رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف عيدك يا أمهم؟

الدكتورة آلاء نعيم علي القطراوي شاعرة وقاصة وأكاديمية فلسطينية شابة، حاصلة على الدكتوراه في النقد والأدب العربي. في السابع والعشرين من فبراير عام 2015 كتبت لنفسها تقول: تذكري دائمًا أن لديك حلمًا كبيرًا، وإن ضاقت الأرض وجف الماء وانتهى الهواء، فحلمك الحياة، وما دون ذلك كذبة. آمنت القطراوي بما كتبت وسعت بجد لتحقيقه، فوصلت في عام 2017 إلى مرحلة متقدمة جدًا من مسابقة أمير الشعراء، ثم حصدت جائزة أفضل ديوان شعر للشعراء الشباب العرب من مؤسسة البابطين دورة 2022. 
تزوجت آلاء وأنجبت أربعة أطفال- بل قل أربعة ملائكة- يامن الأكبر 8 سنوات والتوأم كنان وأوركيدا والصغيرة كرمل. وفي أحد الحوارات الصحفية - قبل نحو 5 سنوات - قالت: كثيرًا ما أضحّي في كتابةِ قصيدةٍ ما مقابل ضحكة من شفاه يامن وكنان وأوركيدا، الجمع بين هذين الإحساسين أمرٌ مرهق للغاية ولكنّه لذيذ. وفي منتصف ديسمبر الماضي، حاصر جيش الاحتلال منزل زوجها واعتقله، ضمن حملته المسعورة على غزة. منع المحتل الأطفال من مغادرة بيتهم، ثم قصف عليهم المنزل بعد أسبوع من الحصار. بقى الصغار تحت ركام منزلهم لأكثر من ثلاثة أشهر، إذ ظل الطغاة يمنعون اقتراب ذويهم من البيت الذي صار قبرًا لهم. ورغم شبه اليقين بأنهم قضوا، ظل لدى آلاء الأمل أن يكونوا قد نجوا من القصف جميعًا أو حتى أحدهم. 
بدأت حين عرفت بنبأ حصارهم في نظم قصيدة، وظلت تكتب فيها كلما غلبها الشوق إليهم، فقالت بين ما قالت: حسبي من الله صبرًا أنه الله.. لو كان شرًا فما خطّته يمناه. ثم عادت تقول: حسبي من الله صبرًا أنه ربي.. لو كان شرًا فما أجراه في دربي.  وحين كتبت بيتًا تقول فيه: حسبي من الله صبرًا أنه صمد.. لو كان شرًا فعند الجزع ما صمدوا، ساعتئذ تلقت نبأ قصفهم داخل المنزل. فتيقنت أن لطف الله بها سبق تلقيها نبأ استشهاد فلذات كبدها. وبالفعل تأكدت المخاوف بعد انسحاب الصهاينة من الحي، إذ أعلنت آلاء على حسابها الإلكتروني ليلة عيد الفطر أن جيش الاحتلال قصف المنزل الذي تواجد فيه الأطفال الأربعة منذ شهر ديسمبر الماضي. 
ورغم مصابها الجلل الذي يشبه مأساة الخنساء كتبت على حسابها الشخصي تقول: راضية عنك يا الله. و في إباء فلسطيني عربي قالت آلاء: إذا لمْ يتعب القاتلون من قتلنا؟ فكيفَ نتعبُ نحنُ المقتولين من الشهادة؟ ورغم ما يبدو في نثرها وشعرها من أنها قوية وثابتة وصامدة صارحت متابعيها بقولها: لست قوية، أنا أبكي كل يوم. ولو أنها قالت غير هذا ما صدّقنا لها بيت شعر واحدًا بعد ذلك. فرسول الله صلى الله عليه وسلم بكى فراق ابنه إبراهيم، وقال فيما رواه أنس رضي الله عنه: "إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ". وفي هذا كتبت تقول: يُعزّي مُصابي بأنّ مُصابي مصابُ الرسولْ.. وكلّ مُصابٍ بنا زائلٌ وكلّ مصابٍ بهِ لا يزولْ.                                  
أنشدت خنساء غزة تقول لمعزيها: لا تلوموا دمعَ فقدي، دمعَ فقدي لا تلوموا.. لوعةٌ لو كنت تدري فُتّقتْ منها اللحومُ.. فاسكريْ بالحزنِ كأسيْ ذلك السكرُ يدومُ. ولكنها وبرباط وثبات عرفناه عن كل أهل فلسطين رجالًا ونساء، بل وأطفالًا أيضًا تثبّتنا بقولها: أنا بنت هذه الأرض ومخيمها وترابها وبحرها وشهدائها، فأنا بنت غزة مهما فعل الاحتلال، ومهما سيفعل. ولكنها في ذات الوقت أم ثكلى، تخاطب ابنها كنان ذا السنوات الست قائلة في نثر بديع: لا أستطيع أن أتخيل أنك رأيت عشرات الجنود من الاحتلال حولك، هل حضنت توأمك أوركيدا آنذاك وتحلّقتما حول بعضكما البعض، هل ارتجفت وحيدًا؟ وهل قصفوك وحيدًا أم كنتما تحتضنان بعضكما البعض؟ وعن ابنتها أوركيدا أبكتنا حين قالت: أعطوا شفاهي لها كي تُقبّلها ولوْ قُبلةً باردةْ..  وأعطوا لها رئتي ربّما اختنقتْ دونها.. ربّما ما استطاعتْ مناداةَ اسمي فكان الركامُ ثقيلًا عليها، وكنتُ أحسُّ بها. 

