رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كبسولة فلسفية| محمد جاد الله يكتب: «الكوجيتو».. الطريق الديكارتى إلى الميتافيزيقا

محمد سيد جاد الله
محمد سيد جاد الله

«كوجيتو» لفظ لاتيني معناه «أنا أفكر» وهو ما أشار إليه ديكارت بقوله: «أنا أفكر إذن أنا موجود» Cogito Ergo Sum. ومعنى هذا القول إثبات وجود النفس من حيث هي موجود مفكّر والبرهنة على وجودها بفعلها الذي هو الفكر، لأن التفكير يفترض الوجود. والسؤال الآن، كيف استقر ديكارت إلى وضع هذا المبدأ؟ وما المقصود بالكوجيتو الذي يُعد بادئة الطريق نحو الميتافيزيقا؟

أراد الفيلسوف الفرنسي «رينيه ديكارت» أن يؤسس فلسفة ذات طابع خاص، أسسها النظر العقلي، من أجل بلوغ اليقين. لذلك اتجه ديكارت وعقد العزم إلى أن يتطهر من جميع الشوائب التي تعوقه من الوصول إلى هدفه، فكانت أول ناصيته هي «الشك» وبدأ بالشك في الحواس واستبعد فيلسوفنا شهادة الحواس، ثم اتجه إلى العقل، واستبعده هو أيضًا من التسليم بأحكامه، وافترض أنه بداخل العقل شيطان ماكر يعبث بالأفكار والقرارات. والسؤال الآن، هل كان طريق الشك ذا فائدة لديكارت؟

بالطبع عزيزي القارئ، كان طريق الشك الذي سلكه ديكارت هو وسيلة لتطهير العقل وتصفيته، وهو ما أكدناه بسلسلة مقالات حملت عنوان «رؤى فلسفية| «رينيه ديكارت».. ومشروعه الفلسفي» حيث حاولنا على مدار سبعة أجزاء، عرض وتفنيد المذهب الديكارتي الذي يُعد من أبلغ وأرقى المذاهب الفلسفية في الوصول إلى المعرفة الحقيقية ذات الطابع العقلي السليم – كما أن طريق الشك هذا هو مبدأ الحقيقة، ومنبه الفلسفة من أخطائها، ويقف العقل عند حده، ويرشده إلى مواطن نقصه. وماذا عن النتيجة؟

«أنا أفكر.. إذن أنا موجود» هذه هي الخطوة الإيجابية الأولى التي خرج بها ديكارت من غابة شكوكه، فالشيء الوحيد المحقق في العالم هو العقل المُفكر. حيث اتخذ ديكارت من شكه بداية إيجابية لا نهاية سلبية، ومن بين جميع آرائه غير المحققة المشكوك فيها وجد حقيقة واحدة ثابته وهي: أنه قادر على التفكير، فالعالم المادي كله بما فيه جسده قد يكون خّداعًا، أما فكره فهو حقيقة مؤكدة. لذلك فإن مبدأه «أنا أفكر، إذن فأنا موجود» هي الحقيقة الراسخة اليقينية. وما هذه إلا أول خطوة تخطوها من طريق الشك إلى نور الفلسفة. وهكذا يؤدي الشك إلى حقيقة واحدة، هي أني موجود.

أي أن ديكارت استخلص من مبدئه هذا نظرية الحقيقة، ومؤداها أن الحقيقة صفة لكل فكرة واضحة متميزة، أعني لكل فكرة لا يمكن أن تختلط بأية فكرة أخرى، كما أن الحقيقة التي اكتشفها ديكارت عن الكوجيتو هي مبدأ غير مشروط لمذهبه الفلسفي من حيث إنها الحقيقة الأولى التي وصل إليها العقل الباحث عن اليقين، وبالتالي فإنها ليست مستمدة من أية معرفة سابقة. فكان اليقين الأول الذي استخرجه ديكارت من الكوجيتو هو وجود النفس، واستقلالها عن البدن.

وفي الختام، نجد صديقي القارئ أن الـ«كوجيتو» ليس استدلالًا حقيقيًا، رغم أن مُنطلقه استدلالي، إذ هو حدس يكشف عن حقيقة أولية لا يتطرق إليها الشك، بل الشك نفسه ضرب من ضروب التفكير وهو بالتالي دليل على وجود الفكر، وهو ما أكده ديكارت في مؤلفه «مقالة الطريقة لحسن قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة في العلوم» بداية الجزء الرابع، قائلًا: «عزمت على أن أتظاهر بأن جميع الأمور التي دخلت عقلي لم تكن أصدق من ضلالات أحلامي. ولكني سرعان ما لاحظت، وأنا أحاول على هذا المنوال أن اعتقد بطلان كل شيء، انه يلزمني ضرورة، أنا صاحب هذا الاعتقاد، أن أكون شيئًا من الأشياء. ولما رأيت أن هذه الحقيقة: «أنا أفكر، إذن أنا موجود» هي من الرسوخ بحيث لا تزعزعها فروض الريبيين (الشكاك)، مهما يكن فيها من شطط، حكمت بأنني أستطيع مطمئنًا أن اتخذها مبدأ أول للفلسفة التي كنت أبحث عنها».