جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

عبدالوهاب.. عندما يتحدث عظيم عن عظماء

محمد عبدالوهاب
محمد عبدالوهاب

أم كلثوم.. زعامة الصوت

من أهم مزايا أم كلثوم.. زعامة الصوت.. فالصوت كالمظهر الشكلى للإنسان..

أحيانًا يدخل عليك شخص فتجد فى قوامه وارتفاع هامته وسمات وجهه ما يأخذك ويجعلك تحترمه وتجله.. وصوت أم كلثوم يتمتع بهذه الصفات.

ومن مزاياها أيضًا تقديسها لفنها.. والمحافظة عليه فهى بذكائها تشعر بأنه لا يمكن المحافظة على فنها إلا بالاستقامة فى حياتها الخاصة، فهى تنام مبكرًا ولا تقابل أى شخص إلا إذا كان هناك عمل.. ولا تهتم بالزيارات الخاصة إلا بما يحتم عليها الواجب. وبالرغم من اشتهائها بعض ما يتمتع به الإنسان العادى، فإن إرادتها كانت أكبر من كل مظاهر الاشتهاء.

ولقد كان غياب أم كلثوم سببًا فى هبوط مستوى الألحان، خصوصًا بين الناشئين من الملحنين وملحنى الدرجة الثانية، لأن أم كلثوم كانت أملًا لهؤلاء جميعًا، كانت هدفًا يريدون الوصول إليه.. فأم كلثوم غنت للسنباطى وهو ناشئ وغنت لبليغ وهو ناشئ.. وغنت لسيد مكاوى، وهذا كل أمله.

كل هؤلاء وغيرهم كانوا لا يطمعون فى شىء أكثر من عرض أعمالهم فى «ألمع» فاترينة وأكثرها انتشارًا على العالم وهى أم كلثوم.. وحتى غيرهم من الملحنين كانوا يتنافسون إلى الأجود؛ لأن التى تغنى لهم أم كلثوم.. الصوت الذى ينتظره مائة مليون شخص.

وبعد جنازة أم كلثوم وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ.. أدركت أن الجماهير كفرت بالزعامة السياسية واتجهت للزعامة الفنية فى مصر.

نزار قبانى.. رسام بالكلمات

الشاعر نزار قبانى ينظم الشعر بعينيه لا بقلبه.. فهو مصور.. أشعاره لوحات جميلة بأسلوب جذاب بسيط رشيق.. لم أشعر فى شعره بانتفاضة قلبه.. أو بمأساة عاشها. أو مشكلة مر بها. واعتصرت قلبه وصاغها شعرًا.. بل إنه مصور.. وقد كشف هو عن نفسه، فقد أصدر ديوانًا من الشعر عنوانه «الرسم بالكلمات»، إنه عندما ينظم بلسان المرأة فإنه يرى مشاكلها ويرقبها بدقة ويصورها نظمًا.. لأنه يحس بإحساس المرأة بصدق.

وأنا لم أقرأ له شعرًا حزينًا أو به من الشجن ما يجعلنى أحس بأنه التاع وسهر وبكى.. إنه رسام بالكلام.. كما قال هو.

إن نزار عندما يعانى مشكلة ينفصل منه نزار آخر يرقبه فى محنته ويسجل عليه تصرفاته.. ثم بعد ذلك ينضم إليه ليصبح نزار الشاعر يكتب ما رآه شعرًا.. إن نزار يخاطب المرأة والحب كأنه إمبراطور يأمر فيطاع وإنه يتفضل على الحب والمرأة بما يجود به.. لم أشعر ولم أتصور أبدًا أن نزار يركع على قدمى محبوبته أو أن يتذلل لها.. إنه أرفع من هذا. إنه ليس بإنسان يلتاع ويهيم.. إنه ملك.

والفرق بين نزار قبانى وغيره من الشعراء القدامى أن شعر نزار ببساطة أسلوبه وألفاظه أصبح شعرًا جماهيريًا لا يحتاج إلى غنائه مثل الشعر القديم الذى كان لا يصل للجماهير إلا عن طريق الغناء. ولا شك أن شعر نزار وصل للناس دون غناء قبل أن يزيده الغناء جمالًا.. أى أن نزار قرأ شعره من أجله.. لا من أجل أى مغنٍّ يغنيه.

والشعر قبل نزار قبانى كان لا يقرأه ويفهمه ويستمتع به إلا المثقفون، وجاء نزار ونظم شعرًا يقرؤه ويفهمه ويستمتع به المثقفون وغير المثقفين على السواء.

