حكايات أسطوات الأغنية الشعبية «8»
عبدالعزيز محمود.. عدو عبدالوهاب الأول
وإحنا عيال كنا نفرح جدًا لما نعرف إن فلان الفلانى المشهور من بلدنا.. وكنوع من التفاخر والشعور بالزهو كان يسعدنا أن نقول إننا أبناء رفاعة الطهطاوى.. ونفضل ندور على لعيب كورة أو مطرب من عندنا ما نلاقيش مع إن داليدا كانت بتغنى «سوهاج بلد المواويل».. طب إزاى ما يبقاش حيلتنا مغنواتى واحد؟!.
وعندما جاء عبدالعزيز محمود إلى جرجا فى إحدى الحفلات التى نقلتها الإذاعة ظل الأهالى ولسنوات طويلة تالية يتفاخرون بأنه مولود فى قرية الحريزات الغربية بمركز المنشأة الذى كانت تتبعه قريتى إداريا حتى عام ٢٠٠٠م.
شركة «شل» طردته بسبب إصراره على الغناء.. ومدحت عاصم منحه الفرصة الأولى
عبدالعزيز محمود عبدالعال.. وهذا هو اسمه الحقيقى.. لم يحضر حفر القنال بالطبع.. ولم يسحبه أهل السخرة إلى هناك.. لكن ظروف وفاة والده مبكرًا جعلت منه رجلًا فى السادسة عشر راح يبحث عن لقمة عيش له ولشقيقه ووالدته التى صارت أرملة فى عمر مبكر فالتحق بالبمبوطية عاملًا فى بورسعيد.
سنوات قليلة وترك مهنة البمبوطية - عامل خدمات معاونة للسفن- إلى مهنة أخرى بشركة «شل الإنجليزية».. لكنه لم يهنأ بوظيفته طويلًا فقد تعرض لحادث اصطدام سفينة أصابت «رجله» اليمنى فاضطرت الشركة إلى نقله لوظيفة أخرى تتناسب مع ظروفه الصحية الجديدة.. عامل يستقبل التليفون والتلغراف.. ولأنه غاوى مزيكا وغُنا ولأنه كان يعتقد أن صوته جميل كما أخبره أصحابه البمبوطية الذين كان يغنى لهم فى وقت العمل وفى أفراحهم استمر فى ممارسة هوايته فى مقر عمله الجديد.. لكن مديره الإنجليزى لم يستطع استساغة ذلك النوع من الأغنيات الشعبية وطلب منه التوقف عن الغناء أثناء العمل أكثر من مرة.. لكن صاحبنا الصعيدى «ودن من طين وأخرى من عجين».. فما كان من الرجل إلا أن قرر طرده من العمل ودون أن تصرف له الشركة أى تعويض عن إصابته.. فقرر اللجوء إلى القاهرة ورفع دعوى للمطالبة بحقه.. وذهب إلى أحد أصدقائه بوزارة الزراعة وكان شقيقه يعمل فى قسم اللاسلكى «الهندسة الإذاعية».. بمبنى الإذاعة فتوسط له عند شقيقه واسمه عبدالعزيز رفعت ليتوسط له عند مدحت عاصم.. الإذاعى والملحن الشهير.. وفوجئ الرجل بصوت عبدالعزيز الخناجرى- اسم عيلته- وبخفة دمه التى انطبعت على أوتار حنجرته ومنحه أول لحن فى حياته.. لينطلق الرجل الصعيدى من بورسعيد بحثًا عن تعويض لقدمه المصابة ليصبح واحدًا من أهم نجوم التلحين والغناء والتمثيل لثلاثين سنة متتالية.
تزوج 5 مرات.. وقضى أوقاتًا فى السجن بسبب قضايا نفقة
لم يكتف عبدالعزيز محمود بما تيسر له من ألحان الآخرين.. فراح يبحث عن مؤلف ليلحن له أول أعماله «يا بلح يا منقط سمن وسكر».. حدد الرجل من اللحظة الأولى طبيعة ألحانه واستلهم إيقاعات السمسمية البورسعيدية.. ومواويل الصيادين معًا.
