رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

منزلة محمد الشارخ الرفيعة

برحيل المثقف الكويتى الكبير ورجل الأعمال محمد الشارخ الأسبوع الماضى فقدت اللغة العربية أحد حراسها، وفقدت الحركة الثقافية العربية واحدًا من أنقى الوجوه التى دعمت مشروع الحداثة، ليس فقط بسبب ما أنجزه من خلال شركة «صخر» التى أسسها عام ١٩٨٢، ولكن لانحيازه فيما يكتب أو فيما يدعم إلى ما هو جديد ومختلف بعيدًا عن الفكر الغيبى وبعيدًا عن الولاءات السياسية. هو أحد مؤسسى مشروع «كتاب فى جريدة»، بالتنسيق مع اليونسكو فى ١٩٩٧، وأحد ممولى مركز دراسات الوحدة العربية والمنظمة العربية للترجمة، وأيضًا أحد المساهمين فى تأسيس معهد العالم العربى بباريس، ولم يتوقف عن دعم الفنانين التشكيليين وفنانى الخط العربى فى الوطن العربى كله. حصل «الشارخ» على بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية فى جامعة القاهرة سنة ١٩٦٥، وحصل على الماجستير من كلية وليامز الأمريكية، وعمل نائبًا لمدير الصندوق الكويتى للتنمية، وعضوًا فى مجلس إدارة البنك الدولى فى واشنطن، وأسس بنك الكويت الصناعى، كما أسس الشركة العالمية للإلكترونيات فى الكويت والسعودية، واستحق عن جدارة التكريم فى كل المحافل العربية والدولية، وحصل على جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، بسبب جهوده فى مجال العلوم التكنولوجية وخدمة القضايا العربية والإسلامية من خلال هذا الحقل العلمى الحديث، وقيامه بإنتاج أول برنامج حاسوبى للقرآن الكريم وكتب الحديث التسعة باللغة الإنجليزية، وتحديث أرشيف المعلومات الإسلامية الذى يضم، بالإضافة للقرآن الكريم، موسوعة الحديث الشريف، وموسوعة الفقه الإسلامى، وبرامج، وقواعد معلومات إسلامية أخرى، ويضاف إلى ذلك جهوده فى تعريب وإنتاج برامج الكمبيوتر منذ عام ١٩٨٢، ومعجم إلكترونى معاصر للغة العربية، وبرنامج المصحح اللغوى، والنطق الآلى بالعربية الفصحى، والترجمة الآلية، وتطوير نظام إبصار للمكفوفين. وتطويره العديد من البرامج الثقافية، والتعليمية للناشئين. وللرجل أيضًا دور ثقافى بارز من خلال أرشفته المجلات العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر بما يزيد على مليونى صفحة، وإتاحتها للجميع مجانًا على الإنترنت. تعرفت إليه مصادفة فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى، كان يبحث عن صديقه وصديقى الراحل إبراهيم منصور، فدله النادل علىّ، جلس معنا على المقهى وانتقلنا إلى أكثر من مكان، عرفت أنه كاتب القصة الذى نشر أعماله الأولى فى مجلة جاليرى ٦٨ الطليعية، والتى قدمت جيل الستينيات كما ينبغى، وبشرت بالأصوات الناصعة التى أثرت فى الثقافة العربية كلها فيما بعد. تعاملنا معه باعتباره أديبًا كويتيًا فى زيارة للقاهرة، رجل قليل الكلام، مبتسم وودود، حين يتحدث تظهر ثقافته الموسوعية واهتماماته المتنوعة، فيما بعد عرفت أن هذا الرجل هو نفسه الذى بذل عمره فى خدمة اللغة العربية ودعم الثقافة والفنون الرفيعة بشكل عام فى الوطن العربى، وعرفت أيضًا أنه صديق مقرب للأساتذة الكبار أحمد بهاء الدين ويوسف إدريس وإبراهيم أصلان ومحمد البساطى، وسامى خشبة وجمال الغيطانى وآدم حنين وحسن سليمان، وجورج البهجورى وعلاء الديب وجميل شفيق وسمير غريب ومكرم محمد أحمد ومصطفى نبيل وكثيرين غيرهم، وسعدت بالجلوس والسفر مع معظم هؤلاء كثيرًا. ويمتلك الرجل أكبر مجموعة فن تشكيلى لكل فنانى الوطن العربى، هو ليس من أهل اللغة كما قال، ولكنه من المدافعين عن العربية الفصحى الحديثة، وبما أن لغتنا الفصحى لا أب لها، وبحكم قربه من أمور التنمية والتقنية الحديثة وتنقله بين عدد من المناصب الرفيعة ومشاهداته حول العالم، عرف مدى صعوبة التنمية، لا سيما الثقافية منها، تعجب من عدم وجود اهتمام لدى الحكومات العربية بأمور اللغة، أدرك أن الحل لا بد أن يأتى عن طريق التكنولوجيا الحديثة، فبدأ الاستثمار فى شركة لإنتاج ألعاب الأطفال «أتارى»، فيما بعد استعان بالعالم المصرى الكبير الدكتور نبيل على لوضع أسس وقواعد اللغة العربية بطريقة تتيح ميكنتها، فظهر «كمبيوتر صخر»، وفى الوقت نفسه نجحت جهود الشارخ والعالم المصرى فى تضييق الفجوة التكنولوجية بين العرب والغرب. بعد غزو العراق للكويت انتقلت الشركة إلى مصر، وجمع حوله نحو ١٥٠ من خبراء تقنية المعلومات فى مجالات الكلام والترجمة الآلية والبحث والقراءة الآلية والتعليم وإدارة المعلومات، ولكن شركة «مايكروسفت» العالمية غدرت به وبشركته، كان الطرفان قد اتفقا على تعريب نظام التشغيل «ويندوز»، وذهب موظفو «صخر» إلى سياتل للاتفاق على التفاصيل، ولكن الشركة العالمية عرضت عليهم العمل معها، ووافقوا، رفع «الشارخ» قضية، وقبل فى النهاية بتسوية لتأكده أن القضاء الأمريكى لن ينصف عربيًا فى قضية كهذه. منذ ٢٠٠٥ تفرغ صاحب رواية «العائلة» للكتابة ومتابعة تطوير «أرشيف الشارخ»، أصدر مجموعتين قصصيتين ورواية، كتابة كبيرة ومدهشة، تظهر فيها خبراته وثقافته الرفيعة، ولغته الحارة، فى زياراته للقاهرة، والتى كان يلتقى فيها مسئولين ورجال أعمال وعلماء، وبعد أن يفرغ منهم يبحث عن أصدقائه من الفنانين والأدباء ليسهر معهم فى أماكنهم البسيطة فى وسط البلد. كان محبًا للناس وللكتابة الجميلة، ومحبًا لمصر، أما الشارخ الكاتب فهو صاحب طريقة فريدة فى القنص.. وتستحق أعماله إعادة النشر لتتعرف الأجيال الجديدة على صوت نادر ينتمى الى الإنسانية فى أصفى تجلياتها، ألف رحمة ونور على روحه.