رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل كان حسن الصباح مريضًا عقليًا؟.. التحليل النفسى لزعيم الحشاشين

"حسن عبْد لنفسه".. عمر الخيام في مسلسل الحشاشين


ورد في أحد كتب التاريخ التي تتناول سيرة حسن الصباح، أنه كان مريضًا " بالماليخوليا "، وهو المسمى القديم للكثير من الاضطرابات النفسية والعقلية، وأنه تعرض لما يشبه العلاج النفسي الآن، وتعاطى العقاقير العشبية التي كانت تستخدم كدواء في علاج الاضطرابات النفسية في ذلك الزمان. فيُحكى أنه بعد وصوله إلى أصفهان هربًا من مصر، أقام في بيت أحد أتباع الباطنية، الذي لاحظ على الحسن كثرة حديثه من نفسه بصوت مسموع، وانعزاله الشديد عن كل ما حوله، وزعمه أنه يرى ما لا يراه الآخرون من جن وملائكة، فظن فيه الجنون، وقرر إعطاءه بعض العقاقير التي كانت تستخدم لعلاج الاضطرابات العقلية، وعندما علم الحسن بذلك، ترك بيته وهرب، ولم ينس هذا الموقف لسنوات طوال، حتى أصبح صاحب قلعة ألموت، وذاع صيته، فأتى بهذا الباطني، وسأله "من منا مريض بالماليخوليا الآن؟!"، فسجد الباطني تحت قدميه خوفًا، ما يؤكد تاريخيًا أن الحسن الصباح كان يعاني فعلًا من مرض عقلي، واضطرابات نفسية حادة.
سنحاول هنا أن نقدم تحليلًا نفسيًا عن شخصية "الحسن الصباح" بما توافر من معلومات تاريخية، وكما قدمه مسلسل الحشاشين دراميًا، فالحقيقة أن الحسن يُعد هو النموذج الأهم في تاريخ الجماعات المتطرفة، الذي اُعيد إنتاجه في أغلب أمراء الجهاد، وقادة جماعة الإخوان، وغيرهم الكثير، وبالتحليل النفسي لهذا النموذج، نقدم تحليلًا وافيًا لكل من اختاروا خدمة الظلام، من جماعات إرهابية.
نرجسية حسن الصباح وقتله لابنه الحسين:
الشخص النرجسي هو الشخص الذي لا يرى إلا نفسه، يعبد صورته عن ذاته، ويقدس أفكاره الخاصة، حتى لو أفكار مضللة أو خاطئة، وحسن الصباح تظهر عليه كل أعراض النرجسية بشكل مدهش، فهو مؤمن بأفكاره فقط لا غير، يرفض أي اختلاف أو تعددية، يرى ذاته هو الحق المطلق، لدرجة حولته إلى قاتل محترف، لا يقبل وجود الآخر. وأفضل نموذج على ذلك مشهد الحلم في مسلسل الحشاشين، المقدم بشكل رمزي للغاية، عندما قتل نفسه في الحلم قائلًا: "مفيش إيمان إلا بحسن الصباح"، في هذه اللحظة قتل داخله كل لحظة شك ممكنة في قناعاته، وتوحد مع شخصيته النرجسية المعقدة.
ولم يكن قتله لابنه "حسين" إلا تأكيدًا على هذا المعنى، فهو لم يقتله لذنب اقترفه، أو عقابًا له على قتله لأحد كبار الدعاة، كما ورد في التاريخ والمسلسل، ولكنه قتله حتى لا يرى ذاته مرة أخرى، فهو يرفض أن يواجه ذاته المتمردة مجسدة في شخصية ابنه، كما ورد عنه تاريخيًا أنه قتل ولده الثاني "الهادي" في مرحلة لاحقة لتمرده عليه...فحسن لا يرى إلا انعكاس صورته في الحياة، ويرفض أي صورة مختلفة عنه أو متمردة عليه.
