رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رمانة الميزان


الطبقة الوسطى فى أى مجتمع هى القوة الدافعة له.. الدينامو والمحرك الرئيسى والطاقة التى تدفعه نحو التقدم والتنمية.. فهى الطبقة التى يخرج منها الأطباء والمهندسون والمدرسون والأدباء والشعراء والمثقفون، وأيضا الضباط والمحامون والقضاة وحتى الحكام.. لا يمكن لأى مجتمع أن يعيش دونها وإلا أصابه الخلل والارتباك ووقع فى فخ الأزمات.. فهى حلقة الوصل بين الطبقتين الدنيا والعليا وهى التى تحقق العدالة الاجتماعية وتحفظ التوازن الاقتصادى، لأنها الطبقة المنتجة والمستهلكة إلى حد كبير.

ولا شك أن الطبقة الوسطى فى مصر «رمانة الميزان» كما يطلق عليها، والتى تكونت -بحسب المؤرخين- خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر- تتعرض منذ فترة لأقصى درجات المعاناة والضغوط التى تبشر بزوالها تماما وليس تقلصها فقط.. رغم أنها الطبقة المعنية بحفظ التوازن وتعد العمود الأساسى فى البناء، وهى الطبقة الوحيدة بين الطبقات الثلاث التى يتكون منها المجتمع المصرى الخالية من التطرف، فالطبقتان العليا والدنيا يتطرف أبناؤهما بين الغناء الفاحش والفقر المدقع، لذا فهى غالبًا تخلو من الأمراض النفسية التى تصيب عادة أبناء الطبقات الأخرى والتى تؤدى بهم إلى الانحراف فى أحيان كثيرة، وهى أيضا الطبقة التى تحقق إلى حد كبير العدالة الاجتماعية وتضمن الرواج الاقتصادى.. ولذلك فإن المجتمع المصرى على شفا حفرة من الانهيار دونها.

وبعد الزيادة الكبيرة فى الأسعار والتى حدثت فى مصر مؤخرًا عقب قرار البنك المركزى تعويم الجنيه، والتى لم تقابلها أى زيادة فى المرتبات فإن الأسرة المصرية المتوسطة أصبحت الآن أسرة فقيرة وتركت «خط النُّص».. وأصبحت هذه المساحة فارغة، مما يرشح الصدام العاجل أو الآجل بين الطبقتين العليا والدنيا بعد اختفاء الطبقة التى كانت تحفظ النظام.

فقد تضاعفت الأسعار.. مما جعل الأسرة المتوسطة غير قادرة على الوفاء بمتطلباتها اليومية، من أكل وشرب وملبس وفسحة بسيطة فى آخر الأسبوع، وجعلت أبناءها لا يتلقون التعليم والثقافة كما ينبغى، فإن القول الشائع لآباء وأمهات هذه الطبقة كان «نحن لا ندخر أموالاً ولا أراضى ولا عقارات، بل إن استثمارنا فى أولادنا»، فأطفالهم لا يذهبون إلى المدارس الدولية كما أبناء العليا المنفصلين عن المجتمع والذين ينظرون للبلد بدونية شديدة تبشر بأجيال ليس لديها وطنية أو انتماء، ولا يذهبون كذلك إلى مدارس الحكومة مثل أبناء الدنيا، حيث لا تعليم ولا تربية غير حقدهم وكراهيتهم للمجتمع.. ولكن ارتفاع مصروفات المدارس الخاصة التى توفر قدرًا معقولًا من التعليم الجيد ومستوى أخلاقيًا مقبولًا، التى يتعلم فيها أبناء الطبقة الوسطى ارتفعت بشكل جنونى مما يترتب عليه اضطرار أولياء الأمور إلى نقل أبنائهم منها إلى المدارس الحكومية لتتسع دائرة الجهل، وحتى أسعار الكتب التى يحرص غالبية الأهالى من هذه الطبقة على شرائها لأبنائهم ومعها السينما والمسرح وكل متطلبات الثقافة والفكر والوعى أصبحت باهظة التكاليف، لن يقدر عليها إلا قليل.

كما أن أبناء الوسطى لا يسكنون فيلات وعمارات "الكمباوند".. حيث الرفاهية الشديدة ولا بيوت الأحياء الفقيرة حيث العشوائية المريرة فهم سكان المناطق المتوسطة أيضا وهو مايفسر اعتدالهم وحرصهم على التمسك بالأمان الذي يحقق الحد المتوسط من كل شيء وهو ما أصبح مفقودا الآن.

والنتيجة هى أن الطبقة الوسطى سوف تزاحم الطبقة الدنيا فى مكانها بعد أن انحدرت نحوها بشدة.. وفى هذه الحالة ينقسم المجتمع إلى طبقتين فقط، طبقة فقيرة وطبقة غنية، دون وجود ما يحفظ السلام بينهما وهى الوسطى التى كانت تحقق بموقعها فى المنتصف احتواء الفقيرة واستيعاب الغنية وبدونها تختل نظم القيم الاجتماعية والإنسانية، ويرتفع معدل الجرائم والانحراف.

إنقاذ الطبقة الوسطى حتمى وضرورى لإنقاذ المجتمع كله من الانحدار والانحراف.. وهو المطلوب أولا.