رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«سيدات» اليوم الأول من رمضان

أول يوم رمضان- على وجه التحديد- يمثل نافذة يمكن أن تمنحك إطلالة على حال الأسرة، وما تنعم به من ستر أو تعانيه من انكشاف، كذلك كان فى الماضى، وأظن أنه لم يزل فى الحاضر. فلمة العيلة عادة ما تكون فى هذا اليوم، إذ يتوافد الأشقاء والشقيقات إلى البيت الكبير، الذى قد يكون بيت الأب والأم، أو الشقيق الأكبر، أو الأكثر سترًا، يتوافدون قبل دقائق أو لحظات من «دقة المدفع»، ليجتمعوا مع أذان المغرب على مائدة فطور واحدة. قدّم المبدع محمد جلال عبدالقوى تصويرًا بديعًا لهذا المشهد فى الحلقة الأولى من مسلسل «الليل وآخره»، عشنا فيه لمة اليوم الأول من رمضان مع «عيلة المنشاوى»، وقدمها «عبدالقوى» كعائلة ثرية، تتزاحم على مائدتها أصناف الطعام والشراب، وتتعدد الأيدى الممتدة إليها، لكن ثمة وجهًا آخر من الصورة كنت تشاهده لدى الأسرة محدودة الدخل.

مشاهد مختلفة كنت وما زلت تجدها فى حوارى السيدة زينب والقلعة والمغربلين والسيدة عيشة وبولاق أبوالعلا وغيرها، بطلاتها مجموعة من الأمهات من أسر مختلفة يجلسن معًا يفكرن فى تدبير «إفطار اليوم».. إنه أول أيام رمضان، ولا يجب أن تكون مائدته «هفأ» بحال، «الزفر» فى مثل هذا اليوم ليس ترفًا، لكنه «واجب الوقت»، ولكن أنّى لإحداهن به؟.. كلهن مكثن يدبرن لهذا اليوم قبل عدة أسابيع من رمضان، لكن ما تم تدبيره لا يصمد بحال أمام «فرخة رومى» تزين المائدة، أو بطتين سمينتين، أو حتى «فرختين عتقيتين».. فالأسعار نار.. كذلك كنّ يرددن فى أسى أيام الستينيات والسبعينيات.. والأسعار النار فى ذلك الوقت كانت لا تزيد على اثنين من الجنيهات لسلطان المائدة، وسلطان المائدة هو الديك الرومى، فسعر الدجاجة المحترمة كان لا يزيد فى ذلك الوقت على ٢٥ قرشًا «ربع جنيه».

ميزانية اليوم الأول من شهر الصيام لا تقتصر على بند الطعام وفقط، فرمضان يحب شيئين آخرين: أولهما المشروبات المتنوعة، وثانيهما الحلويات.. فبعد يوم صيام طويل يُحرم فيه الجسم من السكر تصبح حاجة الفرد إلى العصائر والحلويات ماسّة. العصائر تتدرج من «العرقسوس» وحتى «الخشاف»، وما بينهما من كركديه وتمر هندى وسوبيا وغير ذلك، والتكلفة هنا لا تتحدد فى ثمن المادة الخام للعصائر وفقط، بل تتعلق أيضًا بالسكر، وما أكثر ما عانى الناس من نقص السكر وقلته على المائدة، فى حين كان يرعى فى أجسادهم مرضًا يهد الحيل.. فى السبعينيات تعددت أزمات السكر بسبب الحرب.. وما أكثر ما اشتكى الناس من صعوبة الحصول عليه قبل الشهر الكريم.. أما الحلويات فهى كما تعلم القطائف والكنافة وأحيانًا البسبوسة.. لم يكن الناس فى عقدى الستينيات والسبعينيات يعرفون الكنافة بالمانجة وبالشيكولاتة وبالأصناف التى نسمع عنها اليوم.. فى الأحياء الفقيرة من مصر المحروسة كانت تنتشر نصبات تصنيع الكنافة والقطائف، يلتف حولها الأطفال، يسرحون بخيالهم الخصب فى هذه الخيوط الرفيعة حين تتجمع فى صينية، ويرش عليها السمن البلدى «الطبيعى» المعتبر، أو حتى السمن الهولندى «الصناعى»، ثم توضع على «باجور»، يبدأ فى تسويتها وجهًا وجهًا على مهل، ما إن يستوى وجه حتى تقلبها الأم على الوجه الثانى، بعدها تنزل الصينية من فوق عرش النار، ليصب عليها السكر المعقود بالليمون، وتفوح منها أزكى رائحة لم تغادر بعد خياشيم الأطفال الذين عاشوا هذه اللحظات داخل حوارى وأزقة ودروب المحروسة، خلال تلك الأيام.