فيروز.. سلطانة الأغنية القصيرة

عندما أسمع فيروز أشعر فى لحظات بالنغمة التى تغنى بها.. تشدنى إلى جو النغمة بسرعة.. لا أحتاج إلى وقت طويل لأتبين من أى نغمة هى تغنى.. وهى لا تحتاج لوقت من أجل أن تنطلق وبالتالى تسلطن المستمع.

وهذا هو السر فى أنها أقدر المطربات فى تأدية الأغانى القصيرة. لأنها تطربك فى أقصر وقت وتخرج من الأغنية وكأنك استمعت إليها فى ساعات، وذلك لأنها أشبعتك فى مدة قصيرة.. كما تشبعك غيرها فى مدة طويلة.

والسبب هو أن فيروز من أول ما غنت، غنت على آلات ثابتة سليمة المقامات كالبيانو مثلًا.. والبيانو عند الرحبانية لا يشارك فى ألحانه على أنه آلة «للسلوهات» أبدًا.. إنهم يدخلون البيانو ليثرى اللحن دون أن تلمحه أو تتعرف عليه.. فهم يكتبون نوتة اللحن الأصلى ويعطونها للبيانست ثم يملأ البيانو اللحن انتقالات على مقامات اللحن الأصلى صعودًا وهبوطًا بحيث إن المستمع يشعر بأن هناك آلة تثرى اللحن من غير أن يدرك ما هذه الآلة، وربما لا يدرك الفنان ذلك أيضًا لأنهم يبعدون البيانو بعدًا يحقق الجو الفنى من غير أن تتعرف على مصدر عطاء هذا الجو.

فالآلات الثابتة خصوصًا البيانو ثم الأوكورديون ثم الآلات الخشبية تصلح عندما يغنى معها المطربون والمطربات من الصغر، فتتعود أصواتهم إخراج المقامات سليمة وصحيحة لأن علاقة المقامات بعضها ببعض والآلات الثابتة سليمة ولا تتأثر بمزاج عازف عن عازف، أو حتى بمزاج عازف بعينه ربما يخضع مزاجه فى الأوقات المتفرقة التى يعزف فيها إلا بتغيير لبعض المقامات.

والآلات الثابتة أصواتها لا تتغير.. لا يرتفع مقام عن مقام.. أو ينخفض مقام عن مقام.. كذلك الصوت مع التعود المستمر يصبح صوتًا سليمًا دقيقًا يدخل النغمة التى يغنى منها فى دعم المستمع فى لحظات ويوفر عليه وعلى المستمعين الوقت الطويل الذى يقضيه فى سلطنة نفسه ليطرب المستمعين.

سيد درويش.. العبقرى

يخطئ من يتصور أن سيد درويش أغنية أو لحن.. إن سيد درويش فكر. تطور. ثورة. فسيد درويش هو الذى جعلنى أستمتع عند سماعى الغناء بحسى وعقلى.. بعد أن كنت قبله أستمتع بحسى فقط.. إنه فكرة العصر التى لولاها لما لحن الملحنون بالأسلوب الذى يلحنون به الآن، ولا ننسى أنه أول من أدخل اللهجة المسرحية السليمة الحقيقية للأعمال الغنائية المسرحية.

من أفضال الشيخ سيد درويش على الألحان العربية أنه أدخل الأسلوب التعبيرى فى ألحانه حتى فى الأدوار التقليدية الكلاسيكية التى لحنها.. ويظهر هذا جيدًا فى أدواره الثلاثة التى لحنها فى المسارح الغنائية، وهذا يدل على أنه بفطرته تعبيرى، وبطبيعته مسرحى.. والمسرح هو المكان الطبيعى للتعبير.

ومن أفضاله أيضًا أنه كسر المقامات المتجاورة فى لحنه.. فقبل الشيخ سيد كان الملحن يتحسس المقامات، أى يحوم حول مقامات النغمة مقامًا مقامًا، ولا يجرؤ على أن يقفز من مقام إلى مقام على مسافة بعيدة.. خوفًا من الضياع أو من النشاز، وإذا قفز، فإنه يقفز فى حدود المقامات المعدة لها أذن المستمع.. كالثالث أو الخامس أو «جوام» النغمة مثلًا.. فجاء الشيخ سيد وقفز قفزات غير موجودة فى أذن المستمع ولا هو مهيأ لها، وكأنه بذلك يريد أن «يلطش» المستمع.. ويقول له تنبه وتتبع لما أُسمعك إياه، ويظهر هذا جيدًا فى الآهات الموجودة فى دور «ضيعت مستقبل حياتى».

وكان الملحنون قبل سيد درويش لا يفكرون كثيرًا فى التعبير باللحن عن معنى الكلمة.. فربما تسمع لحنًا حزينًا على كلام كله بهجة وفرح.. وربما تسمع لحنًا مفرحًا على كلام قاتم وحزين، لأن الغرض كان الطرب وإبراز مواهب المؤدى من قدرات صوتية، وكان الغناء، وهو متعة حسية فطرية قبل أن يكون متعة عقلية.. كان الغناء والكأس.. والليل هى كل شىء.. متعة حسية وطرب بالفطرة.. وجمال لحنى.