هذا التكوين النرجسي، قد يمنح صاحبه "كاريزما" خاصة، وحضورًا جيدًا بين الناس لفترة طويلة، فصورة الشخص النرجسي تختلط مع الثقة بالنفس أمام الآخرين، لدرجة يصعب معها الفصل بينهما، فيبدو النرجسي وكأنه واثق من نفسه، قوي الشخصية ما قد يثير إعجاب كل من حوله، خاصة أصحاب النفوس الضعيفة، فاقدي التحقق والثقة بالنفس، فيعتبرونه نموذجًا كاملًا يسعون إلى اتباعه وتقليده، إلى أن تأتي اللحظة المدمرة، التي يدمر فيها النرجسي كل من حوله بدم بارد. تلك السمات نجدها بشكل واضح في مختلف قادة ورموز الجماعات المتطرفة، مثل حسن البنا، أو أسامة بن لادن أو أبوبكر البغدادي، وغيرهم الكثير، فجميعهم يعانون من نرجسية تصل إلى حد الضلال.
حسن الصباح ودنيا زاد علاقة زوجية سامة:
علاقة دنيا زاد بحسن الصباح، كما تم طرحه في مسلسل الحشاشين، تعكس حالة غاية في التعقيد من العلاقات الإنسانية، وتكاد تكون هي العلاقة الأهم في المسلسل، من حيث الصراع النفسي، فدنيا زاد، لا تؤمن كما هو واضح بفكر حسن الصباح الباطني المتطرف، ولكنها تؤمن بحسن نفسه، بقدرته على الفعل، مصدقة لطموحه الذي سوف يبتلعها هي شخصيًا مع تطور الأحداث، فهي دائمة الشك في فكره وعقيدته المنحرفة، لدرجة أنها سألته "هو أنت لما تموت مين هيديك مفتاح الجنة؟"، تعرف حقيقته بشكل واضح، ولكنها ضحية عشقها له، ونرجسيته شديدة التأثير، ولم تتمكن من مصارحته بتلك الحقيقة إلى درجة محاولة قتله بالسم، إلا بعد قتله لولدها الكبير "الحسين"، ففي هذه اللحظة فقط تحررت من تلك العلاقة السامة، ومن سطوة حسن وذاتيته.
وكما ورد في التاريخ فإن زوجة حسن كانت مقيمة في قلعة أخرى غير قلعة ألموت، خاصة بعد قتله ولديها الحسين والهادي، فقام بإبعادها عن مكان وجوده، ونفاها عن عالمه الخاص إلى عالم آخر أكثر قسوة، ولم يرها حتى توفي، ما يعكس أن علاقة الحسن بزوجته وأولاده، معتمدة على ذاتيته الشديدة، والاستغلال المبالغ فيه لكل من حوله، وعدم القدرة على العطاء.
سيكوباتية ومتعة في الإيذاء:
حسب نظرية فرويد عن "الأنا الأعلى" و"الهو" والأنا، فإن ما قام به حسن الصباح، وغيره من رموز الجماعات المتطرفة، هو تغليب الـ"هو" أو الهوى والرغبة والغريزة على "الأنا الأعلى " أي المثالية والضمير، ولكن بطريقة غاية في الخطورة، فهم يمارسون تفسيرهم الخاص للدين والقرآن، بما يتسق مع هواهم وذاتيتهم الخاصة، فتتحول تدريجيًا تلك التفسيرات المتعسفة النابعة من الهوى والرغبة، إلى أفكار مطلقة، تسيطر على ضمائرهم، فنجدهم في النهاية يقتلون بلا رحمة، تحت فكرة الحروب المقدسة، وتحويل الهوى إلى إله يُعبد.
فتاريخ حسن الصباح وجماعته، الملىء بالكثير من القتل والاغتيالات، كلها تمت بدم بارد، وبدون لحظة شك واحدة، فتتحول تلك الشخصيات إلى شخصيات "سيكوباتية"، تمارس العنف ضد المجتمع بلا ندم، ويتحول بالتدريج إلى شخصية عدوانية، تجد متعتها في إيذاء العالم من حوله، عدوانية نابعة من خوف دائم وعدم شعور بالأمان، والرغبة الدائمة في العزلة وعدم الثقة في كل من حولهم. فكما كان الصباح في قلعة ألموت، نجد المراكز الرئيسية لأغلب جماعات الموت والإرهاب في الصحراء أو الجبال أو المناطق النائية، ولهذه الفكرة نماذج كثيرة في تاريخ الجماعات المتطرفة قديمًا وحديثًا.