فتوالت أعماله التى بدأت بلحن لمدحت عاصم وآخر لزكريا أحمد ليتنقل إلى أغصان أخرى منها فريد الأطرش ومحمد فوزى.. وأخرى لحنها لنفسه كما لحن لآخرين.. ومن باب الإذاعة الذى دخله عبر صديقه موظف وزارة الزراعة.. صعد سلم الشهرة.. فانطلقت أغنياته تتجاوز حدود مبنى الإذاعة إلى «بوابة السينما» التى قدم من خلالها عشرات الأفلام لعب فى معظمها دور ابن البلد الحرفى الذى يغنى لمحبوبته بطريقة «أولاد البلد».. من أول «يا نواعم يا تفاح» وليس نهاية بـ«يا شبشب الهنا.. يا ريتنى كنت أنا».. مرورًا بـ«منديل الحلو.. يا منديله» وعشرات الأغنيات التى مزجت بين الغناء الشعبى المصرى «الحراق».. و«الإيقاعات الغربية» ليصبح واحدًا من أوائل من صنعوا «الفرانكوآراب» الأمر الذى جعله مطلوبًا للغناء فى كبرى محلات أوروبا.
أحيا حفل زفاف السادات بطلب من جيهان
فى وقت مبكر من رحلة عبدالعزيز محمود ارتبطت زيجات معظم أبناء الطبقة الميسورة بأغنياته وبحضوره نجما لأفراحهم.. وبعد أن «فتح عليه ربنا».. وسكن فى عمارة الإيموبيليا فى وسط البلد.. توجه إليه الرئيس أنور السادات ليطلبه مطربًا لحفل زفافه على جيهان السادات.. وقتها كان الرئيس السادات مجرد ضابط مفصول من الجيش على إثر اتهامه فى قضية مقتل أمين عثمان، وذهابه لنجم أفراح الكبار جاء تلبية لرغبة العروس التى تعشق عبدالعزيز محمود الذى رفض عرض السادات لارتباطه بفرح ابن أحد الباشوات.. فعاد السادات من لقاء الإيموبيليا لجيهان بلا اتفاق معتذرًا بأنه يطلب منها ترشيح مطرب آخر.. لكنها أصرت ألا يقام فرحها بدون عبدالعزيز مما اضطر السادات لتأجيل الزفاف أسبوعًا حتى يحييه مطرب «يا نجف بنور.. يا سيد العرسان».
يقول معروف نقلا عن أحد سكان العمارة ويدعى محمد إبراهيم.. إن أحد ملاجئ الأيتام قرر إقامة حفل غنائى يحييه عبدالعزيز محمود الذى طلب مائة وخمسين جنيهًا أجرًا له حصل عليها مقدمًا.. وقبل موعد الحفل بثلاثة أيام اتصل بإدارة الملجأ يطلب منهم إشراك راقصة معه طلب لها أجرًا ثلاثين جنيهًا.. لكن إدارة الملجأ رفضت إشراك راقصة فى الحفل.. فقرر «زيزو» إلغاء مشاركته وطلب منهم إرسال مندوب لاستلام «العربون» وما كان هذا المندوب سوى عبدالحليم حافظ الذى تعرف عليه لحظة وصوله لاستلام المبلغ مع زميلة له.. لحظتها قال لها.. زميلكم هذا أعرف أن صوته حلو.. خلوه هوه يغنى فى الحفل.. وهذا ما حدث فعلًا.. لتكون أولى حفلات العندليب.
ويبدو أن حليم لم ينس ذلك الموقف بعد شهرته.. فقد ذهب فى أحد الأيام إلى إحدى حفلات عبدالعزيز محمود ومن قلب الصالة نده عليه «يا عبدالعزيز» فإذا بالجمهور يتحول لصاحب النداء فيكتشف أنه حليم فيلتف حوله.. ليخرج العندليب مع الجماهير التى التفت حوله وتركت عبدالعزيز محمود يغنى للمقاعد الخاوية. ورغم طرافة المشهد.. إلا أننى أشكك فى حدوثه بذلك الشكل والعهدة على الراوى الذى نقل عنه محمود معروف.