سيد درويش له أفضال كثيرة على كل ألوان الغناء من توشيح ودور وأغنية خفيفة وأغنية شعبية ومسرح .. وكان مفهوم الدور أو الغناء أنه تكملة للسهرة الحلوة من شراب ومزة.

وكان الدور يجب أن تكون فيه البهجة والظرف وكفى.. فنجد مثلًا حوارًا بين المغنى والمرددين، مثل سيدى يا ملك.. عينى يا ملك.. ومثل زعلان ليه.. كده كده زعلان.. والعجب.. العجب.. وكل هذه الجمل ملحنة بكل الهيصة والرتم الراقص حتى لو كان الكلام حزينًا، مثل زعلان ليه.

وجاء سيد درويش وخلع على الدور نوعًا من الدراما. والدراما شجن.. وألم.. وشوقى قال.. أنبغ ما فى الحياة الألم.. والألم جدية ومعاناة، ولذلك نسمع أدوار الشيخ سيد درويش مثل «أنا هويت».. و«ضيعت مستقبل حياتى».. فتحس بالجدية والتفكير والتعبير عن الكلمة بما يتفق ومعنى الكلام بالموسيقى والمعاناة، ثم نجده فى التواشيح أيضًا فذًا ومبدعًا.

لقد ابتكر ضربًا وإيقاعًا جديدًا لم يُعرف من قبل، وهذا الإيقاع سماه «فكرتى»، وهو عبارة عن السماعى الثقيل زائر بلانش.. أى أن السماعى الثقيل عشرة ٨ من ٨ وفكرتى ١١ من ٨ ولحن عليه كلامًا مطلعه «حبى دعانى»، وفى الأغانى الشعبية نجده فذًا، فلا يوجد لحن له لم يغنه الشعب.. وفى المسرح وجد الأرض التى يريدها.. والتى يحبها.. وهو الأسلوب التعبيرى، وقد تألق فيه وكان رائدًا له.

أنور منسى.. الإحساس المرهف

ميزة أنور منسى أنه تعلم العزف على الكمان بالطريقة والعلم الأوروبى تعليمًا جيدًا، وهو أيضًا يعزف الأنغام الشرقية بإحساس مرهف وتربى فى بيئة عربية موسيقية.. فأبوه عازف قانون وكذلك شقيقه.. فإحساسه شرقى مائة فى المائة.. ويعزف الموسيقى الغربية على الكمان مائة فى المائة وكانت عنده ملكة الانتفاع بما تعلمه..وأيضًا ملكة إدماج نسيج على نسيج. 

وعندما كان يعزف جملة شرقية بحتة ينتفع بما تعلمه من الغرب من أصول استعمال القوس.. وانتقال يده على رقبة الكمان والذى يسمى «بالبوزسيون»، وبهذا نسمع منه الجملة الشرقية بطعم وبمذاق يختلف عن عازف لم يتعلم العزف بالطريقة الغربية.. نحن نريد فى كل أفرع الموسيقى أنور منسى.

عبدالحليم حافظ

وجه عبدالحليم جمل القبح.. عبدالحليم لا يصدق إلا حينما يغنى.. كان عبدالحليم ضعفًا وقوة.. ولم أجد فى مسلسل العندليب إلا ضعفه.

رياض السنباطى

اتزان واحترام.. أحس فى ألحانه بفخامة بها قدم.. وأحس بأنه لا يريد متعمدًا أن يخرج عن هذا.

كمال الطويل

أحس فى ألحانه بأنه يحاول أن يفعل شيئًا.. ولكنه لم يصل بعد إليه وأنه قد عانى فى ذلك.. وكمال الطويل.. عمل فنى متكامل شديد الجمال والانسجام بالرغم من أنى لا ألمح فيه ومضات باهرة.

بليغ حمدى

ومضات من ألماس مركبة على تركيبات من الصفيح.. أحس فى ألحانه بأنه عثر على جملة جميلة تدخل فى وجدان الناس لما فيها من جمال وشخصية وقد أحاطها بأى كلام ليكون قد انتهى من عمل يحسب له.

زكريا أحمد

بمجرد أن تسمع لحنًا له أو تسمعه شخصيًا يشدك إلى عصره فى يسر.. وتعيش فى متعة تشبه متعة السائح الأوروبى الذى يتجول فى الغورية.

المصدر

كتاب «عبدالوهاب.. أوراقه الخاصة جدًا» صادر عن «كتاب اليوم».