رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ليتك كنت بارداً أو حاراً


عبارة خالدة عمرها نحو ألف عام، تصف الانسان الذى يحاول أن يرضى جميع الاتجاهات ويقبل كل المتناقضات ويحير المحيطين به، حيث لا يستطيع أحد أن يحدد اتجاهاته أو رغباته، فوصف بالفتور، أى ما بين الحسنيين، فالمشروبات الباردة مطلوبة فى حرارة الطقس،

بل حتى المرضى المحمومون عندما ترتفع درجة حرارتهم وتهدد الحرارة حياتهم يضعون على جسدهم الثلج لتهدئة الحرارة، إلى أن يقوم الدواء بإتمام هذه المهمة، فيكون الثلج واقياً سريعاً فى الوقت الذى يتعاطى فيه المريض الدواء المناسب.

وعلى الجانب الآخر، قد يحتاج المريض إلى تدفئة، فيستخدمون ذات القرب التى استخدمت مثلجة لتملأ بالماء الساخن حتى تزول رعشة البرد. وإذا ما انتقلنا من تجربة المرضى بالحرارة أو برعشة البرد إلى مرضى الإدارة الذين يجلسون على مقاعد السلطة التى تبدأ بمقعد حارس البيت إلى حارس المدينة ثم حراس الدول والمجتمعات التى ارتفعت وتقدمت، وعرفت أساسيات العمل ومسئوليات القيادة وقواعد الإدارة ودقة توصيف العمل، حتى إن كل شخص، رجلاً كان أو امرأة، عند قبوله فى وظيفة معينة يوقع على اختصاصاته بكل دقة، حتى إنه يسأل إذا ما قصد فى أى من واجباته، وله أيضاً أن يرفض أى عمل لا يدخل فى اختصاصاته، وهنا أتذكر عميد كلية فى برمنجهام وهو يحاضر فى مادة الإدارة قال: «طلبت يوماً من سكرتيرتى أن تعد لى فنجاناً من القهوة، فعادت إلى مكتبها وأحضرت صورة توصيف عملها الموقعة من رئيسها»، لتذكره بأن ما تعاقد به معها لم تجد به بنداً خاصاً بإعداد القهوة. ويقول الأستاذ معقباً: لقد اعتذرت لسكرتيرتى عما طلبته منها. وعلى الجانب الآخر، فإن السكرتيرة لم تكن بلا عمل ولم تكن تقضى الوقت فى تقليم أظافرها وعمل التريكو أو حتى مطالعة الصحف أو أحد الكتب، فالأعمال المسندة إليها تستغرق كل ساعات العمل، وإلا ما التحقت بالعمل، فللوقت قيمة، وقيمته هى المعادلة بين الأجر وما ينتج خلال ساعات العمل.

إنهم يعرفون جيداً كيف يوازنون بين العمل وحجم الإنتاج وما يدفع فى المنتج من مال، فعرفوا ما يسمى بالعمل الجزئى، فقد يعمل شخص لمدة يوم أو يومين أسبوعياً أو بضع ساعات يومياً، فالمعلم أو المعلمة الذى يعطى ساعة أو بضع ساعات بالمدرسة أو الجامعة لا يتقاضى راتباً مثل زميل آخر يعمل كل أيام العمل الأسبوع وطوال ساعات العمل.. إن ربط الأجر بالإنتاج هو أولى خطوات تقدم الأمم.

ومن هذه الأمثلة أعود إلى عنوان المقال التحذيرى الذى يخاطب كل إنسان من أدنى الدرجات الوظيفية إلى أسمى المواقع القيادية، وكلما ارتفع السلم الوظيفى كلما زادت المسئوليات وثقل حمل العمل ومعه المساءلة التى يزداد حجمها تزايداً مطرداً مع مكانة وقدر المقعد الذى يجلس عليه المسئول، فمسئولية مدير المدرسة أكبر من مسئولية معلم الفصل، إذ إنه متضامن مع كل العاملين بالمدرسة، من نظافتها إلى حراستها، وكذلك نتائج تلاميذها، وللدكتور طه حسين مقولة عندما أوكل إليه وزارة التعليم، إذ أصدر تعليماته إلى معاونيه «إذا لم يوجد مدير ناجح للمدرسة فالأفضل أن نغلق المدرسة».

أما آفة الإدارة وأهم سبب يؤدى حتماً إلى الفشل فهو أسلوب المواءمة، أى مجاراة الظروف وإرضاء الخواطر. سمعت أحد مديرى التعليم المسئول عن أهم مرفق فى طول المحافظة وعرضها قال: «عندما أولى وجهى إلى القاهرة حيث كرسى الوزير فإنى أرضى تعليمات الوزير وأوامره، وعندما أعطى ظهرى للقاهرة فى طريق عودتى لمحافظتى فإننى ألبى أوامر المحافظ، ومهمتى أن أرضى الاثنين مهما تناقضا أو تعارضا»!

إن المشكلة الحقيقية هى فى غياب الشفافية وتسلط من بيدهم السلطة، والخوف من الانتقام والتشفى، وغياب الضمير الحى، والمواجهة بصحيح القرارات التى من شأنها أن تؤدى إلى تحقيق العدل والإنتاج والإنصاف والتقدم الذى يشمل مناحى الحياة كلها، وكفانا فتوراً يؤدى بنا إلى حالة الغثيان المرضى المؤدى إلى الانهيار