جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

السعادة مغنم منتظر

«فى وقت منتظر نتطلع إلى كل ما هو موجود بصعوبة شديدة التحقيق لندرك أن الغرابة هى فى كل ما حولنا».. المقولة لجيمس هيلتون عن مغنم السعادة المنتظر.. ويواصل: و«كانت الطائرة محلقة على ارتفاع سبعة وثلاثين ألف قدم فوق جبال الهيمالايا، وبهدوء نزل الطيار بمسرة وهدوء متطلعًا إلى ما حوله متأنيًا فى فتح باب الخروج كما نصحت بالتأنى والهدوء، ولوقت ليس بقليل لم أرَ شيئًا غير سحابة أشبه بملاءة صلبة من السحب، وأنا فى دهشتى وإذ بمنظر السحب يتلاشى، وكأنها لم تكن قائمة، والجبال تكشف ذاتها وكذلك التلول».. ويضيف:

- «كان ومن حولى كثيرون وهم يحملون كاميراتهم متطلعون لالتقاط صور الطبيعة الخلابة، أما أنا فكان كل تفكيرى مختلفا عن تطلعات كثيرين ممن حولى حيث كنت متطلعًا إلى عالم آخر وفى زمن آخر، فالزمن الذى أقف أمامه هو عام ١٩٣٣، وهذه الطائرة كانت من الغرابة بحال كيف حلقت فوق جبال الهيمالايا وعليها ثلاثة من المنطقة والرابع أمريكى»؟.. ويستطرد:

-«الطائرة باردة والمقاعد صلبة وهؤلاء يحاولون الهتاف ولكن الصوت لم يكن واضحًا مع ارتفاع صوت محركات الطائرة، وبالعموم فالمشهد لا يمكن نسيانه وقائد هذه الطائرة يدرك يقينًا أنه فى منطقة مجهولة ومن عليها فى حكم من خطفوا ولم يمر وقت طويل حتى ندرك أننا فى سلام تام وحولنا طائفة من المتوحدين يتغنون بألحان عذبة وآلات طرب تفوق الخيال حيث تواجدوا فى موقع كأنه قد فاق طبيعة الكرة الأرضية بكل حال، لقد وجدنا نحن الأربعة فى عالم آخر بكل المقاييس، فنحن فى جنة أخرى لراحة الفكر والجسد والأمانى والآمال، إنه مكان راحة بكل المقاييس».

ويعرف الفيلسوف زيجمونت باومان السعادة أنها «كفاح وليست مكافأة، مكابدة وليست فرحا دائمًا، وهذا هو سر الحياة»، لكن ما الذى يخبرنا به العلم الحديث عن كيفية فهم الإنسان لشعور السعادة؟؛ السعادة إذن هى شعور ممكن دائمًا؛ فهى لا تكمن فى سعادة المترفين وذوى البطون الشبعة؛ بل تكمن فى بهجة الحياة حينما نحب وحينما نبدع فنا، وحينما نسعد بولادة حقيقة ما، نحن نسعد بكل تغيير بهيج لما يحدث لنا، حيث إنه لا ينبغى أن نتأمل الوجود وأن ننعم بدفء أحضان مساحة الراحة والروتين، إنما علينا الذهاب دومًا لملاقاة الحدث وتعلم الجديد، حدث ما؛ هو ذاك الذى يغير نظام العالم.
وفى عالم يكاد يؤسس منحدراته على السعادة، بما يحصل فيه من ضروب البؤس والتعاسة، تبقى السعادة كما عرفها الغزالى فى معرفة الإنسان لنفسه وقلبه ومن ثم معرفته لخالقه، فالقلب مخلوق ليسعد بالتغيير المناسب فى حدود المتاح.
أما فى كتاب الأخلاق لسبينوزا ١٦٣٢- ١٦٧٧ نجد أن السعادة هى الغبطة التى ندركها حينما نتحرر من عبودية الأهواء ومن الخرافات والأحكام المسبقة.. وينطلق سبينوزا من تعريف للإنسان بوصفه رغبة فى ماهيته «لذلك فإن قدره الوحيد هو الفرحة بالوجود، وأن الإنسان عنده قادر على أن يكون سيدًا على رغباته عبر التفكير، ولذلك يمكنه إدراك البهجة التى- دونما تضحية بالرغبة - بوسعها أن تؤول إلى غبطة؛ أى إلى فرح تام ودائم.
لكن يذهب نيتشه، وخلافًا لأفلاطون وأرسطو وغيرهما من الفلاسفة، إلى أن تصادم الرغبات وليس انسجامها يمكن أن يكون أمرًا مرغوبا فيه، فالرغبات تكون كذلك حينما تكون مصدرا لنوع معين من الابتهاج، وحافظا لذلك النوع من الإنجاز الذى يراه نيتشه والذى يعده هائلا ومؤثرا، وهو يذهب إلى أن تضارب الأهداف يمنع الحياة من أن تستتب فى حالة من الروتين الممل، وأن تقاوم ذلك النوع من السعادة الذى يريده أغلب الناس.
أما فى العصور الوسطى، فقد ظهر توما الأكوينى وقبله أوغسطين، وهما يكادان يعدان أبرز فلاسفة العصور الوسطى، ويعدان الممثلين الحقيقيين للديانة المسيحية على امتداد العصور.. وللحديث بقية.