلطتى، إذن لا مكان ولا وقت للندم.
كلنا فى لحظة ما نقدم على فعل الأخطاء «أصل إحنا مش ملايكة»، فالملائكة لا تسكن الأرض، وفى بعض الأحيان نستمر فى ارتكاب الخطأ، رغم أننا ندرك تمامًا أنه خطأ، لأنه يحقق لنا مصلحة أو هدفًا، أيًا كان السبب، لكن الاستمرار على الأقل هو اختيار.. وطبعًا ندفع الفاتورة، لأنه فى هذه الحياة لا شىء بلا ثمن، وعند الدفع تحاسب نفسك بل وتجلدها، «أنا إزاى عملت كده»، خلاص يا سيدى عملته، وبتدفع تمنه، اعتبره العقاب، عاقب نفسك كما تشاء ولكن لا تجلدها، لا تذبحها، والشعور بالندم يذبحها، عايز تندم وتتحسر اندم ولكنه مجرد تحصيل حاصل، يستهلك الوقت والجهد والتفكير، يستهلك عقلك وقلبك فى اللا شىء، ويمرضك، والغريب أن الندم عندما تفتح صندوقه لا ينتهى سريعًا، فيجعلك تلوم نفسك مرارًا وتشعر باليأس تكرارًا، وتفقد البوصلة، ولكن عدم فتح هذا الصندوق يساعدك كثيرًا على البدء من جديد بشكل سريع، وإعادة صياغة الحياة وحسن إدارة الأمور والظروف المتاحة.. لأن العمر «مافيهوش كتير علشان نضيع وقتنا فى الندم»، إياك أن تفتح الصندوق أو تغرق فى الدوامة.
إديث بياف عاشت حياة صاخبة بما فيه الكفاية منذ ولادتها وحتى رحيلها، نقطة البداية قدرية مثل جميع البشر، ولكن رغم البؤس الذى أحاط بها، فإنها استطاعت أن تشق طريقها إلى سماء باريس، لتصبح إحدى نجومها، خاضت معارك كثيرة من أجل الغناء والبقاء، وحتى قصة حبها كانت قاسية، فقد أحبت ملاكمًا وكان رجلًا متزوجًا ولديه أطفال، وكانت تعرف أن الطريق إلى العيش معه مسدود، ولكنها استمرت فى عشقها له ولم تستطع السير وراء العقل والمنطق، بل اندفعت وراء قلبها، فكتبت له أغنيتها الشهيرة la vie en rose (الحياة وردية) التى غنتها بكل إحساس وحب وغرام، والغريب أن القدر هو الذى فرق بينهما وليس ظروفه الاجتماعية، عندما توفى حبيبها فى حادث تحطم طائرة وهو فى طريقه لزيارتها فى نيويورك.. انهارت بعدها وأدمنت الكحول، وأصابها المرض، ولكن الفرنسيين يقولون عنها، رغم كل ما حدث لها، ماتت وهى غير نادمة على شىء، فقد ارتكبت أخطاء كثيرة ولكنها كانت تملك ذاتًا قوية تحزن ولا تنكسر، تحاسب نفسها ولكن لا تدخل فى دوامة الندم، ولم تندم يومًا على اختياراتها وحبها للملاكم المتزوج، وهناك من يقول إن القهر والندم هما من قضيا على إديث بياف فى وقت قصير وجعلاها تموت مبكرًا، لا أعرف الحقيقة ولكن ما أعرفه أن أغنيتها الأخيرة كانت تقول (لا، لا أندم على شىء) وأنا كذلك.