جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

نظرة إلى أحوالنا

فى طريقى، أمس الأول، لحضور المؤتمر والمعرض الإفريقى الأول للصحة والدواء قطعت المسافة من التحرير إلى التجمع الخامس فى عشرين دقيقة، قادنى جوجل لنفق الأزهر ثم لصلاح سالم وانحرفت عبر المقابر لمحور جديد فوجدت نفسى فى التجمع الخامس.

هذه الرحلة كانت منذ أربع سنوات فقط تستغرق من ساعة ونصف الساعة إلى ساعتين، لفت نظرى أن المقابر نفسها تم تطويرها وإحاطتها بسور حجرى، وأن القباب الأثرية تمت إضاءتها والعناية بها بشكل مميز، هذه المنطقة كانت قبل تطويرها منطقة عشوائية تختلط فيها المقابر بالمساكن بالورش بالحيوانات الأليفة والضالة.

التطوير حظى بهجوم كبير جدًا، ولكن الواقع كان له رأى آخر.. ما يشغلنى هو قضية «الإنصاف» فى التعامل مع واقعنا دون تهويل أو تقليل.. هناك إنجازات لا ينكرها إلا مكابر، وهناك أزمة خلقها ظرف عالمى مركب.. تحضير الناس للأزمة لا يعنى أن نجعل الدنيا سوداء فى عيونهم، ولا أن نفقدهم الثقة فى المستقبل، بالعكس.. علينا جميعًا أن نفخر بما تحقق وهو كثير، وأن نصمم على أن نكمل ما بدأناه.. وعلى الإعلام أن يخفف عن الناس وأن يرفّه عنهم، وأن يعود لوظيفته فى التسلية والإمتاع إلى جانب وظائفه الأخرى فى التوعية والتنمية.. من المهم جدًا أن نعرف ماذا يدور فى العالم حتى نعرف موقعنا منه.. قبل أن أكتب مباشرة وجدت تغريدة على تويتر لطبيب مصرى مهاجر لبريطانيا.. هذا الطبيب يقول إنه ومهنيين كثيرين هاجروا منذ خمسة عشر عامًا وناجحين فى أعمالهم ومع ذلك يشعرون بالندم.. يقول إنه رغم عمله الجاد والناجح فى لندن لن يستطيع أن يقدم لأبنائه ما قدمه أهله له.. يقول إن أهله أنفقوا على تعليمه الجامعى وساعدوه فى نفقات الزواج والسكن، وإنه لا هو ولا أى من أصدقائه يمكن أن يفعل هذا مع أبنائه.. لا بد أن يعمل الابن أثناء الدراسة الجامعية ويساعد نفسه لأن دخل والده المهنى الناجح لن يسمح بالإنفاق عليه.. هذا الطبيب كما يبدو ليس من أهل التأييد وليس من أهل المعارضة، لكنه يقول فى تغريدته: «تكاليف الحياة فى لندن تشتعل هذه الأيام.. أسعار الطاقة.. التضخم.. بالإضافة للضرائب وزيادة التأمين.. وهذا يعنى أن قوة الدخل الشرائية قلت بحوالى ٢٥٪ من قبل الوباء.. وغير منتظر أن تتحسن قبل سنوات»!! هذا هو الواقع فى إنجلترا.. واحدة من الدول الصناعية السبع وصاحبة الاقتصاد الكبير والإمبراطورية التى لم تكن تغيب عنها الشمس كما كانت توصف.. ولكن لا أحد هناك يمارس النواح ولا يلون الأفق أمام الناس باللون الأسود ولا يتهم الحكومة ومشاريعها القومية بأنها مسئولة عما حدث.. يقول الطبيب إن الكثير من المهاجرين لبريطانيا أرسلوا أسرهم إلى مصر وبقوا بمفردهم فى لندن لأن الحياة فى مصر أرخص بما لا يقارن بلندن.. هذا هو واقع واحدة من أكبر دول العالم.. تعال ننتقل للجانب الآخر، سنجد تقريرًا للأمم المتحدة يتحدث عن أربع عشرة دولة تعانى خطر نقص الغذاء نتيجة الأزمة العالمية.. بكل تأكيد مصر ليست منها ولا يحتمل أن تكون منها بنسبة واحد إلى مليون حتى.. كل شىء متوفر رغم الغلاء الذى يعانى منه العالم كله وليس مصر فقط.. إن إحدى أكبر مشاكلنا كشعب أننا لا ندرى ماذا يدور