جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

وفاء النيل

اعتاد المصريون الاحتفال بعيد وفاء النيل فى شهر أغسطس من كل عام؛ إذ أدرك المصريون مبكرًا أن النيل هو سر الحياة. ربما يتضح ذلك إذا نظرنا إلى خريطة مصر والتقطنا عاليًا نهر النيل بفروعه، ماذا يبقى على الخريطة؟ صحراء جرداء هى امتداد طبيعى للصحراء الكبرى وصولًا حتى صحراء سيناء.

ومنذ التاريخ المصرى القديم قدس المصريون نهر النيل، فهو دموع إيزيس على أوزيريس ولكنهم أدركوا أيضًا الوجه الآخر للنيل، الوجه الغضوب الجبار، عندما يأتى النيل عفيًا يقتلع كل شىء، فالنيل كما يهب الحياة، من الممكن أيضًا أن يكون السبيل إلى الموت، إذا زاد النيل عن الحد، وأيضًا إذا شح النيل.

من هنا برع المصرى القديم فى ترويض النيل، ولذلك برع فى علوم الفلك والهندسة والرياضيات، من أجل حسن التعامل مع النيل وتنظيم الدورة الزراعية. لذلك يرد المؤرخ المصرى شفيق غربال على مقولة هيرودوت «مصر هبة النيل» قائلًا: «مصر هبة النيل وهبة المصريين».

وكان المصرى القديم يحتفل بعيد وفاء النيل، أى عندما يفى النيل بكميات المياه اللازمة للزراعة والحياة. وهناك فرية تاريخية عن عروس النيل وتضحية المصريين ببنت مرة كل سنة بإلقائها فى النيل. وهو ما لم يحدث فى التاريخ القديم؛ إذ لم تعرف مصر القديمة الضحية البشرية، وغالبًا ما كان يتم إلقاء دمية عروس فى النيل. لكن بالقطع انتشرت أسطورة عروس النيل حتى إنها ظهرت فى الفيلم الشهير «عروس النيل» الذى قامت ببطولته لبنى عبدالعزيز.

وفى العصر القبطى استمر المصرى فى تقديسه النيل والاحتفال بوفاء النيل، وكان هناك عيد إصبع الشهيد، حيث يتم وضع إصبع أحد الشهداء فى النيل حبًا وكرامة، من أجل فيضان النيل. كما زحزح القبطى موعد شم النسيم، ليأتى بعد عيد القيامة من أجل الاستمرار فى الاحتفال بعيد الربيع والحصاد، وكانت السمكة دائمًا هى رمز الحياة والتجدد.

وفى العصر الإسلامى تصف المصادر التاريخية نهر النيل وصفًا بليغًا، وتجمع هذه المصادر على أن النيل هو نهر من أنهار الجنة، ويذكر البعض أنه ينبع من الجنة. ويحتفظ العصر الإسلامى لنا بمقياس النيل فى روضة المنيل شاهدًا على الاهتمام بالنيل وفيضانه. وتزخر المصادر التاريخية فى العصرين المملوكى والعثمانى فى وصف احتفال المصريين بوفاء النيل، ومظاهر الاحتفالات المختلفة، رغم رفض الفقهاء المتشددين لذلك.

وانعكس عشق المصريين للنيل على الفن المصرى، سواء فى الأغانى الشعبية، أو الأمثال الشعبية، أو حتى الغناء الحديث. هل ننسى عبدالوهاب ورائعته «النيل نجاشى»؟ وفى السينما، وكما أشرنا من قبل حاول فيلم «عروس النيل» التنبيه إلى أهمية الاحتفال بعيد وفاء النيل. وفى أفلام يوسف شاهين نجد فيلم «ابن النيل» وأيضًا «الناس والنيل». هذا فضلًا عن كنز ثمين من الأفلام التسجيلية عن نهر النيل.

أتمنى أن تحتفل مصر هذا العام احتفالًا عالميًا بوفاء النيل لنذكر العالم بأهمية النيل، وللفت الانتباه إلى مسألة سد النهضة الإثيوبى وتداعيات ذلك على مصر.