صورت خنساء العصر مأساة غزة تحت الحصار في ليالي الشتاء الباردة بكلمات منثورة تقول: لا معرضَ كتابٍ هنا، لكنْ في كلّ عينٍ شاحبة رواية طويلة، وفي كلّ خصلة شعرٍ عطشى ملايين القصائد، وفي كل كفٍّ أحرقتها نار الحطب في ليل الخيام مسرحيّة مات شكسبير قبل أن يكتبها. وفي موضع آخر تقول: الرعد لا يخيف ولا حتى صوت القصف، إننا نخاف أن نحاولَ المشي فلا نجد قدمًا نسير عليها، أن نحاول إمساك كأس الشاي للإحساس بدفئه فلا نجد يدًا، أن نسندَ ظهورنا بعد تعبٍ طويل فلا نجد جدارًا متينًا، أن نسمع نكتة فلا نضحك، أن نأكل خبزًا ساخنًا فلا نحسّ بطعمه، أن يلفحنا هواء البحر فلا نعشق.
 ثم تناجي ربها الذي ليس لهم سواه بقولها: يا الله عظم البلاء وأنت من ترفعه، واشتد الكرب وأنت من تفرجه، وزاد الهم وأنت من تزيله، وبهتت الوجوه وأنت من تنيرها، واثّاقلت الأقدام وأنت من تُرخيها، وثُكلت النساء وأنت من تصبّر، ويُتّم الأطفال وأنت من تتكفل، وقُطّعت الأطراف وأنت من تتولى، وذابت القلوب وأنت من تحيي، وفُقّدَ المحبون وأنت من تعيد، وتكالب المتكالبون علينا وأنت من تنتقم، هذا ظني بك ولك ما شئت.

في غزة عشرات، بل مئات القصص التي ستكشف عنها الأيام بعد أن  تضع هذه الحرب الهمجية أوزارها، ويعود المشردون إلى ديارهم، فتتكشف المزيد من المآسي حين تصرخ الثكالى، ويئن الأيتام، ويحكي الجميع كيف كانت شوارع غزة في ليالي الشتاء القارس، وكيف صارت بيوتها أطلالًا بعد أن دمرتها آلة الحرب المجنونة. ولكن ما بلغنا من قصة مأساة آلاء القطراوي بفقد صغارها سيكون مثالًا واضحًا لفجر المحتل وقسوته، وستستطيع آلاء بقلمها أن تعبر عن مأساة قومها كلهم شعرًا ونثرًا تعبيرًا يؤرخ لواحدة من أعظم الكوارث التي صنعها بعض من بني البشر قساة القلوب ببشر مثلهم.