فى الأحياء الفقيرة فى الستينيات والسبعينيات كانت الأمهات أكثر من يحملن همّ اليوم الأول من شهر الصوم. كانت كل مسكينة منهن ترتب وتدبر لهذا اليوم بكل طاقتها، لكى تصنع لأسرتها أو أقاربها مائدة يسعدون بما تراص عليها من طعام وشراب وحلوى. حين أتذكر معاناة الأمهات فى الأحياء الفقيرة قديمًا مع المواسم، والهَم الذى كن يحملنه من أجل تدبير متطلباتها، أفكر فى مقولة «لو كان الفقر رجلًا لقتلته»، وأسأل: هل الفقر رجل فعلًا؟ التجربة تقول إن الفقر فى بلادنا امرأة.. فالمرأة هى التى تحمل الهم الأكبر فى تدبير أمور أسرتها، خصوصًا فى البيئات الفقيرة، ليس فى المواسم، مثل رمضان والعيد الأكبر، فقط، بل وحتى حين تصادف الأسرة حدثًا سعيدًا، مثل زواج البنات، أو إنجاب الأحفاد وغير ذلك.. مؤخرًا كشف تقرير حقوقى عن أن هناك ٣٠ ألف امرأة غارمة يقبعن فى السجون، وربما كان عدد الغارمات أكبر من ذلك بكثير.. فالأم تجازف بالتوقيع على بياض حتى تدبر لابنتها احتياجات تجهيزها، وتتحمل عقوبة ذلك، حين تعجز عن السداد.

اليوم الأول من رمضان كان وسيظل نافذة انكشاف.. ذلك ما عشناه فى الستينيات والسبعينيات داخل أحياء مصر الشعبية، العريقة أصلًا، والتى كانت فقيرة على مستوى المعطيات والقدرات، حين كان يهل الشهر الكريم على الأسر الفقيرة، وما كان أكثرها حينذاك، فيؤدى إلى انكشافها.. نعم عدد الوجبات فى رمضان كان يقل وجبة، والأصل فى الشهر الكريم هو الصيام، إلا أن الإنفاق المطلوب على الطعام كان يزيد وليس يقل. العزومات كانت أحد الأسباب المفسرة لهذه الزيادة، يضاف إلى ذلك نوعية الطعام.. فالناس تميل فى رمضان إلى الجيد من المأكولات لسببين: الأول يتمثل فى الاستقواء به على ساعات الصيام الطويلة، والثانى يتحدد فى المباهاة فى «العزومات»، ووسط الجيران والأحباء.. ولعلك تتفق معى أن لعبة «الفشخرة» من أكثر الألعاب المحببة إلى المصريين.

الفقر امرأة.. يشهد على ذلك اليوم الأول من شهر رمضان من كل عام.. كما أن جمال الحياة فى رمضان يتجلى فى صورة امرأة.. كما أن بهجة البيوت فى الشهر الكريم منبعها امرأة حنون تهب رياح حنانها ورحمتها على من حولها، كما يهب النسيم العليل على حياة البشر، فينعشها.