الشخصية السيكوباتية، لا يتوقف عنفها على المختلفين معها فقط، بل ينسحب كذلك على من حولها، فهو عنف مجرد من كل إنسانية ممكنة، مثل قتل حسن لأبنائه، أو تعذيبه مثلًا لتابعه "زيد بن سيحون"، أو قتله لصديقه نظام الملك، كما حدث في الحشاشين، أو تخويفه لكل من يُظهر له أي اختلاف في الرأي أو العقيدة، أو حتى إرساله لشباب في عمر الزهور ليلقوا حتفهم بلا قيمة إلا إرضاء لشخصه المريض، مثل كل العمليات الانتحارية التي تمت في العصر الحديث، في مصر وغيرها، ليروح ضحيتها شهداء لا ذنب لهم، سوى إرضاء دموية خدام الظلام.
هلاوس العظمة وضلالات نفسية:
يرصد لنا مسلسل الحشاشين، وتاريخ الصباح، أنه كان يدعي دائمًا قدرته على التواصل مع عالم الغيبيات، وكان يرى ما لا يراه غيره، ويأتيه العلم باطنيًا، فأحيانًا يدعي أنه أوقف العاصفة، كما روى عن نفسه في بعض ما وصلنا من كتابات تاريخية، وكما ظهر في المسلسل، وأحيانًا يدعي أنه يعلم فنون السحر، وعلم الأرقام، ويُحكى عنه أنه كان يتحدث مع نفسه ويقول إنه يحدث الجان والملائكة، كما وضح مسلسل الحشاشين وعلاقته مع جنية الظلام، وأنه المختار الموكل له أمر الرعية بوصاية من الإمام نزار بن المستنصر.
كل تلك السمات وأكثر، لا تخرج في علم النفس عن كونها أعراض الضلالات النفسية والهلاوس السمعية والبصرية، والتي تعكس مرضًا عقليًا حادًا أصاب حسن الصباح، يصل إلى حد الفصام، ولكن نتيجة لتكوينه النرجسي المعقد، ورغبته الأصيلة في التميز المرضي، وقدرته على اختيار أتباعه من فاقدي الثقة والموهبة، واللعب على مساحات النقص لديهم، مثلما فعل مع حارسه في السجن "بزرك أميد"، الذي استغل إحساسه بالنقص والضعف، ورغبته في الاختلاف، وحوله من حارس في بلاط السلطان، إلى تابع له، وأقنعه كما أقنع غيره أنه يعلم عنهم ما لا يعلمون عن أنفسهم، فاتبعوه.
فحسن الصباح كما غيره من قادة التطرف في التاريخ، تحركه أفكار وسواسية، تسيطر على سلوكه العام، يسعى دائمًا إلى تنفيذها ولو على حساب من حوله، فمريض الوسواس القهري تسيطر عليه مجموعة من الأفكار حتى وإن كانت لا عقلانية، وتتحول إلى لعنة تطارده، لا تهدأ إلا بتنفيذها، فحسن تتحكم فيه أفكار توهم العظمة والتميز، وتكون في غاية الخطورة عندما يتعلق الأمر بالوسواس الديني أو أفكاره عن الدين بشكل منحرف.
فحسن الصباح مزيج معقد من الاضطرابات العقلية، مزيج منحه القدرة على نقل مرضه الداخلي إلى الخارج، ليُضل به أتباعه، ويوصلهم إلى الانتحار تحت مسمى الدين، مثل غيره من قادة التطرف، على مدار التاريخ. وقد تمكن مسلسل الحشاشين من رصد تلك السمات النفسية بامتياز، بداية من الكتابة المتقنة والإخراج عالي الجودة، وصولًا إلى الأداء المميز للنجم كريم عبدالعزيز، الذي انتقده البعض أنه تسبب في ارتباط الناس إيجابًا بحسن الصباح، بسبب أدائه الهادئ، وحضوره العظيم، رغم أن العكس تمامًا هو ما حدث، فهذا الأداء الهادئ ساعدنا على كشف أسرار الشخصية، وعكس تكوين الشخصية السيكوباتية باحتراف شديد، التي تُظهر هدوءًا يصل إلى حد البرود أحيانًا، وتُبطن صراعات لا تنتهي وعوالم خفية من الظلام، فالأداء الهادئ الظاهر لكريم عبدالعزيز، جعلنا ندرك باطن حسن الصباح.