رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كاد المُعَلِّم...!

تربيت مُنذ الصغر، ككل أبناء جيلي، والأجيال السابقة؛ وجانب كبير من الأجيال اللاحقة، وما زِلت وَزَالَتْ، على احترام شخص "المُعَلِّم"، أو "الأستاذ"، والنظر إليه بعين التقدير والتبجيل، وتثمين دوره في نشر العلم والفهم والمعرفة، والتبشير بالخُلق الرفيع، وتربية النشء على القيم الراقية والخِصال الحميدة، أينما حطَّت رِكابه. 
وفي كل مراحل التعليم التي مررنا بها، كان للمُعَلِّم مكانة مرموقة، وهيبة مُقَدَّرة، واحترام بالغ لدى أغلبية فئات المجتمع وطبقاته، التي ظلت- في مجموعها- حريصة على نيل ما تستطيع من علوم ومعارف، باعتبارها، في المقام الأول، الوسيلة المُحترمة للترقِّي الاجتماعي، والسبيل المشروع للتقدُّم المدني.
وقد ظلت علاقات التلمذة والرغبة في التعلُّم والمعرفة من جهتي، والحنو وحُسن العطاء العلمي والتوجيه المُخلص من جهتهم، لسنوات طويلة حتى بعد تَخَرُّجي من الجامعة، واستمر الاتصال بالعديد منهم إلى أن وافاهم الأجل، فتركوا شعورًا بالفقد في وجداني، لما كانوا يُجسدونه من قيمٍ نبيلة، ومعرفة غزيرة، وتجردٍ، وأخلاقٍ فاضلة، تفانوا في تقديمها لأبناء الوطن كأصحاب الرسالات السامية، واستحقوا معها ـ بالفعل ـ أن يكونوا أرفع تجسيد لوصية "أمير الشعراء"، "أحمد شوقي":
"قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا
كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي
يَبني وَيُنشِئُ أَنفُسًا وَعُقولا"

هذه السطور وإن طالت، مُقدمة ضرورية لكي نلج فى الموضوع الذي أحسبه خطيرًا، والخاص بظروف وأوضاع وقيم وسلوك نفرٍ من المُنتسبين ـ زورًا ـ لفئة المُعلمين في الفترة الراهنة، ورغم كونهم قلة معدودة  إلّا أن الأمر جلل، يستحق بالغ العناية وأعلى مراحل الاهتمام، ذلك أن شأن المُعَلِّم، هو ومسيرته، ليست بالأمر التافه، بل شأن من شئون الأمن القومي في أعمق مُقوماته، وكيف لا وهو القائم على تربية وإعداد أجيال بعد أجيال من الناشئة والشباب، الذين يُمثلون نحو ثلثي تعداد السُكَّان، وعلى صحة تنشئتهم تنبني عزة الوطن ومستقبله وازدهار مكانته!

فقد نشرت جريدة "الأهرام" على مدار يومين (23 و24 فبراير) ما نصه أن: "الأجهزة الأمنية بمديرية أمن الدقهلية، كشفت عن ملابسات العثور على جثة طالب (16 سنة)، مقطوعة  نصفين داخل جوال من البلاستيك على جانب أحد المصارف المائية، وتبين أن وراء ارتكاب الواقعة (مُدرس) فيزياء، كان الطالب يتلقى عنده درسًا خصوصيًا، وذلك بسبب طمع المدرس فى أموال أسرة الطالب الثريّة، فقرَّر خطفه واحتجازه لمُساومة والده لطلب فدية، ولكنه خشى من اكتشاف أمره فقرر قتله والتخلُّص من الجثة!".
واستعان المُجرم المتزوج حديثًا، بمعاونة نجّار على صلة قرابة منه، لتمزيق جسد الطالب بواسطة مُنشار، وإلقائه بعدة أماكن مُتفرقة!
***
وبغض النظر عن تفاصيل الجريمة المُقَزِّزَة، التي اعترف بها القاتل، والتي يجب أن يرتّج لها المُجتمع كله، وفي مُقدمته كل الجهات المعنية، وعلى رأسها "وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني"، لخطورتها في حد ذاتها من جهة، ولدلالتها الأخطر من جهة أخرى، فهي "جريمة دالة" تثير العديد من التساؤلات، وتطرح العديد من القضايا الحسّاسة، يجب أن ينشغل المُجتمع بدرس أبعادها، وتفهمها، والبحث عن دواء لمعضلاتها، قبل أن تستفحل وتُصبح عصيّة على العلاج.

