رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحشاشون.. والشدة المستنصرية

أول من حدثنا عن الشدة المستنصرية كان المؤرخ والطبيب عبداللطيف البغدادي. ولد في بغداد سنة 557 هجرية، وهو من أصل موصلي. تعلم الرياضيات والكيمياء، ثم رحل إلى دمشق حيث اجتمع بعلمائها، وتفوق على مناظريه في غريب الحديث والعلوم الدينية، ومن دمشق سافر إلى صلاح الدين الأيوبي في عكا، واتصل بالقاضي الفاضل، ومنها سافر إلى مصر، مكث في القاهرة فترة ثم عاد إلى دمشق. وبعد وفاة صلاح الدين، ولما حاول الملك عبدالعزيز أن يفتح دمشق ويستولي عليها وفشل وعاد إلى مصر، عاد معه إلى مصر مرة ثانية، وخلال تلك الفترة كتب فصلين عنها في كتابه "الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر"، وهو الكتاب الذي اتهم فيه المصريين بأنهم أكلوا لحوم البشر.
نقل منه بعض المؤرخين العرب نفس الوقائع التي كتبها دون تمحيص أو تدقيق. تقي الدين أحمد بن على المقريزي (1364- 1442) المؤرخ المعروف صاحب الكتب الشهيرة منها "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والديار"، و"السلوك لمعرفة دول الملوك" و"إغاثة الأمة في كشف الغمة"، والكتاب الأخير يحدثنا عن المجاعات والكوارث التي ألمّت بمصر في عصورها السحيقة. وهو لم يعاصر الوقائع التي كتبها ولكنه نقل عن البغدادي،
كما كتب المؤرخ جمال الدين أبوالمحاسن يوسف بن تغري بردي، المولود في 1408، في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" عن نفس المجاعة، في أخبار سنة سبع وتسعين وخمسمائة‏.‏
الوقائع التي ذكرها عبداللطيف البغدادي لا يمكن تصديقها.
يقول البغدادي: ودخلت سنة 597 مفترسة أسباب الحياة، وقد يئس الناس من زيادة النيل وارتفعت الأسعار، وأقحطت البلاد، وأشعر أهلها البلاء، وهرجوا من خوف الجوع، وانضوى أهل السواد والريف إلى أمهات البلاد، وتجلى كثير منهم إلى الشام والمغرب والحجاز واليمن. ووقع المرض والموتان، واشتد الجوع بالفقراء، حتى أكلوا الميتات والجيف والكلاب والبعر والأرواث، ثم تعدوا ذلك وأكلوا صغار بني آدم، فكثيرا ما يعثر عليهم ومعهم أطفال صغار مشويون أو مطبوخون في أواني. فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل. ورأيت (البغدادي) صغيرا مشويا في قفة، وقد أحضر إلى دار الوالي ومعه رجل وامرأة زعم الناس أنهما أبواه فأمر بإحراقهما. وهو شيء لا يقبله ولا يصدقه عقل.
ولا شك أن رواية البغدادي التي ذكرها عن أكل المصريين للحوم البشر ربما نقلها له أحد، ولم يشاهدها، لأنه يذكر أن المياسير والمساتير من الناس كانوا أيضا يأكلون لحوم الناس لاستطابته، أي أن الأمر عادة ومجرب قبل ذلك، وأنه من الأمور المعتادة أن يأكل أغنياء مصر في ذلك العهد لحوم البشر، وهو أمر يتجافى مع العقل والمنطق، فضلا عما تأنفه ذائقة المصريين. 
لم يذكر مؤرخ أجنبي واحد تلك التفاصيل التي ذكرها البغدادي، والتي كانت من نسج خياله. 
آخر من زار مصر قبل الشدة المستنصرية هو، ولم يذكر لنا البغدادي أي مقدمات عن هذا السلوك العجيب للمصريين الذي دفعهم لالتهام البشر، ولو كانت وقعت بالفعل لتناولتها كتب المؤرخين. 
وقد قرأت كتاب تاريخ البطاركة الطويل الممتد من فترة دخول المسيحية مصر، حتى فترة حكم محمد علي، ولم أجد فيه أي إشارة إلى أن المصريين أكلوا لحوم البشر.. 
وفي شوال عام 580 هجرية (أبريل 1184) زار مصر الرحالة ابن جبير في طريقه للحجاز، وزيارته كانت قبل المجاعة التي ذكرها البغدادي بنحو ستة عشر عاما، لم يذكر ابن جبير شيئا عن القحط أو الجوع. وذكر ابن جبير أن صلاح الدين المظفر بن أيوب من أعجب ما أنفق للغرباء يأخذون جراية الخبز ولا حاجة لهم بها. وأمر بتعيين حمامات لهم يستحمون فيها، وجعل لهم مارستانا (مستشفى) لعلاج من مرض منهم، ووكل بهم أطباء يتفقدون أحوالهم وتحت أيديهم الخدام يأمرونهم بالنظر إلى مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء للغرباء. ولا شك أن حال المصريين كان أحسن بكثير ولا يوجد بينهم من يحتاج إلى جراية من الحاكم صلاح الدين. كما لم يذكر شيئا عن أكل المصريين للحوم البشر.
فهل انقلب حال المصريين فجأة، وحل عليهم البلاء إلى الحد الذي أكلوا فيه البشر؟ وهل أكلها المسلمون الذين حرمت عليهم الميتة من الحيوان ليأكلوا الميتة من البشر؟ 
وهل حدث هذا الانقلاب الخطير في حياتهم ليتحولوا إلى وحوش تأكل بعضها البعض في غيبة من التاريخ؟
المعروف أن أكلة لحوم البشر لا يبرأون منها في زمن قصير، بل تظل ملازمة لهم. فمتى برئ المصريون من تلك العادة، إذا كانت قد وقعت بالفعل؟
وقد تشكك الدكتور جمال حمدان فيما رواه البغدادي، ويرى أن التفاصيل التي يرويها عبداللطيف البغدادي كشاهد عيان مذهلة، ولا يمكن أن يتخيلها من لا يقرأه مباشرة، ولسنا نعلم مبلغ الدقة والصحة فيها تماما.
ظهرت الشدة المستنصرية بكل تفاصيلها في القاهرة لحظة وصول البطل كريم عبدالعزيز للقاهرة للقاء الخليفة، وسلط القائمون على المسلسل الضوء على تواجد الكثيرين داخل شوارع القاهرة لحظة شعورهم بالجوع الشديد ومكوثهم في الشوارع، لتنتقل الأحداث بعد ذلك لوزير الدولة الفاطمية الذي أمر بالاستغناء عن أحد أبواب القصر المرصعة بالذهب ليتم بيعه فيما بعد لإنقاذ بعض المعرضين للجوع. وفي السيناريو تلميحات إلى أن هناك أفظع من ذلك.
والواقع أنه لم يكن موفقا في عرض ما حدث، مستندا إلى أقاويل مؤرخين لا يتسم كلامهم بالدقة أو الحقيقة، وهو بذلك ألصق بالمصريين تهمة لم يفعلوها.