رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وجوه فى الريح

وسيم صلاح حسين وجه من الوجوه التى عاشت فى الريح، وقبل أن تهتدى إلى ما تريده، خطفها الموت. عاش حياة قصيرة نسبيًا لم تزد على ستة وأربعين عامًا بين 1962 و2008. وقد عرفت وسيم دائمًا بقلبى دون أن أمعن النظر إلى شىء آخر. عرفته مفعمًا بالحيوية وحب الناس والشجاعة التى تستهين بكل شىء، وإطلاق الضحكات، وبسمة لا تفارقه تتودد إلى الآخرين وتقول لك: ثق فى الحياة وعشها كما هى، لأنها أقصر من أن نحاول تغييرها. اختطفه الموت فى عشرين يونيو 2008 بحادثة قاسية وغير معتادة فى موسكو، فبدا لى أن يدًا فظة امتدت إلى وجه الحياة فجأة ونزعت منه البسمة إلى الأبد، فأمست الدنيا كئيبة فى صمت. كان فارق السن بينى وبينه- نحو خمسة عشر عامًا- يجعله يقع فى منزلة ما بين صديقى وابنى فى السنوات الطوال التى جمعتنا فى موسكو، فى صقيعها وربيعها. كنت أوقظه بالتليفون فى منتصف الليل، أقول له: «هناك مصرى فى مطار موسكو لا يجد من يستقبله»، فيثب صوته دافئًا ودرجة الحرارة تحت العشرين يصيح: «يا نهار أبيض، طبعًا لازم نروح له». ولم يكن حتى يسأل حتى مَن هذا المصرى الذى سنقطع لأجله فى الفجر والزمهرير مسافة طويلة بسيارته «لادا». يستقبل القادم معى، يحمل حقائبه، ويبقى معه حتى يوفر له مسكنًا وطعامًا، وقبل أن يودعه يغمزه بحفنة روبلات للأيام الأولى. أقول له: «فلان مريض»، فلا ينتبه لاسم المريض، لأن ضميره كان يلتقط فقط كلمة «مريض»، يهبط ويشترى فاكهة وزهورًا ويتجه بها إلى أبعد مستشفى فى موسكو، وحين يعود يضحك قائلًا: «تبين أننى أعرفه»! أنهى فى موسكو ماجستير صحافة، وربطته بروسيا قصة حب فزواج من «ناتاشا»، ثم انفصال، ثم حب من جديد وزواج مرة أخرى. لكن مصر لم تكن تفارقه، ولا لحظة، فى لفظه الكلام، ونكاته، وأحلامه، وفى اعتزازه بأنه سُمى على اسم الضابط «وسيم خالد» الذى شارك فى الكفاح ضد الإنجليز قبل الثورة، واعتزازه بأن والده صلاح حسين الذى استشهد فى كمشيش دفاعًا عن الفلاحين عام 1966. وكان يصيح بصوته الأجش الطيب كلما لاحت فرصة عمل لا يستريح إليها: «لا يا أحمد، ما أقدرش، أنا ابن صلاح حسين»! الشعور بكرامة أسرته، وغضبه فى النقاش السياسى، لم يجفف عنده ينبوع الفرح والضحك. جاءنى مرة يحكى لى أنه تعرف إلى فتاة روسية بالمصادفة عبر الهاتف، واتفق معها أن يلتقى بها تحت ساعة تتوسط ميدان «بوشكين» المعروف. ووصف نفسه لها على أنه طويل وأشقر وذو عينين زرقاوين! وكان فى واقع الأمر قصيرًا أسمر أصلع بدينًا قليلًا. ذهب إلى الموعد وظل يدور حولها دون أن تعيره اهتمامًا أو تهبط ببصرها إليه لأنها تنتظر الطويل الأشقر، حتى ناداها باسمها وصاح غارقًا فى الضحك: «أنا وسيم»! لكن هذا الإنسان المحب للفرح والحياة والصخب كان يبدو إنسانًا آخر تمامًا داخل مظاهرة فى القاهرة تنديدًا بعدوان إسرائيلى أو دفاعًا عن الوحدة الوطنية فى مواجهة الطائفية، وكان وجهه يبدو شعلة من الغضب تتغذى بتاريخ طويل. عاش حياته القصيرة مثل ضحكة على وجه الحياة الجهمة، قلقًا فى الريح بين القاهرة وموسكو، الريح التى تعصف بالبشر بلغتين ومدينتين، وعالمين، وهو فى قلبها لا يفقد نخوته، ولا ضحكته، ولا أمله، إلى أن غفت الريح بالموت المفاجئ من قبل أن يجد نفسه ويحقق أحلامه بالكامل، وبقى وجهًا من الوجوه العزيزة التى تخفق فى الريح، ولا ينقطع أثرها فى القلب والنفس.