لكن المؤكد أن عبدالعزيز محمود لم يكن يحب عبدالوهاب بل اتهمه صراحة بالسرقة عندما حاوره مذيع سورى فى إحدى رحلاته إلى دمشق سائلًا عن تلك الضجة التى أحدثتها روزاليوسف حول سرقات عبدالوهاب من «رءوف ذهنى» فعلق: «عبدالوهاب يسرق أى حاجة من أى حد».. فسأله المذيع وهل سرق منك.. فأضاف «يجوز»!.
زينات صدقى أعطته «علقة ساخنة» بسبب توبيخه لها وحصلت على ٢٠٠ جنيه تعويضًا
عبدالعزيز محمود الصعيدى الواضح الذى لا ينكر كرهه لعبدالوهاب وتفضيله لفريد الأطرش.. ومحبته له لأنه «سوىّ النفسية».. يبدو أن جرأته وصراحته الدائمة جعلته على غير وفاق مع النساء.. ومما يرويه شهود عصره أنه نال علقة ساخنة من الكوميديانة الشهيرة زينات صدقى بسبب هذه الصراحة.. حيث ذهب هو مبكرًا إلى موقع تصوير فيلم يجمعهما.. فيما تأخرت هى لأكثر من ساعتين وعندما وصلت للاستديو فوجئت به يوبخها بكلمات قاسية ولاذعة جدًا فصمتت تمامًا حتى انتهى ثم قالت «طب ما تاخدنى قلمين كمان» فأجابها «مش بضرب ستات»، فما كان منها إلا أن انهالت هى عليه ضربًا بشكل مفاجئ ثم خرجت عائدة لمنزلها وتركت التصوير فذهب لها المنتج ليسترتضيها.. فاشترطت الحصول على ٢٠٠ جنيه تعويضًا.. فوافق الرجل.. وأعطاها المبلغ فإذا بها تحصل على خمسين جنيهًا منها فقط.. وتعيد الباقى للمنتج طالبة منه أن يرسلها إلى عبدالعزيز محمود تعويضًا عن «العلقة التى أكلها»!.
خفة دم عبدالعزيز محمود التى اعتدناها فى الأفلام.. وابتسامته الدائمة.. لم تكن دائمة فى حياته الطبيعية.. ورحلته فى أيامه الأولى من سوهاج إلى بورسعيد إلى القاهرة.. وتنقله ما بين خمس زيجات فشلت باستثناء زوجته الأخيرة التى رافقته أيام مرضه.. كل هذا جعله رجلًا يخاف من السياسة وعوالمها.
إلا أنه مثله مثل معظم أبناء جيله شارك فى الغناء لثورة يوليو وأطروحاتها. ولأنه بالأساس عامل.. فقد كان من البديهى أن يخاطب تلك الفئة فى واحدة من أشهر أغنيات فترة عبدالناصر:
«مليون سلام يا مبدلين الخوف أمل
مليون سلام يا مبدلين النوم عمل
مليون سلام يا مكسرين بطن الجبل
فوق الجبين.. شايف بحور جهد وعرق
طول ما المكن يفضل يدور راح ينخلق
إنتاج.. وتكثر ثروتك
والخير يعود.. على أمتك».
المهم.. أن الرجل لم يزعم أنه «بطل الثورة» فى الغناء وجاءت مشاركاته محدودة فى خمس أو ست أغنيات إحداها للوحدة مع سوريا.. وأخرى فى احتفالات الجلاء.. إلا أن أميز ما ارتبط به من أغنيات وطنية كان يشبهه تمامًا.. ويعيده إلى مدينته التى تربى بها.. بورسعيد.
فغنى لها عقب العدوان الثلاثى:
«ست البنات انتى
يا بورسعيدية
سنيورة ولا غزالة
ولا حورية..
رقة خصالك
تزيد جمالك
المجد أخوكى
وأختك الحرية».
«ادلع يا قمر على وش الميه
واحكى لنا يا قمر ع البر شوية
يا بورسعيد اشتقنالك
م الفرحة جينالك
يسلم شبابك ورجالك
وادلع يا قمر».
«شال الحمام.. حط الحمام
على أرضنا
شمعك يقيد
يا بورسعيد.. فرح وهَنا
الفرحة تمت يا وله.. الفرحة تمت
وآدى الحبايب يا وله.. حوالينا اتلمت
فتح القنال يا وله.. فتح القنال
وشال الحمام..
حط الحمام..
على أرضنا».