فى العالم.. ولا نهتم سوى بأنفسنا فقط ونريد أن نحصل على كل شىء بأقل مجهود ممكن ونعلق كل مشاكلنا على شماعة «الفساد» و«سوء الإدارة» وننسى أن أحد أسباب مشاكلنا هو عدم قدرتنا على العمل والابتكار والتصنيع وتنظيم الوقت وتحرير العقل مثل الآخرين.. هناك مناخ متوارث من ابتزاز الحكومات ومطالبتها بحل كل المشكلات وتوفير كل المستلزمات والإتيان بلبن العصفور بينما المواطن جالس على المقهى ينتقد محمد صلاح ومجدى يعقوب ومصطفى مدبولى وكل من ينجز شيئًا ناجحًا فى هذا البلد.. فى مؤتمر الصحة والدواء الإفريقى الأول ذكرنى حديث الرئيس عن فيروس سى بمشروع فيلم تسجيلى ألح علىّ بشدة أثناء عملى فى إحدى القنوات الفضائية عن حياة الناس التى تغيرت بعد علاجهم من فيروس سى.. كنت أريد أن أصور مع مصرى واحد فقط لأرى كيف تغيّرت حياته وحياة أسرته بعد علاجه من هذا المرض القاتل.. الأجيال الجديدة لا تعرف أن ملايين المصريين أُصيبوا بهذا المرض لأسباب تاريخية.. وأنه كان أحد أسباب تراجع فرص العمالة المصرية فى الخليج.. وأن ملف الصحة كله شهد تراجعًا مزريًا فى مصر قبل ٣٠ يونيو ٢٠١٣ لأن أنظمة الحكم لم تؤمن بالحقوق الاجتماعية للمصريين.. كان أحدهم يشيح بيده للمصريين قائلًا «أجيب لكم منين؟».. كان الحديث عن تدهور صحة المصريين وانتشار الأمراض إحدى أوراق تسخين الوضع قبل يناير ٢٠١١.. كانت هناك مبالغات تستند إلى واقع على الأرض.. قبل الرئيس التحدى ودخل فى مفاوضات مع شركات الدواء للحصول على أسعار خاصة للدواء، ودفعت الدولة ٣ مليارات جنيه تم تدبيرها فورًا.. وكانت النتيجة شفاء ٢ مليون مصرى من هذا المرض اللعين والقاتل.. مصريون بسطاء عادوا للعمل والإنتاج والحياة الطبيعية بفضل الاهتمام بملف الصحة وبحق الناس فى العلاج.. نفس الأمر ينطبق على مبادرة «١٠٠ مليون صحة» التى كانت أول تعامل بينى وبين وزارة الصحة المصرية منذ تلقيت لقاح الجدرى وشلل الأطفال وأنا طفل صغير.. مبادرة تسجل بيانات المصريين الصحية وتكتشف الأمراض وتحيل أصحابها لتلقى العلاج.. شىء حضارى ومحترم ويعترف بحقوق الناس الاجتماعية والاقتصادية.. نفس الأمر بالنسبة للقضاء على قوائم انتظار العمليات الجراحية الكبيرة.. تم حل مشكلة عشرات الآلاف.. تتكلف عملية كل واحد منهم مبالغ ضخمة لا يقدرون على تدبيرها.. أحد اليمنيين الطيبين قال لى عندما سألته عن أحواله فى القاهرة «مصر أم الدنيا يا أستاذ.. قيمة الكشف الطبى عندكم خمسة جنيهات فقط»! سألت فعرفت أن كل الأحياء تتضمن مراكز صحية قيمة الكشف فيها خمسة جنيهات، بمعنى أن العلاج مجانى.. منذ سنوات حدثت أزمة فى ألبان الأطفال وأعلن الجيش المصرى أنه سيبدأ فى تصنيعها.. ثارت موجة سخرية وربط بين تناقض معنى القتال مع رضاعة الأطفال وما إلى ذلك من سخافات ثقيلة الظل.. ثم ماذا كانت النتيجة بعد سنوات؟ اختفت الأزمة وأرسلت مصر معونة طبية للولايات المتحدة الأمريكية من إنتاج ذلك المصنع بعد معاناة بعض الولايات من نقص لبن الأطفال.. مطلوب منّا أن نتحلى بالإنصاف، وأن نفكر فى إيجابيات الوضع كما نفكر فى سلبياته، وأن نفكر فيما علينا كما نفكر فيما لنا.. أما من يريد أن يرتدى السواد وينخرط فى اللطم والبكاء فهو حر.. هذا اختياره وليدفع ثمنه.