رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زيارة جديدة للخديو إسماعيل (٢)

أنا من الذين يؤمنون أن قراءة الماضي هى أسرع طريق نحو المستقبل، وإننا في حاجة لإعادة قراءة التاريخ المصري بعيدًا عن العواطف أولًا وبعيدًا عن النظرة الشعبوية ثانيًا، وربما بعيدًا أيضًا عن تدخلات جماعة الإخوان الإرهابية في صياغة مناهج التاريخ المصري، وهى تدخلات بدأت منذ عام ١٩٥٢ ولم يوقفها الصدام بين الثورة والإخوان، وكانت تتستر خلف عداء نظام يوليو السياسي للدول الغربية كدول هيمنة استعمارية لتبث عداءها للحضارة الإنسانية وللانفتاح علي العالم كطريق للتقدم، رغم أن بين الاثنين فارقًا كبيرًا، بشكل عام تعرض الخديو إسماعيل (١٨٣٠- ١٨٩٥) لتشويه مضاعف لعدة أسباب، السبب الأول أننا حكمنا علي تاريخ أسرة محمد علي وفق ممارسات أضعف وآخر حكامها الملك فاروق (١٩٢٠-١٩٦٥) والثاني أن الخديو إسماعيل اعتبر مسئولًا عن الأزمة المالية المصرية ثم الاحتلال الأجنبي لمصر في كتابات عدد من الإنجليز أشهرهم لورد كرومر الذي جاء لمصر مندوبًا لبريطانيا لمراقبة المالية المصرية، لكن الحقيقة أن إسماعيل كان لقمة يصعب علي الغرب ابتلاعها، وأنه كان على يقين من قدرة مصر علي سداد ديونها، وأنه رفض التدخلات الغربية في الشأن المصري، فتآمرت الدول الغربية علي خلعه، وتعيين نجله الخديو توفيق الذي تسببت استكانته للأجانب في إثارة الحزب الوطني بشقيه المدني والعسكري، ما أدى للاحتلال، أما إذا كان ثمة مسئولية للخديو إسماعيل عن الاحتلال فهو أنه أطلق إمكانات مصر الكامنة في سنوات قليلة جدًا، ما جعلها مطمعًا للاستعمار البريطاني الذي استعمر عشرات الدول غير مصر، وبالتأكيد لم يكن في كل هذه الدول الخديو إسماعيل! لكن الرجل الذي أرسل الجيوش لفتح إفريقيا أثار لعاب البريطانيين الذين سعوا لاحتلال السودان وأوغندا وكينيا وعدة دول إفريقية لم يكن العالم يعرف عنها شيئًا قبل بعثات إسماعيل باشا لاكتشاف منابع النيل، من دروس التاريخ التي يكرر فيها نفسه أن كثيرًا من المعارضين الذين يبدون في ثياب براقة كثيرًا ما تحركهم المنافع والأهداف السياسية المباشرة، ولعل هذا حال أشهر يعقوب صنوع أشهر صحفي عصر إسماعيل والذي أصدر عدة صحف لمعارضته استنادًا لإقدام إسماعيل على فتح المجال العام، حيث تقول كتب التاريخ دون مواربة إن «صنوع» كان أحد رجال الأمير حليم بن محمد علي،عم إسماعيل ومنافسه الأول على حكم مصر والذي اضطر لمغادرة مصر بعد محاولة لاغتيال إسماعيل ثبت تورطه فيها.. أما مصدر المعارضة الثاني فهو تنظيم أصولي متطرف رأى فيما يفعله إسماعيل خطرًا علي الإسلام وكان قادته على اتصال بالسلطان العثماني الذي كان يشعر بالغيرة من إسماعيل ويرسل السفراء إلى الدول الأوروبية التي يزورها ليتأكد من أنه لا يحظى بمعاملة بروتوكولية تفوق تلك التي يحظى بها السلطان العثماني نفسه، لست في حاجة لتعديد إنجازات إسماعيل في مجال حفر الترع ومضاعفة الأراضي الزراعية وتأسيس المدن الجديدة..فتفصيلات هذا موجودة في كتاب عصر إسماعيل للمؤرخ عبدالرحمن الرافعي، ولكني اختم بالصفحات الأخيرة من كتاب جديد للكاتب الفرنسي روبير سوليه هو كتاب «إسماعيل باشا» الذي صدرت ترجمته في بيروت ٢٠٢٢ ورغم أن المؤلف غير متعاطف مع إسماعيل بشكل عام، إلا أنه يقتبس جزءًا من مذكرات الخديو عباس حلمي الثاني حفيد إسماعيل، وحاكم مصر الوطني يقول فيها «يلام الخديو إسماعيل علي تبذيره وحبه للأبهة، ولكن ما هما هاتان الصفتان إذا ما قورنتا بعظمة ما قام به من أعمال كثيرة ومتنوعة، من إعادة تنظيم الأشغال العامة، وتشجيع الزراعة، وإصلاح القضاء، ومساهمته في إنجاز قناة السويس، وسياسته الدولية المسالمة؟، لقد أقام في مصر مئة ألف أوروبي وحملوا إليها-الي جانب شهيتهم الواسعة لتحقيق الثروات- أساليب حديثة ومبادئ للتقدم، صحيح أن هذا العمل أدى لسيطرة القوي الأجنبية علي المالية المصرية، لكن ذلك ليس إلا ثمنًا مؤقتًا للازدهار المنشود، إسماعيل زرع بذورًا، وترك خلفه شيئًا غير الديون، فقد أصبحت مصر أمة)!... لابد أن نقرأ تاريخنا مرة أخري إذا أردنا أن نسير للأمام..وكل عام أنتم بخير