ـ فهذه الجريمة البشعة، التي لا تمت بصلة لعَالم العِلم والأخلاق تعكس- في المقام الأول- اختلال فادح في منظومة القيم الحاكمة، والموجهة لهذا (الأستاذ) التي تَجَرَّدَ فيها من كل العناصر التي تُميز ملايين عديدة من مُدرسي مصر الأجلاء، المُنتشرين في شتى بقاعها، والذين يؤدون واجبهم على الوجه المُمكن، وبعضهم يؤدي واجبه كاملًا في ظروف صعبة، لم تدفعه لارتكاب الجريمة، وإنما حفزته على العمل المخلص والعطاء النافع.
فما هي الأسباب الحقيقية الدافعة لهذا السلوك الإجرامي الشاذ؟ وكيف نواجهها ونضع حدًا لها قبل أن تتجاوز قدرتنا على المواجهة؟

ـ وهذه الجريمة تعكس أزمة المؤسسة التعليمية المُمتدة، وعدم قدرة منظومة "المدرسة"، في أغلب صفوفها، عن أداء دورها على الوجه الأكمل، الأمر الذي يدفع التلميذ إلى اللجوء للدروس الخصوصية بعيدًا عنها، مما يُشكِّل عبئًا ـ ماديًا ـ كبيرًا على الأسرة والمُجتمع، وينعكس سلبًا على العلاقة "الطُهرانية" المُتَصَوَّرة بين التلميذ كـ"طالب علم"، والأستاذ كـ"مُربٍ وصاحب رسالة"، بانتقالها إلى علاقة بين "محتاج لخدمة" و"مُتقاضٍ لثمنها"، الأمر الذي يُفقدها الكثير من رمزيتها ووضعيتها الاعتبارية المُفترضة!

ـ وتُشير هذه الجريمة، وهذا أمر مُهم للغاية، إلى أحد أهم عناصرها، ودوافعها الأساسية: عُنصر الأزمة الاقتصادية المُستفحلة والتي يشعر بها الجميع.

فـهذا (المُدرس) المتزوج حديثًا، والمُحمَّل بأعباء كبيرة في ظل التضخم وارتفاع الأسعار بشكل خرافي، وخاصةً مع تفشي "النزوع الاستهلاكي" المُدمر، والذي يحمله إلينا "توسونامي الإعلانات" الذي ينهمر ليل نهار، من شاشات التليفزيون، وصفحات الجرائد، والتليفونات المحمولة، وإعلانات الشوارع،... إلخ، وكشخصٍ غير مؤَهِل لاحتمال الأزمات بصبر والتفاعل معها بحكمة، والحد من آثارها السلبية بفضيلة "الاستغناء" عن الكثير من الضرورات، كما يفعل ملايين من المصريين النُبلاء، فقد لجأ المُجرم إلى ما ظنه "الحل الأمثل" لأزمته، باعترافه إنه ارتكب جريمته الشنعاء، والتي مَزَّقَ فيها جسد الضحية البريئة إلى ثلاثة أجزاء: "للمرور بضائقة مالية وتراكم الديون عليه، وبسبب علمه بثراء والده"!!
وهو أمر على درجة بالغة من الخطورة، ويتطلَّب من كل أجهزة الدولة إدراك حرج الأزمة الاقتصادية وعُمقها، والتي تؤدي إلى تراكمات غير مأمونة العواقب، إن لم تجد حلًا ناجعًا ومنظورًا!
***
هذه وغيرها من العناصر المُفسِّرة لدوافع جريمة (أستاذ) الدقهلية المُزيَّف وجريمته الشنعاء، يجب أن تلقى الاهتمام الواجب، من المراكز البحثية؛ والوزارات التنفيذية، والمؤسسات التعليمية، والأحزاب السياسية، والمراجع الدينية، والهيئات الإعلامية، وغيرها من الجهات المسئولة، لقطع دابر المرض قبل أن يتحول إلى ورمٍ زاحف، لا قِبل للمجتمع على تحمُّل مردوداته القاتلة!