جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

نجيب محفوظ وأحمد عدوية!

أشهد أننى من عشاق محفوظ وأسلوبه السردى ورؤيته للمجتمع المصرى، وما زلت أتذكر ما قاله الأب جاك جومييه عن أهمية أعمال محفوظ عندما رأى أنه لا يمكن التأريخ للمجتمع المصرى بين الحربين العالميتين دون الرجوع إلى ثلاثية محفوظ.

ولكن ما يبهرنى فى محفوظ حقيقةً هو قدرته الفذة على تفهم متغيرات الأزمنة المختلفة التى عاشها، وقد مد الله فى عمره حتى قارب القرن، إن عقلية محفوظ فى حقيقة الأمر متجددة، غير رافضة لواقعها، بل تفضل تحليل الواقع وتفهم دوافعه. هل يعود ذلك إلى دراسته الفلسفية؟ أم إلى روحه المتجددة والساخرة؟ لا أدرى.

ما يهمنى هنا هو رؤية محفوظ لظاهرة أحمد عدوية، وهى من أهم ظواهر السبعينيات، ليس على المستوى الغنائى فحسب، ولكن وبشكل أساسى على المستوى المجتمعى. ما زلت أتذكر فترة شبابى، وكيف كان الطلاب فى الصفوف الخلفية فى طابور الصباح فى المدرسة يغنون أغانى عدوية، بينما الإذاعة المدرسية تعزف الأناشيد الوطنية، وربما كان ذلك مظهرًا من مظاهر الرفض والاحتجاج على عالم السبعينيات، وما أدراك ما السبعينيات!

فى البرنامج الإذاعى الشهير «شاهد على العصر» وجه المذيع سؤالًا مباشرًا إلى الأستاذ محفوظ: «ما رأيك فى أغنية اليوم؟» وبكل بساطة أجاب محفوظ بأنه «سميع»، رجل له تذوق لكل أنواع الغناء. وراح محفوظ يُعَدِّد المفضلين لديه: عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم. كما أبدى إعجابه بالفرق الغنائية الجديدة، التى اشتهرت آنذاك- السبعينيات- مثل نوح والمصريين والأصدقاء.

وإلى هنا الإجابة تقليدية، أو شبه تقليدية، مع ذكر إعجاب الأستاذ بالفرق الشبابية آنذاك. لكن المذيع فوجئ بما قاله محفوظ بعد ذلك عن إعجابه الشخصى بعدوية: «هناك أغانٍ حديثة تقاطعها الإذاعة مثل أغانى عدوية، أجد فيها كلامًا وألحانًا تمشى معى أيضًا». لكن المذيع أبدى انزعاجه من رأى محفوظ- ولم يكن قد أصبح محفوظ نوبل بعد- فى عدوية، ووجه المذيع سؤاله من جديد لمحفوظ، لعله ينجح فى تغيير رأيه فى هذا الشأن: «ولكنك طبعًا لا توافق على أن تحتل هذه الألوان خريطة الغناء فى مصر؟» ولم ينجح المذيع فى تغيير موقف محفوظ، الذى أجاب بطريقته الساخرة: «يجب أن تعلم أن هذه الأغنيات لم تنشأ من فراغ، ألا يسمعه الملايين؟ بلى؛ إذن فهى غناء. أم تظن أن الغناء هو ما يعجبنى أو يعجبك فقط؟ ألا يسُمى الذى يُعجِب الملايين غناء؟».

وراح محفوظ يُذكرنا بالتاريخ، وأن ظاهرة عدوية ليست بالجديدة: «للعلم كان هناك دائمًا فنان أو أنواع من الفن فى مصر والعالم، فن عماد الدين ورمسيس للمثقفين، وفن فى روض الفرج للطبقات الشعبية. وإلى جانب سيد درويش وأم كلثوم وعبدالوهاب، كان يوجد شكوكو والجزايرلى».

ومن وجهة نظر اجتماعية مع رؤية فلسفية ساخرة، يحلل محفوظ ظاهرة عدوية دون تعالٍ، وفى الوقت نفسه منصفًا إياها: «هى ترجمت فوضى العصر فى قالب غنائى جميل، أُطرَب لها وأجد صلة بينها وبين فوضى العصر».

تُرى كيف كان الأستاذ نجيب محفوظ سيرى ظاهرة أغانى المهرجانات الآن؟